أصدرت محكمة جنح المطرية شرقي القاهرة، في قضية “التوكيلات الموازية”، يوم 6 فبراير/شباط الماضي، حكمها بالسجن لمدة سنة، وتغريم عضو مجلس النواب السابق أحمد الطنطاوي مبلغ 20 ألف جنيه لوقف التنفيذ لحين نظر محكمة الاستئناف على الحكم، بالإضافة إلى حرمان الطنطاوي من الترشح للانتخابات النيابية لمدة خمس سنوات، كما حكمت بالسجن لمدة عام على 21 من أعضاء حملته في ذات القضية.
فكيف شكّل الطنطاوي ظاهرة سياسية، في وقت سابق وحاضر، من خلالها، يحاول إحياء الموات التنظيمي والسياسي مرة أخرى، هذا من جهة، ومن أُخرى كيف تتعامل السلطوية معه، لا سيما فيما يخص الأحكام القضائية التي صدرت بحقه، وما تأثيرها على الممارسة السياسية بشكل عام؟
الطنطاوي كظاهرة سياسية
في مايو/أيار من عام 2023، عاد المعارض والسياسي المصري ورئيس حزب الكرامة الأسبق أحمد الطنطاوي من بيروت إلى القاهرة، وسط توقعات شعبية وسياسية ترجّح اعتقاله بواسطة الجهاز الأمني في مصر، نظرًا لإعلان نيته خوض الانتخابات الرئاسية المصرية أمام الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي.
دون اعتقاله، عاد الطنطاوي إلى القاهرة، وكما وضَّح في منشورات له على فيسبوك، أنه سيقوم بجولة سياسية مع عدد من الأحزاب المختلفة والشخصيات السياسة العامة، فضلًا عن أحزاب الحركة المدنية الديمقراطية، ومن ثم سيرى كيف سيكون تحدي السلطوية في الانتخابات الرئاسية.
لم تمض سوى أسابيع قليلة، إلَّا وأعلن الطنطاوي، بشكل رسمي، خوضه الانتخابات الرئاسية القادمة. وبدأت المنصات الصحافية والتلفزيونية، في إجراء اللقاءات والحوارات معه، ليوضح برنامجه الانتخابي، ورؤيته الحاضريّة المستقبلية للعديد من الملفات المصرية العامة، مثل الاقتصاد والسياحة والسياسة وحقوق الإنسان وسد النهضة واتفاقية السلام مع “إسرائيل”، وغيرها من ملفات.
في أواخر سبتمبر/أيلول من عام 2023، أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات عن فتح باب الترشح، وبدأ سباق جميع التوكيلات الشعبية، (25 ألف توكيل من 15 محافظة بحد أدني)، ومن وقت إعلان الهيئة بدء سباق استيفاء الترشح حتى موعد الإغلاق، والذي كان في 14 أكتوبر/تشرين الأول من نفس العام، كأنها أعلنت بداية حراك اجتماعي/سياسي (شارعي)، قاده أحمد الطنطاوي في وجه السُلطوية السياسية بقيادة عبد الفتاح السيسي وأذرعه الأمنية والإعلامية.
استمرت السلطوية، كما هي، في مسار التهديد والتخويف، لكل من يؤيد الطنطاوي، فاعتقلت مئات المواطنين سواء ضمن حملة الطنطاوي الانتخابية أم من مؤيديه، وحتى المواطنين العاديين، لكن آلة القمع لم تمنع الناس من النزول والمشاركة، وبدأت الناس تحشد وتنظم نفسها، فرادى وجماعات، لتسجيل التوكيلات باسم مرشحهم أحمد الطنطاوي، رافعين صورًا وكاتبين منشورات، عن الأمل والسياسة وإحيائهما بواسطة تحدي السلطوية، ومحاولة إزاحتها عبر الانتقال السلمي الديمقراطي.
لكن لم تكتفِ السلطوية بالاعتقال فحسب، بل منعت عشرات آلاف المواطنين داخل وخارج مصر من تسجيل التوكيلات باسم المرشح أحمد الطنطاوي، بحجة الازدحام وتعطل نظام تشغيل مقار الشهر العقاري، وهذه كانت بداية الحراك الاجتماعي الذي قاده الطنطاوي، فكانت ردة فعله على منع وتخويف الناس، هي النزول للشارع وزيارة كل محافظات مصر والتجول في الشوارع وسط الناس وتأمين الناس كونه وسطهم، ولن تستطيع السُلطوية اعتقاله أو اعتقالهم وهو معهم، ليشكل نزول الطنطاوي وسط الناس، حماية ضمنية له بواسطتهم، وحماية لهم بواسطته.
نزل الطنطاوي، التف حوله الناس، حدثهم عن حقوقهم في التعبير والمشاركة وانتخاب من يدير شؤونهم، انتقدوا الرئيس الحاليّ، والمرشح المنافس وقتها عبد الفتاح السيسي على العلن، قال إنه فاشل ومستبد ومنافس “لقطة”، أي مرشح من السهل الفوز عليه. ومن هنا، وكل يوم كان يمر، كنا نرى في عز نهار مصر ومحافظاتها ومدنها وقراها، مُعارضًا ومناضلًا مصريًا يرفعه الناس على الأكتاف، ويهتفون باسمه كرئيس قادم للجمهورية المصرية العسكرية العتيدة، حتى إن بعض الحشود التي كانت تُجمع بواسطة أجهزة وأحزاب السُلطوية من أجل تأييد الرئيس الحاليّ كانت تنقلب عليه وتهتف باسم أحمد الطنطاوي، كما حدث في احتجاجات محافظة مرسى مطروح.
هذه المشاهد وغيرها من مشاهد دالة على صوت الشعب، لم يكن أحد ليتخيل أنها ستحدث في نهار شوارع مصر، أمام كل الناس والشاشات. لذا أحدث الطنطاوي، منذ نزوله مصر وحتى إغلاق باب جميع التوكيلات، التي مُنع الطنطاوي من الحصول عليها، ظاهرة احتجاجية سياسية، تأخذ بعين الدراسة والتعلم، حيال كيف لأجواء سياسية وتنظيمية شبه ميتة، قد بث فيها الروح من جديد – حتى لو لفترة مؤقتة – بواسطة العمل السياسي الجاد.
الطنطاوي ليس رجلًا خارقًا، بل هو سياسي لم يخضع ولم يفاوض ولم يخف من بطش السلطوية، وعمل على منافستها وفضحها.
إستراتيجيات السلطة في القمع
تعددت إستراتيجيات السُلطوية في التعامل مع الطنطاوي، لكنها إلى الآن لم تعتقله بشكل مباشر، كما فعلت في انتخابات عام 2018، لأنها لم تكن تريد، على الأقل وقتها، صناعة بطولة للطنطاوي، كل ما أرادته فقط في هذه الانتخابات، صناعة مشهد مسرحي يصدقه الناس، يفوز به الرئيس عبد الفتاح السيسي، دون اعتقالات لمُرشحين رئاسيين، على عكس ما حدث في الانتخابات الرئاسية السابقة حين تم اعتقال 3 مرشحين محتملين له هم: عبد المنعم أبو الفتوح والفريق سامي عنان والعقيد أحمد قنصوة.
أفسَد الطنطاوي هذا المشهد المسرحي وفضحه بسبب حراكه السياسي الذي أحدثه إبان معركة التوكيلات، ووضح للجميع، للمصريين في الداخل والخارج، قمع النظام المصري لإرادة المصريين، ولغير المصريين في كل مكان، من خلال الإعلام العربي وغير العربي، الذي كان يتابع بدقة عملية الانتخابات المصرية ومدى نزاهتها وشفافيتها، ما أدى إلى الضغط على النظام المصري، كما إحراجه، بما أن مسرحيته كُشفت، وأن لا انتخابات حقيقية عادلة بين جميع المرشحين لها.
لكن كل هذا الصخب السياسي والحقوقي والإعلامي، توجهت مركزيته يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول، أي قبل إغلاق باب التوكيلات بأسبوع واحد، بسبب هجوم حركة حماس، فيما يسمى عملية “طوفان الأقصى”، على قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي في مستوطنات غلاف غزة، ما أدى إلى اندلاع حرب همجية وحشية على شعب غزة، وإعلان “إسرائيل” حالة استثناء، شملت فلسطين بكل مناطقها المحتلة وغير المحتلة، شعبًا وأسرى. هذا الصخب السياسي والإعلامي، أدى إلى إهمال العالم، بل والمصريين ذاتهم، وحتى أعضاء حملة الطنطاوي، استكمال معركة التوكيلات ضد قمع السلطوية.
إذ جاء طوفان الأقصى وما بعده، خدمة، غير مقصودة بالتأكيد، للنظام المصري في تجاهل الحراك السياسي والانتخابي المعارض له، ليس هذا فحسب، بل مرّت الأسابيع، حتى أعلنت الهيئة الوطنية للانتخابات، في 18 ديسمبر/كانون الأول 2023، فوز الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي، بدورة رئاسية جديدة مدتها 6 سنوات، تبدأ في أبريل/نيسان القادم، في مناخ استسلامي عام للمجتمع المصري، وتجاهل إقليمي ودولي، مقارنة بما يحدث من إبادة وتهجير وتجويع لشعب غزة بواسطة جيش الاحتلال.
في ظل صخب الحرب على غزة ومأساة أهلها وقتال ومقاومتها، كان متوقعًا أن يتم اعتقال الطنطاوي، بتهم محفوظة، مثل التطاول على الرئيس أو التظاهر دون تصريح، أو حتى بذات التهم الموجهة إليه في الوقت الحالي، وهي تزوير توكيلات شعبية، لكن استمرت السلطوية، أو جزء منها، والذي اختار استكمال السير في مسار المنع والتقييد والتخويف والتهديد. هذا المسار الذي يُبقي الطنطاوي خارج السجن، لكن مشلولًا مقيدًا بلا ممارسة حزبية ولا مشاركة سياسية، بل ويكون مهددًا بالسجن في أي لحظة، بما أنه صدر حكم قضائي بحقه، وهو في انتظار قرار محكمة الاستئناف عليه.
بعد كل هذه المشاهد بين الطنطاوي والسلطوية، تقف التنظيمات السياسية والمجتمعية والنقابية، على طرفي نقيض بين الأمل واليأس، العمل والركود. لا سيما هذه الفترة الذي نشاهد فيها الرئيس السيسي، ينتظر القسم على دورته الرئاسية الجديدة، مع انهيار اقتصادي وتصحر سياسي وانحطاط ثقافي وقمع شمولي أمني رسخته السلطوية كممارسة للتعامل مع كل الأصوات المعارضة لسياساتها، هذا بالإضافة إلى حرب الإبادة التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومشاهد القتل والجوع والتشرد، وسط تواطؤ ومشاركة وصمت دولي وعربي، وانهيار القيم الغربية “المدَّعية” للحريات وحقوق الإنسان، ما جعل الفعل التضامني والسياسي للجماعات والأفراد في منطقتنا العربية، لا سيما مصر، صعب الممارسة والعمل.