لم تعد متابعة المنافسات الرياضية في وقتنا الحالي مقتصرةً على عشاق الرياضة، بل أصبحت تجذب شريحةً واسعةً من الشبان والشابات المهتمين بآخر صيحات الموضة الحديثة، من أحذية وألبسة وتجهيزات رياضية فريدة، إلى تسريحات شعر غريبة، وأقراط و”إكسسوارات” عجيبة، وغيرها من التقليعات المبتكرة المرتبطة بنجوم الرياضة. وتعد ظاهرة الوشم واحدةً من أبرز تلك التقليعات، وأكثرها انتشارًا في عالم الرياضة، وسنفرد المقال التالي للحديث عن تلك الظاهرة بإسهاب:
مومياء أوتزي وعليها علامات الوشم
قد يجهل البعض أن تاريخ الوشم يعود إلى أكثر من خمسة آلاف عام! فقد شوهدت علامات لعدة وشوم على جسد مومياء أوتزي، التي عثر عليها في جبال الألب عام 1991، وتبين أنها تعود لرجل عاش في العصر النحاسي، أي قبل 3400 عام من الميلاد، وقد حافظ جسده على شكله بسبب الثلج والجليد الدائم في المنطقة، ورجح العلماء أن يكون وجود تلك الوشوم على جسده لأسباب علاجية.
يعود استعمال الوشم إلى أكثر من 5000 عام عندما استعمل لأغراض علاجية
كما كان الوشم رائجًا لدى كثير من الشعوب القديمة، كالمصريين القدامى الذين يعدون أول من استعمل الوشوم كوسيلة للتزيين، وذلك قبل نحو أربعة آلاف عام، والصينيين الذين اشتهروا باستعمال الوخز بالإبر في العلاج منذ نحو ثلاثة آلاف عام، وكذلك جيرانهم اليابانيين، وبعض قبائل البدو التي سكنت الجزء الآسيوي من منطقتنا العربية.
جهاز الوشم الكهربائي الذي اخترعه صامويل أوريللي عام 1891
وبقي الوشم بشكله البدائي، القائم على التنقير اليدوي عبر إبر أو أدوات حادة مختلفة، حتى عام 1891، حين قام أحد الفنانين التشكيليين الأمريكيين، ويدعى وش، باختراع جهاز آلي يدعى “Tattoo Gun”، مستفيدًا من قلم الطباعة الكهربائي الذي اخترعه توماس أديسون قبله بعدة أعوام، وقد مثل هذا الجهاز قفزةً نوعيةً في فن الوشم، حيث بات بفضله أكثر دقةً وسهولةً، وأقل خطورةً وجهدًا.
يقوم مبدأ الوشم على ضخ الأصبغة الملونة داخل أدمة الجلد بواسطة إبر خاصة
ويقوم مبدأ الوشم على ضخ الأصبغة الملونة داخل أدمة الجلد بواسطة إبر خاصة، لتتوزع وفق أشكال ومساحات معينة يتحكم بها راسم الوشم، فتظهر الأشكال المطلوبة منقوشةً على الجلد كجزء لا يتجزأ منه، وقد ظل “النيلج” -وهو صباغ أزرق يستخرج من ورق نبات النيل- عبر عقود طويلة، أكثر الأصبغة شيوعًا في دق الوشوم، قبل أن يتطور العلم في هذا الصدد، مفسحًا المجال أمام أنواع أخرى من الأصبغة الملونة، التي تدخل في صناعة معظمها أكاسيد المعادن.
الوشوم تزين أجساد مشاهير الفن
وتعددت استخدامات الوشوم عبر العقود، فقد كانت وما زالت تستخدم لأغراض طبية علاجية في العديد من دول العالم، كما استعملت بغرض تحديد الهوية سواء للبشر أو الحيوانات، إذ كانت تدق على أفخاذ الخيول لتمييزها عن بعضها، كما استخدمها بعض المقاتلين والبحارة لنقش أسمائهم على أجسادهم، كي يسهل التعرف عليهم في حال إصابتهم أو موتهم، واستعملت لدى العديد من الأمم بغرض التعبير عن انتماءاتها الدينية أو العقائدية، ولكن أسوأ استخدام للوشوم عبر التاريخ كان في عهد الامبراطورية الرومانية، عندما استعملت لوسم جباه العبيد، إمعانًا في استعبادهم وتعسيرًا لفرارهم، وهو ما أعاد إحياءه النازيون في معسكرات الاعتقال والإبادة الجماعية، التي أقاموها إبان الحرب العالمية الثانية.
يستخدم الوشم غالبًا للتزيين، كما يستخدم للتعبير عن الانتماء وللتعرف على الهوية
ويبقى السبب الأكثر شيوعًا لاستخدام الوشم قديمًا وحديثًا هو التجمل والتزيين، ولكن الفارق يكمن في أن تلك الزينة كانت مقتصرةً على النساء دون الرجال خلال عهود خلت، فيما أصبحت اليوم رائجةً لدى الجنسين، بنفس السوية تقريبًا، وهو الأمر الذي تنامى مع إقبال مشاهير الفن والسينما عليها، قبل أن تنتقل العدوى تدريجيًا إلى نجوم الرياضة.
الإنجليزي دافيد بيكهام من أوائل نجوم الرياضة الذين اشتهروا بالوشم
ويعد تفشي الوشوم لدى الرياضيين ظاهرةً حديثةً نسبيًا، فبالعودة إلى سنوات الثمانينيات والتسعينيات، نجد أن نقش الوشوم كان مقتصرًا على بعض الرياضيين من نوعية الأولاد الأشقياء “Bad Boys”، ومع مطلع الألفية الجديدة بدأت تلك الظاهرة بالتنامي تدريجيًا، فلم يعد غريبًا رؤية الوشوم على أذرع العديد من نجوم الرياضة، أما الآن فقد أصبح من النادر أن ترى نجمًا رياضيًا شهيرًا دون وشم!
بدأت ظاهرة الوشم بالانتشار لدى الرياضيين منذ مطلع الألفية الجديدة
ويعد نجم كرة القدم الإنجليزي الشهير دافيد بيكهام، من أوائل الرياضيين الذين اشتهروا بنقش الوشوم على أجسادهم، فقد بدأ بنقش اسم زوجته فيكتوريا وابنه بروكلين على ذراعه عام 1999، قبل أن يتحول جسده إلى معرض للوحات الفنية والنقوش المختلفة! وحذا حذوه العديد من نجوم الكرة، كزلاتان إبراهيموفيتش وسيرخيو راموس وداني ألفيش وماركو ماتيرازي وجبريل سيسيه وإزكيل لافيزي وأرتورو فيدال وواين روني وراؤول ميريليس ونايجل دي يونغ وغيرهم.
واستمرت ظاهرة الوشم بالتفشي والانتشار في عالم الكرة، حتى وصلت إلى نجم نجومها ولاعبها الأشهر في العقود الأخيرة الأرجنتيني ليو ميسي، الذي لم تمنعه شهرته الطاغية من تخصيص وقت لنقش الوشوم على جسده، مع الحرص على تجديدها باستمرار! وهو ما يحرص عليه أيضًا زميله السابق في نادي برشلونة البرازيلي نيمار، ومواطنه ظهير ريال مدريد المتألق مارسيلو، أما النجم البرتغالي الشهير كريستيانو رونالدو، فيعد من النجوم القلائل الذين لم تصل حمى الوشوم إلى أجسادهم.
النجم الأرجنتيني ليو ميسي أصبح من عشاق الوشم
وتتعدد مضامين تلك الوشوم بين الرسوم والرموز والأسماء والأرقام والتواريخ والعبارات المختلفة، والتي قد تحمل دلالات شخصيةً كاسم أو صورة أحد الأقارب والأحباء، أو دلالات رمزيةً تعكس المعتقدات الدينية والفكرية وحتى السياسية لدى حامليها، كصورة السيد المسيح التي نقشت على أجساد ميسي وروني، وصورة الزعيم الأرجنتيني تشي غيفارا التي نقشت على ذراع الأسطورة دييغو مارادونا، ولوحة تمثل كنيسةً وبجانبها مسجد، نقشها البرتغالي راؤول ميريليس الذي احترف في نادي فنر بخشة التركي، أما نجم برشلونة الإسباني سيرجيو بوسكيتس فقد نقش عبارةً باللغة العربية تقول “شيء لك.. الحياة في بلدي” للتعبير عن انتمائه لإقليم كاتالونيا.
تحمل وشوم اللاعبين معاني تدل على انتماءاتهم ومعتقداتهم وذكرياتهم
وبعيدًا عن الأسماء والشخصيات والفلسفة والمعتقدات، ارتبطت بعض وشوم اللاعبين بذكريات معينة، فقد نقش نيمار على رقبته عبارةً بمعنى “لا شيء يدوم”، عقب خيبة أمله الكبرى بخروج منتخبه البرازيلي من كأس العالم عام 2014، ونقش سيرخيو راموس على جسده تواريخ فوزه بالبطولات الكبرى مع منتخبه وناديه، ونقش السويدي إبراهيموفيتش على جسده أسماء أكثر من خمسين شخصًا، بينها اسمه واسم “عبد الله” باللغة العربية، مشيرًا إلى أن ذكرى هؤلاء الأشخاص تجلب له الحظ السعيد!
الوشوم تزين أجساد لاعبي الكرة
ورغم تطور عملية نقش الوشوم وإزالتها في عالم الرياضة، لتصبح أكثر أمانًا، بعيدًا عن أخطار التلوث والعدوى الناتجة عن سوء التعقيم، إلا أن الكثير من الأطباء والمختصين ما زلوا يحذرون من بعض المخاطر الصحية التي قد تنطوي عليها، فقد كشف بحث أجري في جامعة كولن الألمانية، بأن الأحبار المستخدمة في عملية الوشم تعد سامة، ولا بد أن يتسبب دخولها إلى جسد الرياضي في التأثير على تنظيم درجة الحرارة ومستوى التعرق، مما يعني هبوط مردوده البدني بنسب متفاوتة على المديين القريب والمتوسط، أما على المدى البعيد فقد تتسبب تلك الأصبغة بأمراض متعددة، كأمراض فرط الحساسية ونقص المناعة والتهاب الغدد الليمفاوية، وصولًا إلى سرطانات الجلد، التي لا يستبعد الأطباء، أن يكون هوس الوشم سببًا رئيسيًا في زيادة معدلاتها في الوقت الراهن.