أمتار قليلة تلك التي تفصل بين الموت والحياة، بين أكثر من مليوني و300 ألف إنسان، ينهش الجوع أجسادهم، فيتساقطون كأوراق الشجر، وبين عالم مواز، مفعم بالحياة والخيرات، لا تنقصه التخمة، يربطهما أسوار خرسانية مدعمة بأسلاك شائكة، من ورائها جنود يفعلون ما يؤمرون، يراقبون بأم أعينهم تلك المعركة غير المتكافئة بين المتشبثين بالحياة وأسلحة الجوع والموت الفتاكة.
على مساحة لا تتجاوز 55 كم هي إجمالي مدينة رفح الفلسطينية، حيث يتكدس كل 24 فلسطيني في متر مربع واحد، يتشاركون الجوع والعطش، يتقاذفون الصراخ والعويل الذي يخفت تارة ويعلو أخرى حسب حالة كل فرد منهم، بعدما حولهم سرطان التجويع إلى أشباه هياكل عظمية، ليخفت الصوت ويذبل الوجه وتصفر الأعين وترتخي الأطراف.
وعلى مرمى البصر منهم، حيث مسافة لا تتجاوز 100 متر فقط على أقصى تقدير، تلك التي تفصل بين رفح المصرية والفلسطينية، تتكدس أكثر من ألفي شاحنة مساعدات في الجانب المصري (وفق صور تناقلتها وسائل الإعلام)، حاملة بداخلها طوق النجاة لتلك الأجساد المنهكة.
الناس في شمال #غزة يموتون جوعا؛ ونشاهد احتضارهم على الهواء مباشرة؛ هذه أكبر مهانة يتعرض لها عالمنا.
عجزت دولنا أن ترسل المساعدات برا، فلماذا لا تُنسّق جهدا جماعيا لإلقاء المساعدات جوا؟ ولماذا لا نرى سفنا محملة تنطلق بحرا؟ يقولون: إسرائيل لن تسمح، ويكتفون بالصمت المهين… pic.twitter.com/4WaqJcxUyc
— W.Khanfar وضاح خنفر (@khanfarw) February 26, 2024
مسافة لا تساوي في حساب الجغرافيا سنتميترات قليلة، تحول بين الحياة والموت، فبينما يزلزل صراخ الجوعى أرض رفح الفلسطينية وسمائها، ينتظر المصريون الضوء الأخضر من الإسرائيليين لتقديم طوق النجاة لجيرانهم الذي يمارس المحتل بحقهم أقذر حرب تجويع في التاريخ الحديث، بهدف تركيعهم وإذلالهم ولو على حساب حياتهم، في مفارقة ربما تؤجج إيلام الجوع وتعمقه بألم الحسرة بعد خذلان الأشقاء وأولاد العم والجميع لهم.
كارثة إنسانية محققة
تتزايد الأوضاع الإنسانية ترديًا في قطاع غزة في المجمل بصورة تنذر بكارثة محققة، فالأمور على وشك الانفلات بعدما صار الحصول على وجبة واحدة في اليوم ترفًا لا يُمنح للكثيرين، فيما أضطر الغالبية العظمى إلى أعلاف الحيوانات (الذرة الجافة والشعير) لسد رمق أطفالهم بعدما نفذ الطعام وجفت الضروع.
فيلم إبادة جماعية يعرض بالصوت والصورة على الهواء مباشرة أمام الجميع، فمشاهد الفلسطينيين وهم يسبقون خيالهم لهثا خلف شاحنات المساعدات الشحيحة التي تدخل القطاع، وتعريض حياتهم للخطر، وسقوط بعضهم ثمنًا لتلك المغامرة، تجاوزت في تصويرها وملامحها وإخراجها ودقتها تلك التي تُعرض في هوليود، بل لو دخلت سباق “كان” وغيرها لاستحقت “الأوسكار” عن جدارة.
"إسرائيل تستخدم الجوع سلاحا في الحرب".. الوضع الإنساني الكارثي في #غزة يدفع المؤسسات الأممية إلى دق ناقوس الخطر من مجاعة شديدة
تقرير: يزن ريماوي pic.twitter.com/2WrgnooBbV
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) February 25, 2024
من لم يمت بالقتل مات بالجوع.. هذا هو العنوان الأبرز الذي يستظل به كل سكان القطاع بلا استثناء، فلا مكان آمن، ولا منطقة هادئة، ولا شارع واحد منزه عن الاستهداف، حتى تلك الأماكن التي ادعى الاحتلال أنها آمنة وطالب بالنزوح إليها، كانت صواريخه ومسيراته وقاذفاته في انتظار النازحين، في حفل استقبال دموي على مرأى ومسمع من المجتمع الدولي الذي يتابع تلك التراجيديا من مقاعد المتفرجين.
ووفق ما أشارت إليه نتائج فحوصات المنظمات الغذائية التابعة للأمم المتحدة فإن غالبية أطفال غزة التي تتراوح أعمارهم بين 6 – 59 شهرًا يواجهون سوء التغذية الحاد، ما يعني أن حياتهم باتت على المحك، فيما وصل سوء التغذية الحاد العام إلى 16.2% ( إن لم تكن واقعيا أكبر من ذلك بكثير) وهي نسبة تتخطى العتبة الحرجة التي تحددها منظمة الصحة العالمية عند 15%.
"إلي خاطر أربط حجر على خصري مع الجوع، إلي 3 أيام ما ماكل شي".. شاب فلسطيني من الشمال يصرخ ألماً من جوعه.#غزة_تموت_جوعاً pic.twitter.com/dBkqWcJQ69
— نون بوست (@NoonPost) February 25, 2024
ومنذ 26 يناير/كانون الثاني 2024، يواجه القطاع حرب تجويع ممنهجة، عقب وقف الولايات المتحدة دعمها المقدم لوكالة “الأونروا” ولحقت بها 16 دولة أخرى، بدعوى اتهام 12 من موظفي الوكالة بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليفقد الفلسطينيون مصدر دعمهم الأول والوحيد منذ الحرب، حيث كانت تتكفل الوكالة بتقديم الغذاء والدواء والكساء لأكثر من 5 مليون لاجئ في فلسطين ولبنان وسوريا.
وأمام توقف عمل الوكالة، الذي جاء بضغوط من الكيانات الصهيونية الداعمة للاحتلال في معظم العواصم الغربية، وخذلان المجتمع العربي والإسلامي رغم ما يمتلكه من مقومات وثروات ونفوذ، لم يتبق أمام سكان القطاع سوى جيرانهم الأقرب لهم تاريخيًا وثقافيًا وجغرافيًا، لتتجه الأعين والألسنة والأرواح صوب معبر رفح، الرئة الوحيدة المتبقية أمام أكثر من مليوني إنسان لإبقائهم على قيد الحياة بعدما أطبق الاحتلال قبضته من كافة الجهات.
لكن الصدمة كانت أكبر من القدرة على استيعابها، فبينما كان يتوقع الجميع أن تنتفض مصر، إن لم يكن من باب العلاقات التاريخية المشتركة بين الشعبين والمسئولية المصرية إزاء جيرانها والأمن القومي المستباح من قبل الاحتلال، فعلى الأقل من باب الإنسانية التي تُنحر على أعتاب مدينة رفح دون ثمن.
مبررات لم تعد مقنعة
يتذرع النظام المصري منذ اليوم الأول للحرب بأن “إسرائيل” هي من تعرقل إدخال المساعدات، محاولًا دفع الاتهامات والانتقادات التي يتعرض لها ليل نهار بشأن تخاذله عن لهفة أهل القطاع وإنقاذهم من الموت المحقق جوعًا، وهي المبررات التي ما عادت مقنعة للكثيرين خاصة بعدما فضح زيفها حلفاء النظام من الإسرائيليين والأمريكيين.
البداية كانت على لسان عضو فريق الدفاع عن “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية، كريستوفر ستاكر، في مرافعته أمام المحكمة في 12 يناير/كانون الثاني الماضي، ردًا على دعوى جنوب إفريقيا باتهام الاحتلال بارتكاب جرائم إبادة ضد قطاع غزة، حين قال: “دخول غزة من مصر تحت سيطرة مصر، وإسرائيل ليست ملزمة بموجب القانون الدولي أن تتيح الوصول إلى غزة من أراضيها”.
ثم تعزز الاتهام بما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن في 8 فبراير/شباط الجاري حين قال خلال مؤتمر صحفي عقده في البيت الأبيض إن رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي لم يرغب في فتح معبر رفح للسماح بدخول المواد الإنسانية إلى قطاع غزة وهو من أقنعه بفتحه.
الكثير من المؤشرات تكرس حالة الخذلان تلك التي باتت عليها الوضعية المصرية إزاء تلك الكارثة التي تواجه شعبًا أعزلا لا يفصل بينهما سوى بضعة أمتار قليلة، ففي مثل تلك الأوقات العصيبة التي تُذبح فيها الإنسانية أمام الجميع يكون البحث عن منافذ إنقاذ عاجلة مسألة إنسانية ملحة، لا تخضع لأي حسابات أو اعتبارات أو مقاربات سياسية كانت أو اقتصادية أو أمنية.
بايدن يتهم السيسي برفض فتح معبر رفح لإدخال المساعدات إلى غـ، ـزة #مزيد pic.twitter.com/YIt6hZGUMa
— مزيد – Mazid (@MazidNews) February 9, 2024
لكن المشهد على الحدود المصرية الفلسطينية قمة العار والخزي، فمناشدات الأطفال من أمام السور الخرساني الفاصل بين رفح المصرية والفلسطينية لا تتوقف، والحديث بين المحاصرين في القطاع والجنود المصريين المتواجدين في أبراج المراقبة والذي تتناقله منصات التواصل الاجتماعي حديث يُدمي القلب ويُبكي العين ويحرك الحجر قبل الأفئدة.
وبدلا من البحث عن آلية لإغاثة هؤلاء، وفق اعتبارات إنسانية بحتة، إذ بالسلطات المصرية تعمق المأساة بسد كافة الثغرات التي كانت في السور الخرساني الفاصل بين الجانبين، وتقوم بتعليته، وتغلق الباب نهائيًا أمام أي محاولات يستدر بها أطفال غزة دعم ومساعدة جنود المراقبة على الجانب المصري، خشية أن يولد ذلك العشرات من شاكلة الجندي “محمد صلاح” الذي قتل عددًا من جنود الاحتلال قبل عدة أشهر بعد استفزازهم له.
خذلان مع سبق الإصرار
لو افترضنا جدلًا صدق الادعاء المصري بأن الجانب الإسرائيلي هو من يعرقل إدخال المساعدات، فإن تصريحات الفريق القانوني الإسرائيلي لدى محكمة العدل الدولية ومن بعدها تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن، كفيلة بأن تجبر القاهرة على فتح المعبر على مدار 24 ساعة وإدخال كافة أنواع المساعدات وإحراج تل أبيب وواشنطن معًا أمام المجتمع الدولي إذا ما تعرض لشاحنات المساعدات، لكن الاكتفاء ببيانات دعائية للرد على تلك الاتهامات دون خطوة فعلية تبرئ فيها مصر ساحتها أمام نفسها قبل الفلسطينيين، مسألة تثير الكثير من الجدل وتحول شكوك التواطؤ في حرب الإبادة المشينة ضد قطاع غزة إلى يقين مطلق لا يقبل الريبة.
ومما يدفع باتجاه تحويل تلك الشكوك إلى يقين عدم استخدام الجانب المصري لأوراق الضغط التي يملكها والتي يمكنها أن تقلب المعادلة، إذا ما توفرت الإرادة لدى السلطات المصرية، أبرزها: التهديد بتجميد معاهدة السلام وقطع العلاقات الدبلوماسية مع الاحتلال، تعزيز الوجود العسكري المصري على الشريط الحدودي بما يمثل ردعًا للكيان المحتل، ووضع جميع التشكيلات على أهبة الاستعداد، تزامنًا مع التحذير من تداعيات شن عملية في رفح.
ومن أهمها كذلك فتح معبر رفح وإدخال المساعدات لسكان القطاع، وهو المطلب الذي طالما نادى به الكثيرون، تجميد الاتفاقيات الاقتصادية مع حكومة الاحتلال والتلويح باستخدام ورقة قناة السويس، ثم فتح المجال أمام الشارع للتظاهر وتشكيل رأي عام مصري قوي يمكنه أن يشكل ضغطًا على “إسرائيل” وحلفائها في المنطقة، خاصة أنه سيكون بداية لحراك عربي شعبي قادر على خلق مزاج إقليمي داعم للمزاج الشعبي الدولي المندد بجرائم الاحتلال والمؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني.
"الشعب المصري بعنينا بس السيسي عار علينا"..
نشطاء يتظاهرون أمام السفارة المصرية في لبنان للمطالبة بفتح معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية pic.twitter.com/QEN5UYBUDH
— شبكة رصد (@RassdNewsN) February 22, 2024
وهنا تساؤل يطرح نفسه على الجميع: إن لم يكن هذا تخاذلًا فأين التخاذل إذًا؟ وإن لم تُحرك صراخات الأطفال والنساء من الجوع والعطش والخوف ضمائر قادة مصر فما الذي يمكن أن يحركها؟ وهل طغت المقاربات السياسية والأمنية على كافة الاعتبارات الإنسانية بهذه الطريقة الوحشية؟ تساؤلات تُلجم ألسنة المصريين قبل العرب والمسلمين، في مشهد يرسخ لحالة انبطاح وخنوع استثنائية، فاقت في قبحها كل محطات التاريخ الحديث والمعاصر لدولة كان يُنظر لها قديمًا كـ “أخ” أكبر للعروبة.
كان العرب قديمًا، حتى أيام الجاهلية، يتسمون بالمروءة والشرف ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف، ووثقت كتب التاريخ عشرات المواقف التي رسًخت فيها جاهلية العرب بنايات شاهقة من الرجولة والأنفة والكبرياء، ثم جاء الإسلام ليعزز تلك المرؤة بأخلاقيات الدين وتعاليمه التي تحث على التكافل والتعاضد واعتبار المسلمين جميعهم كـ “جسد واحد إذا ما اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى”.. لكن ما نراه اليوم أمر شاذ في مجمله عن أخلاق الإنسان عمومًا والعربي والمسلم خصوصًا.
وربما يختم المرء بأبيات قيلت قبل عقود، لكنها ذات معنى مكثّف اليوم، للشاعر والدبلوماسي السوري الراحل عمر أبو ريشة:
أمتي كم غصة دامية ** خنقت نجوى علاكِ في فمي
اسمعي نوح الحزانىْ واطربي ** وانظري دمع اليتامى وابسمي
ودعي القادة في أهوائها ** تتفانى في خسيس المغنم
رب وامعتصماه انطلقت ** ملء أفواه البنات اليُتّم
لامست أسماعهم، لكنها ** لم تلامس نخوة المعتصم
– عمر أبو ريشة، شاعر سوري