نعدّ الشهداء ونعاين الموت جوعًا ونصر على التفاؤل بأن حرب الطوفان ستكون حربًا مؤسسة لعصر عربي جديد. نرى الصمود لخمسة أشهر نصرًا كاملًا، بالنظر إلى فارق التسليح والدعم العسكري والمالي والغذائي.
التحليل العسكري ليس تخصصنا، لكن مثل كل متابع متعاطف لم نكن نتصور حربًا بهذا الصمود الأسطوري في مواجهة هذه القوة التدميرية، لا نكرر هنا تمجيد المقاومة الصامدة بل سنتخيل وبكثير من التفاؤل ما قد ينتج عن هذه الحرب، وعسى أن يصير تفاؤلنا واقعًا معيشًا لأجيال ستأتي بعدنا وتلومنا على عدم المشاركة، لكنها قد تغفر لنا بقدر ما كنا نرى الصواب.
حرب ضد العالم
من باب التذكير بحقيقة ساطعة نقول: إن العالم يخوض حربًا ضد غزة وهي تصمد وتنتصر، ونجد في متابعتنا لمجريات الميدان الغزاوي أن العدو الواضح بكل سلاحه أقل إيلامًا للمقاومة وحاضنتها من العدو الكامن خلفه يدفعه دفعًا نحو المزيد من التقتيل والتجويع والتهجير، وأعني بالتحديد النظام الرسمي العربي.
حرب ضد العالم ولم نكن نتوقع أبدًا نجدة من الغرب، فهو مع العدو رغم شعوبه المختلفة في الموقف، لكن اكتشفنا جوهر النظام العربي بعد أوهام كثيرة وتبريرات سياسية كنا نستهلكها لكي لا نرى الحقيقة.
لقد كنا نعلم عن التطبيع العلني والسري والتخابر مع الكيان العدو، لكن لم يبلغ في علمنا أن نرى النظام الرسمي العربي يغذي العدو بأفضل الأغذية من مزارعه، لكي يستقوي على غزة وأطفالها الجياع. لم يعد لفظ التطبيع بعد حرب الطوفان كافيًا للتعبير عن الحالة، ووجب استبداله بالخيانة العظمى التي لا مراء فيها ولا غطاء لها، فالنظام الرسمي العربي يقاتل مع الكيان والسبب صار واضحًا لدينا.
النظام الرسمي العربي جزء من الكيان وليس ملحقًا له أو خادمًا من خدامه، ومن هذه الزاوية تأخذ حرب الطوفان وجهها ومعناها الحقيقي. إن النجدة التي يقدمها له هي وسيلته الباقية للدفاع عن وجوده، كنظام وأفراد مستفيدين من وضع يحمون فيه مصالحهم بخدمتهم للعدو، إنهم يحمون أنفسهم من غزة ومن احتمال توسعها ولو بعد حين، إنهم أول من فهم رمزية الطوفان.
المستقبل يولد في غزة
نسمع الطفل الفلسطيني يبكي من الجوع ويقول لا تحولوني إلى كائن خارق أنا طفل جائع فقط. والحقيقة أن صرخته موجعة وصورته عن نفسه واقعية، لكنه من جوعه لم يدرك مثلما لم يدرك آخرون من شبعهم أبعاد حرب الطوفان التي يخوضها الطفل بأمعائه الخاوية. لقد هزم العدو بجوعه، وتلك مساهمة كافية لمن في عمره.
إن ما نعاينه من اضطراب العدو في الداخل وما نراه من خسائر عسكرية على أرض المعركة وما نتابعه من تعاطف دولي مع حق الطفل الجائع في غزة وأهله من حوله، يجعلنا نرى هزيمة العدو الذي لم يقهر منذ نشأ أو غرس بالقوة وسقي من الدم الفلسطيني، فقد تهشمت سمعة العدو وسمعة جيشه وتهشمت معنوياته ولا نراها قابلة للترميم مهما كان حجم الدعم الذي تلقاه وسيتلقاه بغاية الترميم.
إن بعض خساراته التي لن تعوض هي فضيحة النظام الرسمي العربي، فضيحة غير قابلة للستر ولو مدحها المتنبي وأبو تمام مجتمعين في قصيدة واحدة. نقول والأنظمة لا تزال على كراسيها لقد سقط النظام الرسمي العربي سقوطًا نهائيًا، ولن يجد وسيلة لترميم صورته إلا بالمزيد من قمع مواطنيه وهو الأمر الذي سيزيد في خساراته الداخلية.
نحن ورغم الألم في غزة نضحك ساخرين من الذين أنفقوا 70 عامًا يتحدثون عن التوازن الإستراتيجي مع العدو وتجنيد الفيالق لتحرير القدس السليبة، فقد كانت هذه الخطابات كفيلة بتنويم شعوب كاملة في انتظار المعركة وآخر المنومين شعب تونس الذي منح ثقته في الصندوق الانتخابي لكلمة التطبيع خيانة عظمى، كلمة واحدة كانت كافية لتنويم شعب بأكمله، لكن هذا زمن ولى، لقد حدثت حرب الطوفان وعرفنا المطبعين من المقاومين وانتهت الخديعة باسم فلسطين. لقد حارب الفلسطيني وحده وانتصر على النظام الرسمي العربي قبل انتصاره على الكيان العدو، ومن هنا سيبدأ أثر الطوفان.
من يستثمر في النصر؟
حتى اللحظة الساحات العربية مقسومة بين شعب متألم عاجز عن النصرة ونظام خائن مطبع، الخائن المطبع يملك السلطة ويغلق المعابر وقنوات النجدة، لكن لا نرى هذا الوضع قابلًا للاستمرار بلا نهاية، بل نحن نعاين ارتفاع وتيرة القمع والاستعداد لجرائم قمع حريات بنسق أعلى خشية الاستثمار في نصر غزة.
لم يقم المؤمنون بغزة حتى الآن بالربط علنًا بين نصر غزة ومعركة تحرر في الأقطار، أي نقل معركة الطوفان إلى طوفان حريّة عربي، توجد حالة ارتباك ناتجة عن قمع الربيع العربي لم يفلح كثيرون من الخروج من صدمتها، لكن نسمع أصواتًا عالية رغم ذلك نحن نقمع في بلداننا من أجل سلامة “إسرائيل”، قأنظمتنا قتلنا وتقتلنا في الطرقات لتعيش “إسرائيل” وتنتصر.
لم تكن هذه الصورة أوضح مما هي عليه الآن في أذهان غالبية شعبية كبيرة على طول الوطن وعرضه، فهل سيضيع كل هذا الوضوح ولا يجد له مكانًا في جملة سياسية عند حزب عربي أو جمهور عربي ينفجر فجأة في الطرقات.
إذا ضاع كل هذا الوضوح فإن الدم الفلسطيني لم يقرأ ولم يفهم، كأنه يقول للنظام الرسمي العربي افعل بشعبك ما بدا لك فهو ليس أهلًا للتاريخ المنتصر وسيحمل الطفل الفلسطيني جوعه وحده ويسير نحو قدره بجهده وقد يذهب في غضبه وخيبته إلى رسم خريطة للعالم ليس فيها إلا جهاده وجوعه وسلاحه، ويحق له حينها ألا يقبل إلا صورته عن نفسه بطل جائع وشهيد حي، لكننا سنظل نمسك بخيط الأمل، لقد أسست حرب الطوفان لشعب عربي جديد نتوقع وجوده ونعجز عن تخيل زمن انفجاره تمامًا كالبراكين العظيمة، وحينها تكون حرب الطوفان قد بلغت ذروتها وأسست.