لم يكن اصطفاف القادة الغربيين خلف الحكومة الإسرائيلية اليمينية في حربها ضد غزة موقفًا استثنائيًا، فخلال الأعوام الأخيرة، توطّدت علاقات بعض الدول الأوروبية مع “إسرائيل” بدافع الروابط التاريخية والمصالح التجارية والاقتصادية، ونشأ في بعض الحالات تقارب بين القادة السياسيين المنتمين إلى أقصى اليمين، ما جعل الصوت الأعلى بين الحكومات الأوروبية عادةً هو دعم “إسرائيل” وتجنّب انتقادها.
وخلال حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية في قطاع غزة، أكّد الاتحاد الأوروبي مرارًا وتكرارًا على حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، وتراوح دعم بعض الدول داخل التكتل بين تسويغ الانتهاكات وشرعنة الحروب وتقديم الإمدادات العسكرية المباشرة، ولعلّ ألمانيا أكثر وضوحًا للدول التي تقدم دعمًا مطلقًا لـ”إسرائيل” في الميدان والمحافل القانونية.
لكن مع اقتراب الحرب على غزة من إنهاء شهرها الخامس، بدا التناقض الشديد غالبًا على مواقف الكثير من الدول الأوروبية، التي تقلّبت من دعم “إسرائيل” المطلق إلى إدانتها بسبب المجازر التي ارتكبتها ثم العودة للتأكيد على الدعم من جديد، كما شهدت الشهور الأخيرة تفاوتًا في حدة الخطابات الأوروبية والمطالبات المتكررة بتطبيق القانون الدولي وحث السلطات الإسرائيلية على التوقف عن ارتكاب جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة الأخرى، التي تسبّب معاناة هائلة للمدنيين في غزة، وذلك بدلًا من إدانة الفلسطينيين، كما جرت العادة.
موقف أوروبي متصدّع
منذ تسعينيات القرن العشرين، يحاول الأوروبيون دعم قرارات الشرعية الدولية في القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها حلّ الدولتَين والعودة إلى حدود عام 1967 ووقف الاستيطان، وأدّى هذا الموقف إلى صدام أوروبي مع البيت الأبيض وتل أبيب أكثر من مرة، ففي عام 2018 أدان الاتحاد الأوروبي مشروع “قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل”، ورفض قرارات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالاعتراف بسيادة “إسرائيل” على الجولان السوري المحتل.
لكن في حرب الإبادة الحالية لم تكن أوروبا على قلب رجل واحد، فقد كشفت الاستجابة الأولى لمؤسسات الاتحاد الأوروبي عن انقسام بعد زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة البرلمان الأوروبي إلى “إسرائيل”، والتي أفرزت ردود فعل أوروبية غاضبة، واتُّهمت الرئيستان بـ”الانحياز التام لإسرائيل” وعدم الانسجام مع الدبلوماسية التقليدية للاتحاد الأوروبي.
ومع طول أمد الحرب، تجاوزت الخلافات الأوروبية حدود الاتحاد الأوروبي، عندما شهد التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار وقف إطلاق النار انقسامًا بين دوله بطرق مختلفة، وتوزّعت الأصوات الأوروبية بين الموافقة والرفض، لكن الأغلبية امتنعت عن التصويت، لتكشف الحرب عن أزمة توافق بين الحكومات الأوروبية، يصعب معها اتخاذ موقف مؤثر إزاء حرب غزة.
كشفت الاستجابة الأولى لمؤسسات الاتحاد الأوروبي عن انقسام بعد زيارة رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيسة البرلمان الأوروبي إلى “إسرائيل”.
على عكس الغزو الروسي لأوكرانيا الذي وحّد موقف الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى تجاه مسائل السياسة الخارجية والأمنية، أحدثت الحرب في غزة استقطابًا في الآراء داخل الكيانات الأوروبية، وأدّت إلى اتّساع هوّة الانقسامات السياسية الداخلية في عدد كبير من المجتمعات الأوروبية، بين أطياف معكسر اليسار السياسي الغربي ويمينه.
تبايُن في المواقف
في أوروبا، صدحت أصوات كثيرة تطالب بدور فاعل ومؤثر في ملف الشرق الأوسط، واضطر دبلوماسيون أوروبيون إلى خوض معركة لضمان امتثال الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي، وهو أمر يدفع إلى الاعتقاد بأن ثمة ملامح تغيير جوهري ممكن في السياسات الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية.
فحكومات إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا ومالطا على وجه الخصوص تعارض استمرار الحرب، وتطالب بهدنة دائمة، وعقد مؤتمر دولي للسلام يبحث إقامة دولة فلسطينية إلى جانب الدولة الإسرائيلي، وتعالت أيضًا بعض الأصوات داخل البرلمان الأوروبي ومؤسسات أخرى، لتطالب بخطوات ملموسة ضد الاحتلال، وبتغيير جادّ للسياسات يرفع عن أوروبا حرج وشبهة التواطؤ مع “إسرائيل” وغضّ الطرف عن جرائمها.
تشمل هذه الخطوات إلغاء مذكرة اتفاق تعطي امتيازات لـ”إسرائيل” للوصول إلى الأسواق الأوروبية، ووقف تصدير الأسلحة للاحتلال، ووضع حظر أوروبي عليها مع تواصل القصف في غزة وتدمير الأحياء والمستشفيات والمساجد والكنائس.
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، لم تكن الحرب على غزة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، بل حرب باتت تنذر بأزمة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.
تلك أصوات بدأ رجع صداها يُسمع في أروقة المؤسسات الأوروبية، وتكررت المشاهد أمام مبنى المفوضية في بروكسل، وفي عدة شوارع أوروبية، حيث تظاهر مئات الآلاف دعمًا لفلسطين وحقوق شعبها، وتنديدًا بجرائم الاحتلال الإسرائيلي المستمرة.
هذا الموقف يمثل الأوروبيين كيانات ومنظمات، لكن موقف الحكومات متباين وفقًا لأسباب كثيرة لم تعد تخفى، منها ما هو تاريخي مرتبط بعقدة الذنب من المحرقة (الهولوكوست)، ومنها ما هو اقتصادي وسياسي وفقًا للمصالح والتوجهات المختلفة بين المسؤولين في كل بلد.
كل ردّ تحكمه على ما يبدو حسابات الربح والخسارة في ميزان الارتدادات، لكن يبدو أن ثمة شيئًا ما قد تغير أو تحرك بعد حرب غزة، ففي أروقة السياسة الأوروبية يقول مراقبون إن الحديث صار ملحًّا عن ضرورة تحرر المؤسسات الأوروبية من شبهة سياسة الكيل بمكيالَين، دون اختزال أوروبا في مجرد جهة مانحة.
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، لم تكن الحرب على غزة بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، بل حرب باتت تنذر بأزمة داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، إذ غلب التباين على الموقف داخل الاتحاد بين تصريحات مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، التي بدت أكثر تعاطفًا وإيجابية في دعم الفلسطينيين، على عكس رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين.
بعد التفات عدد من الدول إلى التضامن مع “إسرائيل”، خرج بوريل يرفض ويندد بالإجراءات الإسرائيلية، مثل قطع المياه والكهرباء والحصار الغذائي على غزة، التي قال إنها “تتناقض مع أحكام القانون الدولي”، واصفًا إياها بـ”التصرف الأخرق”.
تصريحات بوريل سبقها تصريح آخر متناقض تمامًا من داخل الاتحاد الأوروبي، فقد أعلن مفوض الاتحاد لشؤون التوسع والجوار أوليفر فارهيلي، قبل ساعة من تصريح بوريل، أن الاتحاد سيوقف المساعدات الإنسانية التي يقدمها للشعب الفلسطيني، وأن المفوضية الأوروبية بصفتها أكبر جهة مانحة للفلسطينيين، قررت وضع كامل برنامج التنمية البالغ قيمته 691 مليون يورو قيد إعادة التقييم، كردّة فعل على الهجوم الذي شنّته حركة حماس.
أظهرت هذه التصريحات ملامح الارتباك الأوروبي، ووضعت المؤسسة الأوروبية في موقف حرج اضطر بوريل على إثره التدخل مباشرة، وسارع بالاستفسار من رئيسة المفوضية التي نفت علمها المسبق بها، بينما أعربت عدة دول أعضاء عن استيائها من تلك التصريحات، ووصفوها بـ”التجاوز”، متسائلين عمّا إذا لدى المفوضية السلطة لاتخاذ مثل هذا القرار.
كواليس الاتحاد الأوروبي تخفي انقسامًا في المواقف حول الأزمة في غزة، لم تمنعها من إعلان إدانتها لحركة حماس وتأكيدها حق “إسرائيل” بالدفاع عن نفسها، إلا أنها شددت على ضرورة إبقاء المساعدة الإنمائية للفلسطينيين، عدا موقف المجر والنمسا المغاير عن هذا الإجماع.
بدت هذه الانقسامات أيضًا في حالة الفوضى والخلافات داخل المفوضية الأوروبية ضد رئيستها بسبب موقفها من الحرب على غزة، حيث وقّع نحو 700 شخص من كبار الموظفين والدبلوماسيين في المفوضية على رسالة انتقدوا فيها مواقفها، واتهموها بالانحياز المطلق لطرف واحد، لدرجة إضاءة مبنى المفوضية بألوان علم “إسرائيل”، وقالوا إن مواقفها تنتهك جوهر قيم الاتحاد الأوروبي، وتضرّ بمصالح أوروبا، وتؤدي إلى توسيع الهوّة بين أوروبا والمسلمين، وتشكّل خطرًا من الناحية الأمنية على مؤسسات وبعثات الاتحاد الأوروبي.
بدت الانقسامات الأوروبية في حالة الفوضى داخل المفوضية الأوروبية ضد رئيستها بسبب موقفها من الحرب على غزة.
ورغم التكلفة البشرية المهولة والمتزايدة للانتهاكات الإسرائيلية في غزة، لم تتمكن دول الاتحاد الأوروبي من التوصّل إلى موقف موحّد يدين جرائم الاحتلال، لكن بعض المواقف أظهرت أن بإمكان حكومات أوروبية منفردة أن تتمسّك بالمبادئ، بدل الاختباء خلف غياب الإجماع على مستوى دول الاتحاد الـ 27.
ويمكن القول إن أقصى توافق توصّلت إليه الدول الأوروبية منذ أيام قليلة كان منقوصًا كذلك، فقد دعت 26 دولة إلى “هدنة إنسانية فورية” في قطاع غزة، من شأنها أن تؤدي إلى وقف دائم لإطلاق النار وإفراج غير مشروط عن الأسرى وتوفير المساعدات الإنسانية، ومع ذلك لا يمكن اعتبار هذه الدعوة “بيانًا للاتحاد الأوروبي”، لأنها لم تصدر بالإجماع، لكنها تُظهر رأي أغلبية الاتحاد الذي يكافح منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لتقديم ردّ موحّد على العدوان الإسرائيلي على غزة.
معادلات ما بعد الحرب ليست كما قبلها
لأن ما حدث بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لا يشبه ما قبله في شيء، فإن الموقف الأوروبي بعد هذه الفترة من الحرب يزداد انقسامًا، وصارت الأصوات الرافضة للحرب أكثر قوة من أي وقت مضى. وتنقسم أوروبا اليوم إلى 3 معسكرات:
المعسكر الأول تقوده ألمانيا، ويواصل مناصرة “إسرائيل” بكل الوسائل، ويرفض طلب وقف إطلاق النار، وهو ما وضع برلين أمام اتهامات حادة بازدواجية المعايير فيما يتعلق بالالتزام بمواثيق حقوق الإنسان والقانون الدولي.
برلين التي تتجنّب في الصراعات الخارجية تسليح مناطق النزاعات، تستثني في هذه السياسة “إسرائيل”، ففي حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 مثلًا، كانت ألمانيا الغربية هي الدولة الوحيدة في العالم التي أذعنت للمطالب الأمريكية بإمداد “إسرائيل” بالأسلحة والمعدّات.
ومنذ بدايات الحرب الحالية، انحازت ألمانيا علنًا لـ”إسرائيل”، ودعمتها دون قيد أو شرط، واحتلت موقعًا متصدرًا في الدفاع عنها، وكان المستشار الألماني أولاف شولتس ثاني زعيم يصل تل أبيب للتضامن مع الاحتلال، بل أصدرت ولاية ألمانية قرارًا يتضمن حين طلب التقدم للجنسية الألمانية تعهّدًا خطّيًا من قِبل مقدّم الطلب، بوجوب الاعتراف بحقّ “إسرائيل” في الوجود.
ومع ذلك، لا يخفي الدعم الألماني الخلافات داخل الإدارة الألمانية التي ظهرت إلى السطح مع تزايد حجم العدوان الإسرائيلي وأعداد الضحايا المدنيين، ففي حين يصرّ أولاف شولتس على عدم وقف إطلاق النار ودعم “إسرائيل”، تتعالى الأصوات المعارضة داخل الحكومة، مثل وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، التي تطالب بضرورة مراعاة الجانب الإنساني ووقف استهداف الفلسطينيين.
المعسكر الثاني يمثل أكبر قوتَين في أوروبا: فرنسا وبريطانيا. موقف هاتين الدولتَين يشهد تحولات كبيرة تبعًا لضغوط الشارع الأوروبي، التي عززت حالة الغضب ضد الحكومات الداعمة لـ”إسرائيل”، بالإضافة إلى الضغوط الدولية، أحدها قرار محكمة العدل الدولية الذي يمثل نقطة تحول تاريخي ضد “إسرائيل”، والتي استمعت مؤخرًا إلى مرافعات ممثلين عن 52 دولة و3 منظمات إقليمية، انتهت بالدعوة إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
بالنسبة إلى بريطانيا، بدت ملامح التوتر الأوروبي أكثر وضوحًا عندما أقال رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وزيرة الداخلية المثيرة للجدل سويلا بريفرمان، في إطار تعديلات وزارية قبل الانتخابات العامة المتوقعة العام المقبل، لكن الإقالة كانت مرتبطة أكثر بحرب غزة، وموقف بريفرمان المتشدد ضد المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، ووصفها لها بـ”مظاهرات الكراهية الداعمة للإرهاب”.
أبرزت هذه الخطوة، حسب محللين، إشارات بشأن اتّساع الهوّة بين المطالب الشعبية الأوروبية عامة وقرارات الحكومات السياسية، وزادت من حدّة الاستقطاب في أوروبا حول تداعيات الحرب على غزة.
الاعتراض على الموقف الفرنسي الرسمي انفجر في الشارع مع خروج عشرات الآلاف للتنديد بالهجوم الإسرائيلي العنيف على غزة.
ويظهر التخبّط الأوروبي أكثر في الموقف الفرنسي، حيث دخلت عدة معطيات على خط موقفها المبكّر من الأزمة، مع إعلان باريس دعمًا غير مشروط لـ”إسرائيل” في حربها على غزة، وأن لـ”إسرائيل” الحق المطلق في الدفاع عن نفسها، بل دعت باريس في بدايات الحرب إلى تشكيل تحالف دولي ضد حماس على غرار التحالف الدولي ضد “داعش”، استنادًا إلى نقاط عديدة أبرزها مقتل فرنسيين في هجوم حماس.
حدث هذا قبل أن تعدّل باريس بهدوء نبرتها تجاه حرب حليفتها على غزة، وتظهر تحولًا كبيرًا تجاه القضية الفلسطينية على عكس موقفها الداعم للسلام وحلّ الدولتَين، ويعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي بدا حائرًا بين الالتزام بدعم “إسرائيل” والالتزام بالقانون الدولي، أن الرد الإسرائيلي لا يبرر العنف ضد المدنيين في غزة، ولا يجب أن يكون عبر هجمات عشوائية عليهم.
وذلك مرتبط وفق محللين بضغوط داخلية من أحزاب اليسار التي تطالب بوقف إطلاق النار في غزة، وضغط الرأي والحراك الشعبي المندد باستهداف المدنيين في غزة، إلى جانب ما اعتبرها مراقبون أسبابًا براغماتية مرتبطة بطموح فرنسا لاستعادة تأثيرها المفقود على الساحة العالمية.
موقف فرنسا الداعم لـ”إسرائيل” بدأ بالتراجع بعد حوادث داخلية وخارجية، كان أبرزها الخشية من امتداد الصراع إلى لبنان، فمرّرت باريس رسالة إلى “حزب الله” بضرورة ضبط النفس، أمّا داخليًّا فالاعتراض على الموقف الرسمي انفجر في الشارع مع خروج عشرات الآلاف للتنديد بالهجوم الإسرائيلي العنيف على غزة، فضلًا عن الكشف عن 170 فرنسيًّا علقوا تحت القصف الإسرائيلي، وتسريبات لمكالمات بين عدد منهم، ما أثار بلبلة كبيرة واتهامات للحكومة بازدواجية المعايير في تعاملها مع الفرنسيين في “إسرائيل” وأقرانهم في غزة.
لكن الحدث الأبرز الذي دفع باريس إلى اتخاذ موقف أكثر توازنًا وفق محللين، كان قصف “إسرائيل” المركز الثقافي الفرنسي في غزة، هذه اللحظة كانت فارقة في تحول خطاب باريس، فتحول من دعم غير مشروط إلى إلحاح على طلب هدنة إنسانية فورية، بحسب وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا.
المعسكر الثالث تقوده النرويج وإسبانيا وبلجيكا وإيرلندا، وهذه الدول تنأى بنفسها عن تقديم الدعم للاحتلال، وتريد بوضوح وقف إطلاق النار في غزة والضغط على “إسرائيل” لإنهاء حربها.
تهديد نتنياهو بالزحف إلى رفح والمخاوف من كارثة إنسانية غير مسبوقة، دفعت رئيسَي وزراء إسبانيا وإيرلندا إلى التحرك داخل المفوضية الأوروبية، والدعوة إلى مراجعة عادلة لامتثال “إسرائيل” لالتزاماتها بحقوق الإنسان في غزة، وتجديد المطالبة بوقف فوري لإطلاق النار.
هذا التحرك وصفته صحيفة “الغارديان” البريطانية بأنه “خطوة غير عادية”، لأنه تضمّن طلبًا صريحًا لمراجعة اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي و”إسرائيل” التي دخلت حيز التنفيذ عام 2000، وتعدّ أساس العلاقات التجارية، كما تشجّع الرسالة الأصوات المناهضة لـ”إسرائيل” بين دول الاتحاد، والتي بلغ عددها 7 دول على الأقل منها لوكسمبورغ وسلوفينيا.
يُنظر إلى تسلُّم بلجيكا لرئاسة الاتحاد الأوروبي حتى نهاية يونيو/ حزيران المقبل، على أنه فرصة لمراجعة المواقف الأوروبية التي ظلت على مدى عقود تدعم الاحتلال.
ولعلّ تأثير ذلك تجسّده أكثر المواقف البلجيكية المنددة بانتهاكات “إسرائيل” خلال عدوانها على غزة، من بينها موقف رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو، الذي وصف عنف المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية بـ”غير المقبول”.
حيث قال إن الأمر يستدعي اتخاذ إجراءات أوروبية منها منع المستوطنين المتطرفين الذين ارتكبوا جرائم من دخول الاتحاد الأوروبي، خاصة بعد أن ارتفعت اعتداءاتهم بشكل كبير منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ووصلت إلى قتل عدد من الفلسطينيين في مواقع مختلفة من الضفة الغربية، إضافة إلى الاستيلاء على الأراضي والتهجير القسري للفلسطينيين، خاصة في مناطق شرق رام الله والأغوار.
وفي سلسلة من التصريحات العلنية التي مثّلت خروجًا عن السياسة المعهودة للدول الغربية، تجاوزت شخصيات حكومية بلجيكية رفيعة مواقف نظرائها في الاتحاد الأوروبي، إلى إدانة عمليات القتل البشعة والغارات الجوية الإسرائيلية والعقاب الجماعي للشعب الفلسطيني، ودعت إلى عقوبات هادفة ومحاسبة المسؤولين.
هذه المواقف يرى مراقبون أن سقفها أعلى من سقف دول عربية وُصف موقف بعضها بـ”المنبطح والمتخاذل والفاضح”، لذلك يُنظر إلى تسلُّم بلجيكا لرئاسة الاتحاد الأوروبي حتى نهاية يونيو/ حزيران المقبل، على أنه فرصة لإمكانية حدوث تغيُّر في سياسة الاتحاد الأوروبي حيال القضية الفلسطينية، ومراجعة المواقف الأوروبية التي ظلت على مدى عقود تدعم الاحتلال، أو في أحسن الحالات تساوي بين الضحية والجلاد.
وقد بدا ذلك مؤخرًا في توجيه نداء إلى “إسرائيل” -بمبادرة من بلجيكا- لمنع أي عمل عسكري في رفح، الملاذ الأخير لثلثَي سكان قطاع غزة، وتقديم البرلمان الاتحادي البلجيكي مسوّدة قانون لحظر التجارة مع المستوطنات في الأراضي المحتلة، وتعليق حكومة إقليم والونيا في بلجيكا تصدير ذخائر عسكرية إلى “إسرائيل” خشية استخدامها في قطاع غزة، كما استدعت بلجيكا سفيرة “إسرائيل” بعد قصف مكاتب وكالة التنمية البلجيكية في غزة، مؤكدة أن استهداف المباني المدنية أمر مرفوض.
هذا الرفض الواسع وإن لم يُترجم إلى تحركات على الأرض ويحقق هدفه بوقف الحرب على غزة، فإنه يكشف عن حدود جديدة للتوافق الأوروربي في الأزمات الخارجية، هذه الحدود لا تضعها قيم حقوق الإنسان، بل يرسمها القلق من أزمات هجرة جديدة اُستبقت بقيود متشددة واضطرابات اقتصادية غير محسوبة.