ترجمة حفصة جودة
“العملاق” نموذج لسفينة من 4 صواري منمقة بحبال الأشرعة والصواري وتفتح نوافذها لتكشف عن مدن القدس ومكة المكرمة والمدينة المنورة، يعيش صانعها معاذ العلوي بالقرب من المحيط ويستطيع سماع صوت أمواجه، لكن لا يراها ناهيك عن قدرته على الدخول في مياهه.
يعيش علوي في مركز الاحتجاز الأمريكي بخليج غوانتنامو في كوبا، أما سفينته فمصنوعة من الورق المقوى الملون وأغطية الزجاجات البلاستيكية، بالإضافة إلى خيوط سجادة الصلاة وخرز مسبحته، ومن المفترض عرض هذا العمل في معرض نيويورك هذا الأسبوع في معرض فني للمعتقليين الحاليين والسابقين لهذا السجن الشهير سيئ السمعة.
في معرض الرئيس بكلية جون جاي للعدالة الجنائية في مدينة نيويورك، كان هناك عملاً بعنوان “الطريق إلى البحر” معروضًا مع 36 عملاً آخر لمعتقلين، بينما هم مقيدون في أرض الزنزانة، يشير عنوان العمل إلى الفكرة المهيمنة عليه، فالمحيط موجود حول القاعدة لكن المعتقلين ممنوعون من رؤيته بسبب المشمع الذي يغطي الأسلاك الشائكة للسجن.
يقول عبد الملك عبود: “في غوانتنامو نعيش بجوار البحر لكننا لا نستطيع رؤيته”، وصل عبود إلى معسكر غوانتنامو يوم افتتاحه وأُطلق سراحه دون توجيه تهمة في الصيف الماضي وأرسلوه إلى الجبل الأسود (إحدى دول البلقان)، يضيف عبود: “بالنسبة لي فالبحر يعني الهدوء، في بعض الأحيان تعني لي السفن أننا سنصل إلى الشاطئ، وفي أحيان أخرى أضع نفسي في البحر (في إحدى الرسومات)، حيث يأخذني الموج هنا وهناك لكنني في النهاية أصل إلى اليابسة، دائمًا ما كنت أفكر في المركب الذي سيأخذني بعيدًا، وفي النهاية جاء المركب وأخذني إلى الجبل الأسود”.
العملاق.. نموذج السفينة التي صنعها معاذ العلوي
في عام 2014 أزالت إدارة السجن الغطاء المشمع لمدة 4 أيام بسبب إعصار، مما ألهمهم بالفن البحري، يقول منصور عضايفي – معتقل سابق – في مقال بقائمة المعرض: “كل من كانوا يستطيعون الرسم رسموا البحر، أستطيع أن أرى في تلك الرسومات خليطًا من الألم والأمل، فهذا البحر يعني الحرية التي لا يستطيع أن يمتلكها أحد أو يتحكم بها، الحرية للجميع”.
تقول إيرين تومبسون أمينة المعرض وأستاذة في فن الجريمة بجون جاي: “الفن كان طريقتهم لتخيل أنفسهم خارج غوانتنامو، كان الهدف الرئيسي للمعرض منح الناس فرصة ليفكروا بشكل مختلف بشأن هؤلاء الرجال، وأيضًا منح هؤلاء الرجال فرصة ليفكروا في أنفسهم بطريقة مختلفة”.
لكن هذا الهدف تغير بعد الانتخابات الرئاسية العام الماضي، حيث تقول إيرين: “في عصر ترامب وبعد أن قال إنه يرغب في إجراء توسعات بغوانتنامو، أصبح للمعرض أهداف وأنشطة أخرى، حيث يوضح أن الاحتجاز إلى أجل غير مسمى يضر بالمعتقلين وكذلك بالعاملين في السجن”.
غالب: تقول إيرين أمينة المعرض إن الفن طريقة المعتقلين لتخيل أنفسهم خارج السجن
كانت الأعمال الفنية الأولى التي صُنعت في غوانتنامو غالبًا ما تكون تصميمات زهرية منحوتة في أكواب البوليسترين التي يُقدم فيها الشاي للمعتقلين، وبدأت هذه الممارسة بعد افتتاح المعسكر عام 2002، ويقول حارس سابق إن هذه الأعمال غالبًا ما كانوا يرسلونها للتفتيش في وحدة الاستخبارات العسكرية.
بدأت فصول الفن لاحقًا عام 2009 عندما أصبح باراك أوباما رئيسًا لأمريكا، فقد صدر بيان إعلامي لموظفيين عسكريين يقولون فيه: “يقدم برنامج الفن تحفيزًا فكريًا للمعتقلين ويسمح لهم بالتعبير عن إبداعهم”، يقول عبود: “كنت حريصًا على الفن وكذلك الاستفادة من دورات اللغتين الإنجليزية والإسبانية، كنت أرغب في أن أتعلم وأستفيد من وقتي في أشياء جيدة لذا طلبت منهم تسجيل اسمي في تلك البرامج”.
يأتي التعبير الإبداعي في السجن مع بعض القيود، فاستخدام الأقلام الرصاص والجاف أو أي شيء حاد عليه قيود شديدة وكذلك استخدام أدوات معدنية مثل فرشاة الطلاء، يقول عبود: “الأمر صعب للغاية، فعندما ننتقل من الزنازين إلى غرفة الدراسة يقومون بتفتيشنا وتقييدنا، وعندما نصل إلى غرفة الدراسة يفتشوننا مرة أخرى وينزعون القيود عن أيدينا فقط لكن أقدامنا تظل في القيد”.
يقول أنسي إن الدورات الفنية في السجن بدأت عام 2009
الكثير من الأعمال في المعرض تعود لما بعد عام 2015، فالأعمال التي تمت قبل ذلك تعرضت للمصادرة في أثناء الهجمات البوليسية أو فترات الاضطرابات وفي الإضرابات الجماعية عن الطعام، حصل عبود على مكافأة لحسن سلوكه وسمح له باستخدام الأدوات الفنية داخل الزنزانة، يقول عبود: “في بعض الأحيان كنت أمسك لوحاتي وألواني وأرسم حتى أنسى، لقد ساعدني ذلك كثيرًا”.
كان بعض المعتقلين أيضًا يستخدمون الفن للاتصال بالعالم من حولهم، أحد أعمال محمد أنسي كان رسمة للصورة الشهيرة للطفل آلان كردي –الطفل السوري ذو الثلاث سنوات والذي جرفه الشاطئ في سبتمبر 2015 عندما كانت تحاول عائلته الفرار من الدولة الإسلامية -، كان أنسي و9 آخرين قد تم نقلهم خارج غوانتنامو قبل 4 أيام من تنصيب ترامب، ورغم نية أوباما المعلنة لإغلاق السجن، فإنه ما زال بداخله 41 معتقلاً.
وصل المعتقل الجزائري دجمال أميزيان إلى غوانتنامو عام 2002 ورغم حصوله على تصريح الإفراج عنه عام 2008، فقد ظل معتقلاً حتى عام 2013، ووفقًا لقائمة المعرض فقد أخبر أميزيان محامييه أنه في أسوأ لحظاته كان يشعر بأنه قارب في البحر تضربه العواصف الشديدة في رحلتة نحو المجهول.
غروب الشمس.. إحدى لوحات عبد الملك
أخبر أميزيان محامييه أيضًا أنه قبل أن تبدأ فصول الفن في المعسكر، لم يكن مسموحًا للمعتقلين برسم الزخارف في خطاباتهم لعائلاتهم وإذا فعلوا ذلك فإن إدارة السجن تمنع إرسال تلك الخطابات، لكن مع تغير القواعد في غوانتنامو، أصبح مسموحًا للمعتقلين المشهود لهم بحسن سلوكهم أن يعملوا على مشاريعهم الفنية داخل الزنازين.
أما المواطن اليمني علوي فما زال محتجزًا حتى الآن، ويقول علوي إنه يبدأ في عمله الفني قبل الفجر ويستمر كذلك لمدة سبع أو ثمان ساعات، ويحكي علوي لمحاميه بيث جاكوب قائلاً: “عندما أبدأ في عمل فني أنسى أنني في السجن بل أنسى نفسي أيضًا، رغم أنني في السجن فإنني أحاول بقدر ما أستطيع أن أحلق بروحي خارجه، أشعر أنني أعيش حياة مختلفة عندما أبدأ في عمل فني”.
المصدر: الغارديان