مهما يكن شأن العالم العربي فإن الأمر الذي لا يختلف فيه المراقبون أنه يعيش حالة من الفوضى غير مسبوقة في تاريخه الحديث، والذي ينبغي لنا أن ندقق فيه من خلال غبار تلك الفوضى، ليس مدى تشابه ظروف دول العالم العربي بتقاسم نفس المشاكل والتحديات، ولكن مدى الاختلاف الذي بدأ يباعد بين هذه الدول والمجتمعات. قبل عقد من الزمن، كانت الدول العربية على اختلاف أنظمتها، جمهورية كانت أو ملكية، رأسمالية أو ما تتسمى بالاشتراكية، تعيش نوعًا من التقارب في سياستها واقتصادها بل حتى مجتمعاتها، بيد أنها وبعد أحداث الربيع العربي الذي تحول مع الزمن إلى أشبه بيوم قائظ اشتدت به رياح الفرقة وعواصف الحروب الأهلية، بدت كقطار انفلتت عرباته في كل صوب، لتسلك كل عربة طريقًا مختلفًا.
في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، قلبت موجة من الحركات الثورية العسكرية أنظمة الحكم الملكية في مصر والعراق وليبيا، تحررت الجزائر من الحكم الكولونيالي الفرنسي من خلال المليشيات المسلحة بعدما سُفكت أنهار من الدماء، بعدها أسس هواري بومدين جمهورية يحكمها العسكر حكمًا مطلقًا، وتعرضت سوريا لسلسلة متلاحقة من الانقلابات والانقلابات المضادة، وقامت وحدة قصيرة بينها وبين النظام الناصري. كانت الأنظمة الجمهورية في أوج انتشارها وتمددها تهدد الأنظمة الملكية التي كانت توصف من الأنظمة الثورية بالرجعية، الحسن الثاني في المغرب والملك فيصل في السعوديةَ والحسين في الأردن، كلهم حاولوا بشكل من الأشكال التقرب من نظام عبد الناصر أو على الأقل عدم معاداته.
لكن كل ذلك توقف بعد النكسة عام 1967، تضاءل المد الناصري، وأضحى الناس يتذمرون من وطأة الأنظمة العسكرية الديكتاتورية التي تغولت فيها أجهزة المخابرات، واستفحل فيها الفساد، وانعدمت فيها الحياة الديموقراطية تحت احتكار الحزب الواحد للسياسة، وانقطعت الأسباب للحكم بعيدًا عن الدبابات والبزات العسكرية.
ومنذ 1969 إلى ما قبل 2011 بدأ كل شيء يتقارب ويتشاكل بل ويتماهى أحيانًا، ويأخذ نمطًا وتصورًا متجانسًا بين الجمهوريات الاشتراكية ذات الميول العلماني اليساري، والملكيات الثيوقراطية الرأسمالية، وظل الملوك والرؤساء يحكمون دولهم حتى آخر رمق، وكان آخر ديكتاتور يطوح به الشعب هو شاه إيران عام 1979 ليخلفه نظام آيات الله الذي سلك نفس النهج الاستبدادي متسترًا بغطاء الدين.
تراخت قبضة الولايات المتحدة على زمام التحكم المطلق في الشرق الأوسط، وأظهر ترامب قدرًا غير يسير من اللامبالاة لما يجري من تحولات في المنطقة وتزايد النفوذ الروسي
لقد تصاغرت الاختلافات بين الأنظمة وذابت تلك الفروق والأيديولوجيات التي قامت عليها تلك الكيانات الحاكمة، ولم يبق من أثرها إلا الشعارات والأسماء، وأصبح مصطلح “جملكيات” الذي نحته بعض المفكرين، وصفًا دقيقًا للأنظمة العربية الحديثة، فالممالك العربية مثل الكويت والسعودية والأردن أخذت تتشبه بالجمهوريات بإنشاء هياكل ومؤسسات تشريعية مستضعفة لعبت أدوارًا استشارية صورية لصالح الملك الذي يتمتع بالسلطة المطلقة، والجمهوريات في مصر والعراق وسوريا، هي الأخرى لها مؤسسات ودساتير صورية، برزت كالملكيات التي يتصرف رؤساءها كالملوك ويحتالون لتوريث الحكم إلى أبناهم.
من الناحية الاقتصادية أيضًا، غدت الأيدولوجيات القديمة بين الأنظمة العربية الرأسمالية والاشتراكية تاريخًا منسيًا من الحقبة الشيوعية، وساد نظام اقتصادي أبوي يتحكم فيه طبقة رجال الأعمال المقربين من السلطة. وكان تعامل الأنظمة العربية مع حركات الإسلام السياسي متقاربًا في الوسائل والتصورات والمواقف، فقد عملت على احتوائه وأحيانًا استخدامه في مواجهة التيار العلماني، طالما لم يشكل تهديدًا لشرعيتها في الحكم، فإذا تمردت تلك الحركات جاء الرد متوحشًا وهمجيًا، وظلت مؤتمرات وزراء الداخلية العرب تنعقد بشكل دوري دون أن تؤثر الخلافات الحادة بين الدول على مستوى التنسيق الأمني والتعاون في مجال مكافحة التيارات المعارضة إسلامية كانت أو ليبرالية.
بعد أحداث الربيع العربي، ومع تولي دونالد ترامب مقاليد الحكم في البيت الأبيض، ونهج سياسة مناهضة للعولمة، وأكثر تركيزًا على الشأن الداخلي، وتقليص الاهتمام بمناطق النفوذ التقليدية التي كانت توليها الإدارات السابقة درجة كبيرة من الأهمية، تراخت قبضة الولايات المتحدة على زمام التحكم المطلق في الشرق الأوسط، وأظهر ترامب قدرًا غير يسير من اللامبالاة لما يجري من تحولات في المنطقة وتزايد النفوذ الروسي، مما أعطى حكومات العالم العربي قدرًا أكبر من الحرية في التخطيط الذاتي، ومواجهة التحديات دون رقابة شديدة من الأمريكيين الذين ظلوا لعقود طويلة يتدخلون في أصغر التفاصيل والتوجهات.
غريزة البقاء لدى الحكومات العربية ستجعلها تدخل تجارب جديدة ومتباينة، بعضها قد يفشل، فدول كانت تعد من أشد الكيانات محافظة وتشددًا مثل السعودية، تخوض الآن تجربة علمانية عشوائية بوتيرة جنونية لا تقدر عواقبها ومضاعفاتها في داخل المجتمع السعودي المحافظ الذي لا زال تحت وقع الصدمة.
بعض الدول العربية قد تجاوز الربيع العربي والبعض الآخر مهدد بالموجة الثانية التي ما انفكت مؤشراتها تتفاعل على الساحة مدًا وجزرًا، كدول الخليج التي ظلت لأزيد من ثلاثة عقود تتمتع بمساحة مريحة للحركة والحكم المستقر
في تونس يحاول النظام أن يستعيد تجربة بورقيبة اللائكية والمحافظة على مكانة حداثوية متقدمة بين أقرانه في شمال إفريقيا بضرب أساسات عميقة في التقاليد الإسلامية وسن تشريعات راديكالية فيها مجازفة غير محسوبة الأضرار في ظروف سياسية وأمنية هشة يمر بها المجتمع التونسي. بينما تحاول مصر العسكرية – تحت ظل جنرال ما فتئ يبحث عن شرعية صلبة ويعوزه الكثير من الكاريزما ويطغى على خطابه السطحية والضحالة الفكرية – أن تستدعي التجربة الناصرية بحكومة عسكرية تكنوقراطية، تسلك نفس الأساليب في مواجهة الخصوم والمعارضين في الداخل، بالعودة إلى التعذيب الممنهج وسطوة رجال المخابرات والدولة البوليسية.
سقوط الأنظمة الديكتاتورية في ليبيا وسوريا واليمن، وإلى درجة ما في العراق، ونشوء كيانات مسلحة مبعثرة تستفرد كل منها برقعة من الأرض بعيدًا عن السلطة المركزية، هو نتيجة لفشل كل تلك المكونات والفاعلين الأساسيين في وضع تصور للنموذج الصحيح للدولة المستقبلية، لكن اختلاف المقاربات يعكس في أساسه اختلافات جوهرية بين دول العالم العربي، ورغم كل ما يبدو متشابهًا ومتقاربًا بينها، فإنها تعيش تجارب مختلفة عن بعضها البعض، ولها ظروف متابينة في الحكم.
بعضها أكبر مساحة من بعض، فمجموع سكان قطر يمكن أن يذوب بسهولة في محافظة من محافظات مصر الـ27، وبعضها بالغ الغنى وبعضها متناهي الفقر، فاليمن يشكل دخله الإجمالي 4% من دخل الإمارات، وفِي المقابل يعيش 4% من اليمنيين في الإمارات، بعضها يزخر بالثروات الطبيعية وبعضها يفتقر إليها، بعضها ذي إثنية واحدة كالكويت وبعضها متعدد الإثنيات واللغات كالمغرب والجزائر، بعضها يعاني من الطائفية وبعضها يتمتع بالوحدة المذهبية، بعضها يتجه نحو مزيد من الديمقراطية، وبعضها نحو مزيد من التضييق والاستبداد، بعضها يملك أيدي عاملة مؤهلة ومدربة، وبعضها يعتمد بشكل حيوي على العمالة الأجنبية، بعضها تصالح مع التيارات الإسلامية كالمغرب وتونس، وبعضها عاد إلى مرحلة ما قبل الثورات مثل مصر والسعودية في قمع المعارضين والتنكيل بهم، بعضها حافظ على وحدته الترابية وبعضها مهدد بالانقسام كالعراق.
السؤال الذي تطرحه الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط اليوم هو: هل الخلل في كونها أنظمة ديكتاتورية، أم أنها ليست ديكتاتورية بما فيه الكفاية؟
بعضها قد تجاوز الربيع العربي والبعض الآخر مهدد بالموجة الثانية التي ما انفكت مؤشراتها تتفاعل على الساحة مدًا وجزرًا، كدول الخليج التي ظلت لأزيد من ثلاثة عقود تتمتع بمساحة مريحة للحركة والحكم المستقر، وما وفرته بحبوحة النفط من سيولة مالية كافية لضمان السلم الاجتماعي. لكنها ستواجه ظروفًا قاسية على المدى المتوسط مع تدني أسعار النفط إلى النصف من ذروته في 2014، ومع مجتمع أغلبه من الشباب المسلح بما توفره وسائل التكنولوجيا من سهولة التواصل، وقدرة أكبر على الحصول على المعلومة، وتضاءل مساحة الرقابة على المواد الفكرية والسياسية والأدبية، وتنامي الوعي السياسي بين أبناء الخليج، كلها أمور تجعل تلك الأنظمة الثيوقراطية أمام مخاطر محدقة تهدد باستمراريتها وبقائها في السلطة، خصوصًا بعد فقدان المؤسسات الدينية السلطوية – التي تعتمد عليها ممالك الخليج في تخدير الرأي العام – لكثير من مصداقيتها وشرعيتها في توجيه وإرشاد جماهير شابة مثقفة ولها حضور قوي على شبكة الإنترنت.
السؤال الذي تطرحه الأنظمة الديكتاتورية في الشرق الأوسط اليوم هو: هل الخلل في كونها أنظمة ديكتاتورية، أم أنها ليست ديكتاتورية بما فيه الكفاية؟ هل الحكومات المستبدة تصنع مجتمعات قوية ومستقرة أم أنها تدخل الدول في دورة لا متناهية من الثورات والثورات المضادة؟ هل كان خطأ مبارك في سبيل الحفاظ على سلطته أنه كان ديكتاتورًا، أم أنه لم يكن طاغية بالقدر الذي يجعله يلقي قنابل وبراميل متفجرة على المعتصمين في ميدان التحرير؟ هل سقوط صدام كان سببًا لما يعيشه العراق اليوم أم نتيجة لحكمه الدموي؟ هل نجاح الثورة في تونس سببه جبن الرئيس بن علي، أم الفساد والطغيان الذي استشرى في مؤسسات الجمهورية؟
كل نظام يحاول أن يجيب بطريقته على هذه التساؤلات، وكل نظام استخلص دروس الربيع العربي بحسب رؤيته وأهوائه وكفاءة مسؤوليه، وعلى ضوء ما فهمه وقدّرَه كل نظام من تلك الأنظمة، ستكون النتيجة، إما مزيد من الاضطرابات والقلاقل، أو تحول سلس نحو نظام ديموقراطي ومجتمع حر ومستقر.