باستر كيتون هو واحد من كبار السينمائيين في مجال التمثيل والإخراج في تاريخ السينما، ومع شارلي شابلن يعد من أعظم نجوم الكوميديا، بل إن البعض مثل المخرج الإسباني لويس بونويل والمخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني والسرياليين الفرنسيين يضعوه في المرتبة الأولى، عبقري الكوميديا وأكثر نجومها أصالة في تاريخ السينما الأمريكية.
أفلامه التي حققها في فترة السينما الصامتة، أي في الفترة بين عامي 1920 و1928 تظل حتى الآن حية وقوية ومحركة للمشاعر ومضحكة على نحو مدهش، إنها الفترة الذهبية في مسيرة باستر كيتون والتي انتهت مع قدوم عصر الصوت بنهاية عقد العشرينيات من القرن الماضي.
ولد باستر كيتون عام 1895، ومنذ أن بلغ الثالثة من عمره شارك والديه في تقديم الفقرات الهزلية والألعاب الأكروباتية في عروض مسرحية متنقلة، اتجه كيتون إلى السينما وقدم بين عامي 1920 و1923 العديد من أروع الأفلام الكوميدية القصيرة، وفي عام 1923 تحول إلى الأفلام الطويلة وما بين عامي 1923 و1928 قدم كيتون مجموعة أفلام تعد من تحف السينما الخالدة في فن الكوميديا، حيث بلغ ذروة إبداعه في الأفلام التي كتبها ومثل فيها وشارك في إخراجها مثل كرم ضيافتنا 1923، الملاح 1924، شيرلوك الصغير 1924، سبع فرص 1925، الجنرال 1926، القارب البخارى بيل الصغير 1928، المصور 1928.
من المعروف أن وجه باستر كيتون لا يعرف الابتسام مطلقًا، وهو الوجه الملقب بـ”الوجه الحجري العظيم”، إنه المضحك الأكثر حزنًا على الإطلاق في كل تاريخ المهرجين.
أول ركن من أركان شخصية كيتون الهزلية هو الفضول الدائم، الواقع بالنسبة له بمثابة آلة معقدة تشتغل بطرق غامضة وهو يعمل محاولاً فهم كيفية عمل هذه الآلة، إذا لم يكن وجه كيتون يبتسم فهذا عائد لشدة انشغاله واستغراقه في التفكير كعالم يبحث في إثبات نظرية، كطفل شارد ذاهل في عالم الكبار، هو متردد كليًا، ويبدو مع ذلك كامل العزم.
“سيزيف الهزلي” كما أسماه دانيل مويز ( أتى بطلنا من اللامكان) هكذا يقول تعليق في فيلمه الكوميدى القصير اللافتة العالية 1920، لم يكن ذاهبًا إلى أي مكان وقد انطلق من مكان ما مشوشًا بعقبات لا نهاية لها، باستر هو صنوك البطيء، متوسط التفكير، يبحث عن منطق خفي في عالم غير منطقي، إنها الصورة الجوهرية للنضال الذكي من أجل البقاء.
إن إنجاز فيلم فكاهي كما قال كيتون مثل تجميع ساعة يد، لا بد أن تكون رابط الجأش لكي تجعلها تدق، والشخصيات التي يمثلها كيتون تعيش غالبًا في عالم عدائي تفتقر فيه إلى الأمان وكل شيء ضدها: السلطة، الآخرين، الأشياء، عناصر الطبيعة، إنها تناضل من أجل أن تظل عاقلة فحسب في ظل أحداث يتعذر فهمها.
تبدو الكثير من الحركات العنيفة والبهلوانية الخطيرة التي يؤديها كيتون في أفلامه كما لو أنها حيل فنية أو خدع بصرية، لكنها في الواقع ليست كذلك، فقد كان كيتون يمثل تلك المشاهد الخطيرة بنفسه دون الاستعانة ببديل لإضفاء طابع الواقعية والصدق على تلك المشاهد
ثمة كابوسية في كل كوميديات كيتون المضحكة يعبر من خلالها عن رؤية مخيفة للعالم، شخصياته ليست بطولية على الإطلاق، لا مظهرها ولا إمكاناتها ولا طموحاتها توحي بأننا أمام بطل فعلي، غير أن الضغوطات التي تواجهها والمواقف المفروضة عليها تدفعها لأن تكون بطلة رغمًا عنها.
تبدو الكثير من الحركات العنيفة والبهلوانية الخطيرة التي يؤديها كيتون في أفلامه كما لو أنها حيل فنية أو خدع بصرية، لكنها في الواقع ليست كذلك، فقد كان كيتون يمثل تلك المشاهد الخطيرة بنفسه دون الاستعانة ببديل لإضفاء طابع الواقعية والصدق على تلك المشاهد، مستفيدًا من قدراته الرياضية العالية ومرونة ورشاقة جسده، ومن ميراثه الأكروباتي منذ أن كان طفلاً يعمل مع والديه، لذا هو يحافظ على هدوئه في مواجهة كل الكوارث الطبيعية والبشرية معًا.
في فيلمه سبع فرص 1925، وهو يروي حكاية شاب يبذل محاولاته للحصول على ميراثه من عمه على شرط الزواج خلال 24 ساعة، وعندما ينشر إعلان في الصحف لطلب عروسة يجد كيتون نفسه مطاردًا عبر تلال كاليفورنيا الجنوبية من المئات من الفتيات اللاتي تريد كل منهن أن تكون العروس المنتظرة، وتنتهي المطاردة بواحدة من أكثر النكات البصرية إثارة وخطرًا في أفلام كيتون، حيث يجد نفسه مضطرًا للعبور أسفل أحد التلال بينما تتساقط فوقه كتل الصخور الضخمة والتي يصل عددها إلى 1500 قطعة من الصخور مختلفة الأحجام، وهو المشهد الذى يعتمد على قدرة كيتون وموهبته في الارتجال كممثل ومخرج في آن واحد.
كان فيلم “القارب البخاري بيل الصغير” 1928 آخر أفلام كيتون التي أنتجها بنفسه، كما كان واحدًا من أجمل أفلامه، حيث تعتمد الحبكة على عقدة كيتون التقليدية، حيث نرى شابًا خجولاً رقيقًا يعود من دراسته في الكلية إلى حيث يسكن أبوه في عوامة على نهر المسيسيبي ليقع في حب أحد خصوم أبيه، مما يؤدى إلى إحداث الفوضى والاضطراب بين العائلتين، وينتهى الفيلم بإعصار ضخم يهب على المدينة، ويكون أحد المشاهد الختامية أشهر المشاهد الخطرة تمثيلاً في تاريخ السينما. ففي قلب العاصفة تتهاوى واجهة المنزل فوق البطل لكنه ينجو لأنه كان يقف بالصدفة في الموقع الذى وقعت فيه النافذة المفتوحة التي مر إطارها بجوار رأسه وجسده على بعد بوصات قليلة، وقال كيتون عن هذا المشهد لأحد الصحفيين: “إنه مشهد لا يمكنك أن تنفذه إلا مرة واحدة، فإنك لا تفعل مثل هذه الأشياء مرتين”.
يبدو واضحًا لنا اليوم أن أعظم ممثلي السينما الكوميدية كانا شارلى شابلن وباستر كيتون، لكن كيتون كان أكثر تفوقًا في الإخراج
انتهت الفترة الذهبية للعبقرى باستر كيتون مع نهاية العشرينيات وذهب في أدراج النسيان لفترة طويلة إلى أن تم إعادة اكتشاف أفلامه مرة أخرى وإدراك أهميتها في تاريخ السينما مع نهاية عقد الخمسينيات وبداية عقد الستينيات، ليمثل كيتون فيلمًا قصيرًا في أواخر حياته حمل العنوان التجريدى “فيلم” وهو من كتابة الكاتب المسرحى الأيرلندى الشهير صمويل بيكيت والذى كان معجبًا منذ شبابه بفن كيتون.
يبدو واضحًا لنا اليوم أن أعظم ممثلي السينما الكوميدية كانا شارلى شابلن وباستر كيتون، لكن كيتون كان أكثر تفوقًا في الإخراج، ومثل شابلن أيضًا كان كيتون يعرف أن الكوميديا العظيمة موجودة دائمًا على حافة التراجيديا.