اختار عبد الرحمن منيف اسم بادية الظلمات للجزء الأخير من خماسية مدن الملح، وهذا الجزء يعتبر الوجه الآخر من الجزء الرابع الذي كان يحمل اسم المنبت، والذي تناول فيه حياة السلطان المخلوع خزعل في المنفى، ورأينا فيه أيضًا أثر الانقلاب الذي حدث في السلطنة على الحكيم “صبحي المحملجي”.
أقول إن هذا الجزء يعتبر الوجه الآخر للجزء الذي يسبقه، لأنه تناول في قطاع كبير منه نفس المرحلة الزمنية التي تناولها الجزء الرابع ولكن من داخل السلطنة.
فالضوء هنا تسلط على شخصية فنر، ذلك الأمير الصموت، ضعيف البنية، معتل الصحة، الحاد الذكاء، الذي تربى على يد عميل إنجليزي علمه مبادئ الميكيافيلية على أحسن وجه، والتي تشربها فنر وجعلها دستوره في الحياة، والأمير فنر هذا كان يتوقع كما توقع الجميع أنه سيخلف أباه، إلا أن أباه قضى على كل أماله بعد أن نصب خزعل المشهود له بعدم الكفاءة وليًا للعهد، ثم سلطانًا من بعده، فنر لم يهدأ حتى قام بانقلاب على أخيه السلطان خزعل، وارتقى عرش الدولة الهديبية – هكذا أسموها على اسم جدهم – بقوة الدبابة.
ويسرد لنا الكاتب الطرق التي اتبعها فنر للإيقاع بين الأمراء المؤيدين لخزعل، وتصفية من أحس في موقفه شيئًا من الصلابة، ثم الرعب والخوف الذي نشره في أرجاء السلطنة، لكي يقبض على مقاليد الأمور بيد من حديد، وعندما اطمأن إلى سيطرته على السلطنة، قامت ثورة في بلد مجاور له أطاحت بنظام الحكم الاستبداي فيها، الأمر الذي أفزعه جدًا، وقلب حساباته رأسًا على عقب، وعلى الفور أحس أن أي نجاح سيحرزه النظام الذي جاءت به الثورة كهزيمة شخصية له، لأنه سيشكل حافزًا لشعب المملكة الهديبية، بتقليدهم والقيام بثورة مشابهة عليهم.
من أهم المشاهد التي تعرفك إلى أي درجة من الانحطاط وصلت هذة الدولة، مشهد استخدام الطيران في الحرب وكم الدمار الذي لحق بالمدنيين
لذلك أعلن عداءه للنظام الجديد، وظن أن إعلان الحرب على هذه الدولة سيحقق له أكثر من هدف، فهو أولاً: سيثبت فشل هذه الثورة وعدم جدوى القيام بها، الأمر الذي سيجهض أي فكرة ثورية تجول في خاطر شعبه، وثانيًا: سيوحد شعبه على قلب رجل واحد بإيجاد أي عدو يهدد حياته واستقراره، ثالثًا: سيجعل الناس تتأكد من قدراته كقائد عسكري لا يشق له غبار، وبالفعل أعلن حربًا مجنونة، ارتكبت فيها أبشع المجازر وأحط الجرائم.
ومن أهم المشاهد التي تعرفك إلى أي درجة من الانحطاط وصلت هذه الدولة، مشهد استخدام الطيران في الحرب وكم الدمار الذي لحق بالمدنيين، وعندما شك السلطان في ولاء الطيارين العرب، لأنهم كانوا لا ينفذون المجازر المجنونة غير المبررة التي يأمرهم بها قادتهم، استعان بطيارين أجانب، واستجاب لكل الطلبات التي طلبوها، ولم يتورع أن يعمل لهم قوادًا عندما طلبوا ذلك. استمرت هذة الحرب العبثية سنوات استنفدت خلالها أموالاً طائلة لو كانت وجهت لتنمية الدولة، لانتقلت إلى مصاف الدول الرائدة في المنطقة، وانتهت هذه الحرب إلى لا شيء، اللهم إلا إراقة دماء البسطاء وإهدار أموالهم.
أظهر لنا هذا الكاتب حجم الفساد والنهب الذي يقوم به الأمراء في السلطنة، من خلال تركيزه على شخصية رجل الأعمال غزوان، الابن الأكبر للحكيم، والذي تلقى تعليمه في أمريكا، وأدرك مبكرًا أن القرار الأخير في الدولة الهديبية يأتي من أمريكا لا من العاصمة موران، ونجح في أن يفصل بينه وبين والده المغضوب عليه من نظام فنر، واستطاع أن يكون ثورة مهولة من دفع الرشاوى للأمراء، ومشاركتهم بسرية في صفقات السلاح وتمهيد الطرق وتوريد كل السلع الاستراتيجية.
أنهى المنيف مجموعته الرائعة، على مشهد اغتيال السلطان فنر على يد أحد الأمراء الصغار، دون أن يوضح من الفاعل ولا ما الدافع، وكأنه يقول لكل طاغية احذر ولا تغمض عينك أبدًا
تطرق الكاتب كذلك لاستياء الأمراء من وعد السلطان فنر للشعب بعمل الدستور، ومحاسبة الكبير والصغير طبقًا لبنوده، وأوضح كيف هدأ فنر من روعهم عندما أوضح لهم أنه يبيع الوهم للشعب، ومن المستحيل أن يضع دستورًا يحد من سلطاتهم التي ورثوها كابرًا عن كابر، وقال لهم إن الأصل في الحاكم الماهر حسبما يقول ميكيافيللي عدم الوفاء بوعوده.
أظهر في هذا الجزء أيضًا مدى الظلم الذي تعرض له الشعب، وكيف أن هم الدولة أصبح منصرفًا إلى بناء سجون جديدة والتوسع في السجون القديمة، ولم يعد أحد يأمن على رأسه، والسلطان أصبح يخاف من ظله.
أنهى المنيف مجموعته الرائعة، على مشهد اغتيال السلطان فنر على يد أحد الأمراء الصغار، دون أن يوضح من الفاعل ولا ما الدافع، وكأنه يقول لكل طاغية احذر ولا تغمض عينك أبدًا، وإياك أن تهنأ لحظة واحدة، فالجحيم الذي أشعلته في دولتك آكلك لا محالة، فانتظر فإنا منتظرون.