تمتاز تركيا بجمال مساجدها المبهرة والطراز المعماري البديع والتصميم الفريد، بجانب المآذن والقباب التي أصبحت علامة من العلامات السياحية والتعريفية بتركيا، عدا ذلك، يمكن ملاحظة الانتشار الواسع للجوامع بشكل كبير، حيث يوجد ما يقارب 86 ألف و762 جامعًا، منهم 3 آلاف و317 في إسطنبول، هذا بحسب إحصائيات وزارة الشؤون الدينية.
هذا ولقد نظمت وزارة الشؤون الدينية في تركيا فعالية باسم “أسبوع المساجد والعاملين في مجال الشؤون الدينية” والتي تهدف من خلالها إلى التذكير بمكانة المساجد التاريخية والحضارية في المدن والتعريف بدورها الاجتماعي والثقافي في نشأة كل دولة، والذي أعلنته بخطبة الجمعة الأخيرة.
كما يذكر أن هذه الفعالية تُقام بشكل سنوي، وأقيمت أول مرة عام 2003، وفي كل عام يكون هناك خطة مختلفة عن العام السابق، لكن جميعها تهدف إلى تعزيز تنوع الأنشطة في الجوامع وإنشاء مكتبات بجانب المساجد، وتنظيم حلقات للنقاش والندوات.
وللمفارقة فلقد تعرض رئيس هذه الدولة للاعتقال عام 1998 بسبب أبيات من الشعر التركي تتحدث عن المساجد والتي تقول: قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا.
أسبوع المساجد في تركيا
رئيس الشؤون الدينية الأستاذ الدكتور علي أرباش في برنامج افتتاح “أسبوع المساجد والموظفين الدينيين”. pic.twitter.com/JWaRIzxq6n
— رئاسة الشؤون الدينية (@diyanet_ar) September 30, 2017
حضر رئيس وزارة الشؤون الدينية البروفيسور على إيرباش احتفالية إعلان هذه الفعالية، وقال: “هذا الأسبوع سنحاول التعلم والعمل على مناقشة جميع المواضيع التي تصور أهمية الجوامع الروحانية والاجتماعية ودورها في حياة المجتمع الإسلامي”.
وأضاف “يجب أن نعيد الفهم الصحيح للمساجد ونؤكد على أهميتها في إقامة الحضارات والمدن”، وذلك لاعتقاده بأن المسجد ضروري في تشكيل العلاقات الاجتماعية في الدولة وبناء منظومة تعليمية على أسس قانونية وأخلاقية والعلامة الأكثر دلالة على إسلامية المكان وأهله.
كما أضاف أن “الجوامع ليست أوقافًا دينية فقط، ففي كل صلاة تؤدى كتفًا إلى كتف، تعبر عن قيم ديننا وأخلاقياته وكأنها تتحدث عن نمط حياة المسلمين المليء بالمساواة والتضامن والتعاون والإخاء والسلام”، كما ذكر أن المنابر كانت مصادر المعرفة والعلم الأولى في العالم، لذلك لا ينبغي إهمال صلة المسلمين بها.
وبجانب هذا أشار إلى الدور التي قامت به المآذن في تركيا عندما نادت الناس للنزول إلى الشوارع في ليلة الانقلاب الفاشل، واعتبر دورها أساسي في دعم السياسة والحركة التنظيمية في الدولة، كما ذكر صعوبة تنفيذ هذه الخطة في ظل الأحداث التي يعيشها العالم من أفكار ترهيبية واستغلالية لهذه الأماكن المقدسة، على حد وصفه.
المكانة التاريخية للمساجد
بنيت المدن طيلة تاريخ الإسلام بحيث تكون المساجد في مركزها، فالمسجد يحدد مركز المدينة والمدينة تبنى حول المسجد.
— رئاسة الشؤون الدينية (@diyanet_ar) September 30, 2017
تأكيدًا على أهمية الجوامع تاريخيًا، من المتعارف عليه قديمًا أن الجوامع تُبنى في مراكز المدن، ويحدد وسط المدينة بحسب موقع الجامع، وبهذا كان يعتبر الجامع العنصر المؤسس لتخطيط المدن والطرق والوحدات السكانية، ولا تقف أهميته عند هذا الحد، فهناك تقاطعات عدة للجوامع مع الحياة التجارية والعلاقات الأسرية والاجتماعية التي منحت الثقة والأمان لهذه الشعوب في ذاك الوقت.
كانت مكانًا لاجتماع المسلمين ومناقشة أمور الدنيا والدين، وفي الوقت نفسه مؤسسة تعليمية وخيرية وتثقيفية ومنصة إعلامية، كما كانت مركزًا للأغراض العسكرية والقضائية
فمن أهم القضايا التي سيتم الاهتمام بها خلال فعالية “أسبوع المساجد”، جعل المساجد مكان مناسب للتجمعات الحيوية، إذ تخطط البلديات لبناء أماكن تستوعب الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن، كما أنهم يعملون على إعادة النظر في جعل المساجد مراكز ثقافية وتعليمية، لتصبح الجوامع أكثر فعالية واجتماعية كالسابق.
فلطالما عرفت المساجد في التاريخ الإسلامي بدورها العظيم، وذلك لتأثيرها العميق في المجتمعات، حيث كانت مكانًا لاجتماع المسلمين ومناقشة أمور الدنيا والدين، وفي الوقت نفسه مؤسسة تعليمية وخيرية وتثقيفية ومنصة إعلامية، كما كانت مركزًا للأغراض العسكرية والقضائية.
المدرسة الأولى والملتقى الأهم
اعتادت الجوامع قديمًا أن تقيم حلقات دراسية وتعليمية لتعليم الأمور الدينية مثل تحفيظ القرآن وتفسيره وتجويده وغيرها من المواضيع الأخرى العلمية والتاريخية، وفي أحوال أخرى، كانت هناك مكتبات فرعية تقام بالقرب من الجوامع كملحق لها.
أما بالنسبة للجانب الإنساني والاجتماعي، فلقد احتوت الجوامع على أماكن لإيواء من لا ملجأ له، والذين كانوا يعرفوا بأهل الصفة، فلقد كان يخصص لهم مكان مقتطع من المسجد ومظلل عليه ويأوى إليه الغرباء والفقراء ويبيتون فيه، كما كان يُتخذ من المسجد مكانًا لعلاج المرضى، ففي غزوة الخندق عندما أصيب سعد بن معاذ، نصب النبي له خيمة في المسجد ليُعالج بها.
ويذكر أن المسجد كان مكانًا لتجمع المسلمين فيه، ومن غاب سألوا عنه وإن كان مريضًا زاروه وإن كان له ميت عزوه وواسوه، وبهذا يمكن فهم دور المساجد في تقوية العلاقات الإنسانية بين الناس وتعزيز الثقة وتقوية روح التواصل بينهم.
المساجد تربي الإنسان ليبني علاقة طيبة مع نفسه وربه ومجتمعه ومحيطه بوعي المسؤولية والحساسية.
— رئاسة الشؤون الدينية (@diyanet_ar) September 30, 2017
أيضًا كان يعتبر الجامع مكانًا لإعلان عقود الزواج ومراسمه واحتفالاته، وذلك بناء على حديث الرسول “اعلنوا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف” وهذه العادة كانت مستحبة اجتماعيًا للإشهار بالارتباط الرسمي، كما كان محلًا لاستقبال الضيوف والوفود.
ومن الناحية القضائية، كانت الجوامع مكانًا للفصل بين الخصومات والقضاء بين المتخاصمين والإصلاح بينهم، معتمدين على قيم الدين وأخلاقه وأحكامه للفض بين النزاعات، ومن جانب آخر، كانت تستخدم الجوامع للأغراض القيادية والعسكرية والحربية، حيث كانت تتجمع الجيوش بها وتنطلق منها.
كما عودت المساجد المسلمين على عدة مسؤوليات تربوية منها الالتزام بالجماعة والارتباط بالمواعيد المحددة والشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين وكسر حواجز الكبر بينهم، وهذه الأدوار جميعها توضح دور الجوامع والتي كانت مركزًا للتحرك ومحورًا للعمل الاجتماعي والثقافي والإعلامي والتربوي.
لماذا انحسر دور المساجد في أداء الصلوات الخمسة؟
يقول أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة الأزهر عبد المقصود باشا، إن أحد أسباب تراجع مكانة المساجد في العالم،قلة ارتيادها مما أدى إلى تضاؤل الأداء الوظيفي لها في المجتمع المعاصر مقارنة مع دورها في الزمن القديم، ويضيف أن الغرب نجح في إحداث اضطراب في الهوية الإسلامية وأدخل مفهوم القومية التي جعل كل جماعة تتعصب لفئتها وذلك منذ بداية القرن التاسع عشر.
كما يذكر أن الجهات الرسمية المسؤولة عن المساجد تهتم بتزيين الجوامع وزخرفتها بملايين الدولارات وبكثرة انتشارها في المدن، دون الاستفادة منها بالشكل الصحيح على الصعيدين الروحاني والاجتماعي.
ويذكر أن الجوامع كمؤسسات تقليدية لم تستطع مواجهة موجة التطور السريع التي صاحبها مشاكل واختلافات اجتماعية متعددة، وفي مرحلة معينة لم يعد قادرًا على التجاوب مع الوضع الجديد بالمستوى المطلوب، وإنما انعكس التحضر السريع على الهندسة المعمارية التي تجاهلت المسائل الحقيقة وتوقفت عند الأمور الظاهرية، ومن خلال هذه الفعاليات نحاول أن نعالج هذه القضايا ونركز على نقل الجوامع إلى مركز المدن لنعيد للبلاد سمتها الإسلامية.
ما خطة تركيا لإعادة المساجد لمكانتها الحضارية؟
أعلن مفتي مدينة إسطنبول حسن كامل يلماز في شهر رمضان الماضي، اتفاقية وقعها مع وزارة الشؤون الدينية ووزارة البيئة والتي تهدف إلى توزيع المساجد بحسب مواقعها، بحيث يصبح في كل حي وميدان ومجمع سكني مسجد، وذلك لإحياء المساجد ودورها من جديد في المدن.
كما صرح يلماز، أن المساجد لن تكون أماكن للعبادة فقط، بل ستضم أماكن للجلوس فيها والتقاء الأصدقاء والقراءة، وأكد على خطتهم في جعل المساجد أماكن للراحة ومراكز للتفاعل الاجتماعي كالسابق، وأشار إلى انخفاض عدد النساء اللاتي يذهبن إلى المساجد بصورة كبيرة.
المدن تعكس معتقدات وثقافة وحضارة المواطنين الموجودين في البلد، وقديمًا كانت المدن الإسلامية تعتبر المسجد واحدًا من المراكز المهمة في المدينة وغالبًا ما يكون في وسط المدينة، بحيث يكون قريبًا من المدارس والمستشفيات
وفي حوار خاص لرجل الدين التركي خليل الطويل، للعربي الجديد، يقول: “الدولة العلمانية وهي فترة حكم مصطفى كمال أتاتورك حاولت تغييب الأدوار الاجتماعية والسياسية للمساجد”، وأضاف أن رئاسة الشؤون الدينية التركية تعمل على دعوة الجميع للعودة إلى المساجد وزيارتها، بما في ذلك السياح، وذكر أن النساء لسن ملزمات بالزي الشرعي المحدد للدخول إلى المسجد كما هو إجباري في الدول الإسلامية الأخرى.
كما يقول إن المدن تعكس معتقدات وثقافة وحضارة المواطنين الموجودين في البلد، وقديمًا كانت المدن الإسلامية تعتبر المسجد واحدًا من المراكز المهمة في المدينة وغالبًا ما يكون في وسط المدينة، بحيث يكون قريبًا من المدارس والمستشفيات ويكون بجانبه الأسواق والخانات والمستشفيات وبهذا الموقع كان المسجد يضمن وحدة المدينة ومواطنيها.
ورغم أن المدن المعاصرة الحالية تمتلك جميع العناصر المادية للحضارة، فإنها تفتقر إلى القيم الروحية اللازمة لتشكيل الحضارة الإسلامية القائمة على التواصل الاجتماعي بين الناس كأولوية ضمن سماتها الثقافية.
تحقيق طموح أردوغان من خلال بناء المساجد
نشرت الكاتبة حنا لوسيندا سميث تقريرًا على موقع التايمز، تلفت فيه النظر إلى خطط حزب العدالة والتنمية وتفسر سبب هذا الاهتمام الكبير ببناء المساجد وجعلها جزء من الحياة والهوية التركية.
تقول الكاتبة سميث إن بين عامي 2006 و2009 تم بناء نحو 9 آلاف مسجد إضافي في جميع أنحاء تركيا وذلك ليس وفقًا لاحتياجات المجتمع المحلي للصلاة وإنما اعتمادًا على قرارات الحكومة ومنظورها، كما تذكر الكاتبة أن أردوغان افتتح مسجد أتاشهير ميمار سنان عام 2012 والذي كلف تأسيسه ما يقارب 22 مليون دولار، وتعليقًا على هذا قال أحد المتحدثين باسم الجمعية الوطنية في العراق: “تركيا تبني حضارة جديدة”.
وتتابع الصحفية سميث قائلة: “بنيت هذه الجوامع على الطراز العثماني الإمبراطوري وليس من الصعب ملاحظة أن حاكم هذه البلاد يهدف إلى إضفاء الطابع الإسلامي عليها من خلال بناء المزيد من دور العبادة، وتتساءل ما إن كانت تركيا تهدف إلى إبراز هويتها العثمانية الإسلامية أم الرأسمالية الاستبدادية أو كلتا الصورتين معًا أو لا شيء على الإطلاق؟
حزب العدالة والتنمية يتبنى هذه المسألة على أساس أنها فرصة لضمان التواصل مع الناس الذين يشاركونه الرؤية
كما تقول الكاتبة إن لدى الحزب حنينًا قديمًا مع الماضي العثماني وهذا ما يجعله متمسك بفكرة بناء المساجد على هذا الطراز داخل تركيا، كأداة تذكيرية بالأصول العثمانية والهوية الثقافية الإسلامية للمجتمع التركي.
وفي عام 2013، حاولت الحكومة اقتراح بناء مركز تسوق مصمم على الطراز العثماني القديم، إلا أن هذه الخطة أثارت احتجاجات واسعة في البلاد (حديقة جيزي)، ليتراجع الحزب عن بسط تصوراته غن إحياء الماضي في هذه المنطقة، وهذا بحسب ما جاء في التقرير المذكور.
كما تقول الكاتبة إن الحزب تعامل مع هوية الأتراك بذكاء وكسب تصويتهم من خلال المراكز والجسور والحدائق والمساجد التي يبنيها، حتى أولئك الذين لن يزوروا هذه الأماكن وخاصة الفاخرة منها، إلا أنه ضمن رضاهم وسرورهم بهذا التقدم الذي أنجزه الحزب.
وعودة إلى الحديث على الأنشطة التي تنظمها تركيا في المساجد، يعلق الباحث الخبير في السياسة التركية والدين ضياء ميرال قائلًا: “هذه المسابقات تعبر عن الدبلوماسية الثقافية، ورؤية تركيا لنفسها في العالم”، ويتابع: “حزب العدالة والتنمية يتبنى هذه المسألة على أساس أنها فرصة لضمان التواصل مع الناس الذين يشاركونه الرؤية”.
وجدير بالذكر، أن فعالية “أسبوع المساجد” ليست الوحيدة التي تقوم بها تركيا لإعادة مظاهر التدين على مدنها، فلقد نظمت مسابقات مختلفة مثل رفع الآذان وتلاوة وتجويد القرآن وهذا كله لتعزيز نموذج البلد الإسلامي والذي يرمز إليه بالمساجد والمآذن.