كانت ليلة من ليالي الخريف الباردة ولكن ذلك لم يمنع سكان مدينة إدمنتون الكندية من الخروج للسهر والاستمتاع ببعض الموسيقى وكرة القدم الأمريكية، لم يتوقعوا أبدًا أن وحشًا بشكل إنسان كان يستعد لارتكاب مجزرة بحق مدنيين ذنبهم الوحيد حبهم للحياة. في ليلة الأحد الأول من أكتوبر 2017، أصيب 5 أشخاص بينهم شرطي إثر حادثين إرهابيين، حيث اقتحم رجل من أصل صومالي يقود سيارة حواجز للشرطة ودهس شرطيًا خلال أدائه خدمته، ثم خرج من السيارة وطعن الشرطي مرارًا قبل أن يلوذ بالفرار، وقبيل منتصف الليل، وبعد التعرف عليه عند أحد الحواجز، نجح المجرم بالهرب على متن شاحنة لنقل البضائع دهس بواسطتها عددًا من المارة في أحد الشوارع المكتظة والحيوية لمدينة إدمنتون (شارع جاسبر)، مما أدى لإصابة أربعة أشخاص، بحسب ما أعلنت الشرطة، وقد ألقي القبض عليه بعد فقدانه السيطرة على شاحنته.
الدهس والسكين.. أسلحة رخيصة لكنها فتاكة
بعد الاطلاع على المعطيات الأولية المتوفرة، لا بد من التطرق إلى دلالات هذه العملية الإرهابية التي لا تختلف كثيرًا عن سابقاتها خاصة تلك التي ضربت مدنًا أوروبية كباريس ونيس وبرشلونة ولندن، ولئن لم يتبن تنظيم الدولة الهجوم إلى حد الآن فقد عثر على علمه في السيارة التي استخدمها المهاجم في طعن الشرطي. وعلاوة على ذلك، فإن مثل هذه التكتيكات الهجومية تحمل بصمة تنظيم الدولة، ففي تسجيل صوتي يعود إلى سنة 2014 موجه للمتعاطفين مع التنظيم، يقول أبو محمد العدناني: “إذا لم تنجح في إلقاء قنبلة أو فشلت في فتح النار على مشرك، فيمكنك طعنه بسكين أو ضربه بالحجر أو سحقه بسيارة”.
لقد بات هذا الأسلوب الأكثر مرونة وسهولة في تنفيذ الأهداف والأقل تكلفة، إذ لا يتطلب إلا عربة يتم قيادتها بسرعة جنونية بالإضافة إلى سكين لقتل الأبرياء بطريقة بشعة ومرعبة، وبمجرد إلقاء نظرة على العدد الثاني من مجلة “رومي”، فإننا سندرك كيف يوصي التنظيم ذئابه المنفردة في الغرب باستخدام السلاح الأبيض والدهس في عملياتهم الانتقامية القادمة، ولعل السر في ذلك يكمن في سهولة ومرونة الوسيلتين، فباستعمال سلاح رخيص يمكن إلحاق الضرر بأكبر عدد ممكن من الضحايا. ويشير مصطلح “الذئاب المنفردة” إلى تكتيك تستخدمه الجماعات المسلحة عندما يضيق الخناق عليها نظرًا لقوة الدول ويقظة أجهزتها الأمنية، حيث يقوم أشخاص بهجمات بشكل منفرد دون أن تربطهم أي علاقة عضوية أو أفقية واضحة بتنظيم ما، وتمثل “الذئاب المنفردة” معضلة وتحديًا مقلقًا لأجهزة الأمن العالمية وذلك لكونها خلايا منعزلة يصعب رصدها.
رمزية الهجوم والتوقيت
إن القيمة الرمزية للأهداف والتوقيت هي ما يميز الإرهاب عن الأشكال الأخرى للعنف، كما يسعى الإرهاب لخلق أثر نفسي على العدو بدلاً من هدم قدرته المادية أو العسكرية، فعلى سبيل المثال، أثبتت هجمات 11 سبتمبر 2001 رمزية الهدف، فمن خلال استهداف برجي مركز التجارة الدولية بمنهاتن، أراد تنظيم القاعدة تمرير رفضه وتحديه للحضارة الغربية والإمبريالية الأمريكية. وعلى نحو مماثل، كان الهجوم على متحف باردو التاريخي في قلب العاصمة التونسية عام 2015 بمثابة صفعة موجعة لنموذج الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، وعلاوة على الأضرار الاقتصادية التي خلفها هذا الهجوم خاصة على القطاع السياحي، فإن عملية باردو تكتسي رمزية كبيرة، فقد نفذت بأقدم وأعرق متحف في تونس، وبالإضافة إلى ذلك فهو يقع بجانب قصر باردو الذي يوجد به البرلمان التونسي، ولا يعتبر الاعتداء على المتحف الوطني مجرد اعتداء مباشر على أحد رموز سيادة الدولة التونسية، وإنما اعتداء على التاريخ والذاكرة الوطنية لشعب كامل.
يرجح أن مرتكب الهجوم قام بفعلته الشنيعة كرد فعل على مشاركة كندا في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم داعش خاصة أن الأخير تكبد خسائر فادحة وتقلصت مناطق نفوذه بعد الانتصارات والتقدم الذي أحرزه الجيش العراقي والقوات الكردية
أما تاريخ الهجوم الإرهابي في مدينة نيس الفرنسية فإنه لم يكن محض صدفة، فقد كان لاختيار يوم الباستيل أو اليوم الوطني الفرنسي (14 جويلية) دلالات رمزية تتشابه مع نهج التنظيمات الإرهابية في تنفيذ الهجمات خلال المناسبات القومية أو الدينية (دهس حشد شعبي في سوق مزدحمة لأعياد الميلاد وسط برلين في 2016) والاحتفالات العامة، فيما يمكن اعتباره استهدافًا لرموز وأركان نموذج الدولة الوطنية. وبصورة أعمق، كان ذلك استهدافًا لرمزية النموذج العلماني الفرنسي الذي يقوم على فصل الدين عن الممارسات السياسية، وهو ما تعتبره العديد من التيارات الدينية النقيض الكامل لأطروحاتها العقائدية.
وبالعودة للمعطيات المتوفرة عما حدث في مدينة إدمنتون، تجدر الإشارة إلى أن الهجوم تزامن مع مباراة لكرة القدم الأمريكية تجمع فريق إدمنتون إسكيمو وبلو بومبر من مقاطعة وينيباغ، وقد تخلل المباراة حفل عسكري كان الهدف منه دعم أفراد القوات المسلحة الكندية وتكريم أسر الجنود والعسكريين. ويرجح أن مرتكب الهجوم قام بفعلته الشنيعة كرد فعل على مشاركة كندا في التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ضد تنظيم داعش خاصة أن الأخير تكبد خسائر فادحة وتقلصت مناطق نفوذه بعد الانتصارات والتقدم الذي أحرزه الجيش العراقي والقوات الكردية.
التداعيات المحتملة لهذا الهجوم على الجالية المسلمة
من المحتمل أن يكون لهذا الهجوم العديد من التداعيات المختلفة، فعلى مستوى التعامل مع اللاجئين والأقليات المسلمة في كندا، قد نشهد تنامي موجات الإسلاموفوبيا خاصة مع تصاعد حركات اليمين البديل التي تتبنى أفكارًا عنصرية ونازية علنية، وقد يصل التوتر إلى حد عمليات انتقامية وهو ما قد يحوّل حياة الملايين من المسلمين إلى جحيم. وعلاوة على ذلك، قد يدفع هذا الهجوم الحكومة الفيدرالية لمراجعة سياساتها المتعلقة بالهجرة وتشديد الإجراءات ضد المهاجرين من دول إسلامية خاصة أن مرتكب هذه الجريمة حاصل على اللجوء، أما على مستوى الإجراءات الأمنية، فقد نشهد حملات لمراقبة المساجد والأئمة الذين لا يتوانون عن نشر خطاب الكراهية والتطرف بين الشباب المسلم، بالإضافة إلى تمرير قوانين قد تمس وتقلص من الحريات العامة بتعلة محاربة الإرهاب.
قبل نصف قرن خاضت “حنا أرندت” جدلًا استثنائيًا بشأن مفهوم “تفاهة الشر” بعد تغطتيها لمحكامة إيخمان القائد النازي الذي لعب دورًا كبيرًا في ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال إبان الحرب العالمية الثانية، لقد لاحظت أرندت أن إيخمان ليس إنسانًا مدبّرًا أو إنسانًا رتّب لتلك الجرائم التي قام بها، إنّه شخص تافه وعاديّ وشرّه أتفه منه
ولا يخفى على أحد أن صورة المسلمين في الغرب قد تشوهت بسبب انضمام شباب كثير لتنظيم داعش وارتكابهم لأعمال شنيعة ودموية مما زاد من ترسخ الصورة النمطية التي تربط دينهم بالعنف والإرهاب. ومن أجل وضع حد لهذا النزيف، لا بد لجميع الأطراف بما في ذلك الجمعيات الإسلامية والمساجد والسلطات المحلية والمدارس والمجتمع المدني العمل جنبًا إلى جنب لكسر شوكة التطرف في صفوف الشبان المنساقين إليه، ولا بد من التركيز على تعليم قيم الديمقراطية والحرية واحترام القانون بالإضافة إلى تبني مقاربات اجتماعية واقتصادية لمعالجة ظاهرة الإرهاب لأن الحل الأمني وحده لا يكفي.
قبل نصف قرن خاضت “حنا أرندت” جدلًا استثنائيًا بشأن مفهوم “تفاهة الشر” بعد تغطتيها لمحكامة إيخمان القائد النازي الذي لعب دورًا كبيرًا في ترحيل اليهود إلى معسكرات الاعتقال إبان الحرب العالمية الثانية، لقد لاحظت أرندت أن إيخمان ليس إنسانًا مدبّرًا أو إنسانًا رتّب لتلك الجرائم التي قام بها، إنّه شخص تافه وعاديّ وشرّه أتفه منه. إن نفس هذا التوصيف ينطبق تمامًا على منفذ الهجمة الإرهابية في إدمنتون، فهو أيضًا شخص تافه تخلّى عن شرطه الإنساني من حيث التفكير والتدبر وانساق وراء أيديولوجيا جعلته شخصًا سطحيًا مسلوب الضمير لا يميز بين الخير والشر، فهل يمكننا في النهاية محاكمة هذا الإرهابي عن كل جرائم داعش؟ شخصيا لا أعتقد ذلك، لأنه مجرد فرد تافه مصيره مزبلة التاريخ ولكن الطرف الأهم الذي يجب أن يحاكم هو الفكر الداعشي برمته.