تعرض الرئيس الأمريكي جو بايدن لحملة انتقادات لاذعة وموجة توبيخ لم يعرفها من قبل خلال الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الديمقراطي في ولاية ميتشغان، التي جرت الثلاثاء 27 فبراير/شباط 2024، في أول تقييم شعبي حقيقي لموقف إدارته من الحرب في غزة ودعم الكيان المحتل في حرب الإبادة التي يشنها ضد أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع.
ورغم الفوز الذي حققه في هذه الانتخابات، فإن النتائج النهائية حملة رسالة حازمة، فقد صوت 16% من الديمقراطيين بـ”غير ملتزم” ما يعني أنهم لن يصوتوا لبايدن في الانتخابات الرئاسية المزمع إقامتها في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، وهي النسبة الأكبر في تاريخ الديمقراطيين، حيث لم تتجاوز في الدورتين الانتخابيتين الأخيرتين حاجز الـ2% فيما وصلت ذروتها عام 2012 حين بلغت 11%.
وصدمت تلك النتائج الحملة الانتخابية لبايدن، التي تفاجأت بحجم الغضب المتصاعد من الجالية العربية والإسلامية ضد سياسات الإدارة الأمريكية تجاه الوضع في غزة وغض الطرف عن الجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الحليف الإسرائيلي المشمول بكل أوجه الدعم الأمريكي، سياسيًا وعسكريًا ولوجستيًا واقتصاديًا.
وتعد انتخابات الحزب في ميتشغان بروفة لما يمكن أن يكون عليه الوضع في الماراثون الانتخابي الرئاسي نهاية العام الحاليّ، الأمر الذي يثير التساؤلات بشأن ما يمكن أن يقدمه العرب والمسلمون في الولايات المتحدة من دعم لغزة والقضية الفلسطينية عمومًا من خلال صناديق الاقتراع وكتلتهم التصويتية التي لا يستهان بها.
ميتشغان.. بروفة مثيرة للقلق
يكتسب ما حدث في ولاية ميتشغان أهميته كونه أول اختبار سياسي ميداني حقيقي لتعامل إدارة بايدن مع الحرب في غزة، فكل ما سبق ذلك عبارة عن اعتراضات وهتافات ولافتات ترفع في التظاهرات الاحتجاجية التي عمت بعض المدن الأمريكية، لكنها لم ترتق بعد إلى مستوى التحول من الاعتراض اللفظي إلى الانتخابي السلوكي.
وكالة “رويترز” أشارت إلى أن تلك الانتخابات سبقتها دعوات من ناشطين في الحزب الديمقراطي لعدم التصويت لبايدن في الانتخابات الرئاسية القادمة، لافتة في استطلاع رأي أجرته أن 25 من أصل 50 ناشطًا من الديمقراطيين، أي قرابة 50% ممن شملهم الاستطلاع، قالوا إنهم لن يصوتوا لبادين في الانتخابات المقبلة، وربما يمنحون أصواتهم لصالح حزب ثالث غير الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
وتعليقًا على نتائج الانتخابات قالت النائبة الديمقراطية عن ميشيغان رشيدة طليب: “شعرت بالفخر اليوم بسحب بطاقة اقتراع للحزب الديمقراطي والتصويت بـ”غير ملتزمة””، مضيفة “74% من الديمقراطيين في ميشيغان يدعمون وقف إطلاق النار إلا أن الرئيس بايدن لا ينصت إلينا، بهذه الطريقة يمكننا استخدام الديمقراطية للقول: استمع إلى ميشيغان”.
من جانبها قالت حملة “استمع إلى ميشيغان” (التي تطالب بايدن بالاهتمام بآراء سكان الولاية حول دعم إدارته المطلق لـ”إسرائيل”) : “لقد خرجت حركتنا منتصرة الليلة وتجاوزت توقعاتنا بشكل كبير. عشرات الآلاف من الديمقراطيين في ميشيغان، الذين صوت الكثير منهم لصالح بايدن في عام 2020، غير ملتزمين بإعادة انتخابه بسبب الحرب في غزة”.
وهناك حملة أخرى تسمى “التخلي عن بايدن”، تم تدشينها في ميشيغان، تدعو إلى حرمان بايدن من ولاية رئاسية ثانية بشكل مباشر، بسبب دعمه للهجوم الإسرائيلي على غزة، وذلك من أجل الضغط عليه لتغيير سياساته إزاء الحرب.
ونظمت الحملتان على مدار الأيام الماضية العديد من الاحتجاجات وتواصلت مع عشرات آلاف الناخبين عبر الهواتف وعلى منصات التواصل الاجتماعي من أجل دعم خيار “التصويت غير الملتزم”، ونجحت في تحقيق نتائج إيجابية كشفت عنها انتخابات ميشيغان، وفق ما ذهبت صحيفة “بوليتيكو”.
اللافت هنا أن تلك الحملات لم تحظ بتأييد العرب والمسلمين في أمريكا فقط، بل تجاوزت ذلك إلى بعض الليبراليين البارزين بالحزب الديمقراطي، وهو الأمر الذي يتطلب من بايدن مراعاته حتى لا يفقد حظوظه في الفوز بولاية جديدة كما أشارت صحيفة “واشنطن بوست”.
التأييد في تراجع.. بايدن يدفع الثمن
يواجه بايدن منذ بداية الحرب وإعلانه بشكل واضح دعمه اللامحدود للكيان المحتل في حرب الإبادة التي يشنها ضد الفلسطينيين، أزمة سياسية حادة على المستوى الداخلي، أفضت إلى تراجع ملموس في شعبيته لا سيما بين الشباب وحديثي السن، هذا بخلاف الانقسامات الحادة داخل إدارته بسبب هذا الدعم الذي كان سببًا رئيسيًا في إنهاء حياة أكثر من 30 ألف فلسطيني ونزوح قرابة مليون ونصف وتعريض حياة مئات الآلاف للخطر.
وكشف استطلاع رأي أجرته صحيفة “نيويورك تايمز” بالتعاون مع “كلية سيينا” أن 57% من الناخبين لا يوافقون على طريقة تعامل بايدن مع الحرب الإسرائيلية ضد غزة، وأن عددًا من الناخبين الشباب الذين دعموه في انتخابات 2020، قرروا التصويت للرئيس السابق دونالد ترامب.
وفي استطلاع آخر أجراه المعهد العربي الأمريكي، نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أي بعد أيام قليلة من بداية الحرب، توصل إلى تراجع نسبة تأييد بايدن من 59% عام 2020 إلى 17% حاليًا، فيما قال 40% ممن شملهم الاستطلاع إنهم سيصوتون لصالح ترامب.
ومنذ الحرب تصاعدت حدة الانقسامات في الحزب الديمقراطي بشأن موقف إدارة بايدن من الوضع في غزة، فيما حذر الديمقراطي روبرت باتيلو من أن تلك الانقسامات ستؤدي إلى انخفاض تأييد بايدن، لافتًا إلى أنه كلما تم التوصل إلى حل سلمي بشكل أسرع، زاد الوقت المتاح للإدارة للمساعدة في إعادة بناء سمعتها بين هذه الفئات، على حد قوله.
وتعددت مؤشرات وصور الانقسامات التي شهدتها أروقة الحزب الديمقراطي وإدارة بايدن منذ بداية الحرب من أبرزها:
– 29 أكتوبر/تشرين الأول 2023.. تقدم مدير الشؤون العامة بوزارة الخارجية جوش بول، باستقالته اعتراضًا على موقف إدارة بايدن من الحرب الإسرائيلية ضد قطاع غزة، مطالبًا بإعادة النظر فيها وتقييمها مجددًا.
– أوائل نوفمبر/تشرين الثاني 2023.. رسالة موقعة من أكثر من 1000 موظف في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (تابعة للحكومة ومسؤولة عن إدارة المساعدات الخارجية)، يطالبون فيها بايدن بالضغط على “إسرائيل” لوقف إطلاق النار.
– في الشهر ذاته وقع أكثر من 500 عضو سابق في حملة بايدن الرئاسية لعام 2020 على رسالة طالبوا فيها بايدن بوقف إطلاق النار في غزة، كما أرسل المتدربون في البيت الأبيض، وموظفون في الكونغرس، رسائل تحمل المطلب ذاته.
– ديسمبر/كانون الأول 2023.. نظم موظفون بالإدارة الأمريكية، وقفة احتجاجية أمام البيت الأبيض، دعمًا لوقف إطلاق النار، وهم يغطون وجوههم بالأوشحة، ويرفعون لافتات تندد بالدعم غير المسبوق لدولة الاحتلال.
– 3 يناير/كانون الثاني 2024.. رسالة وقع عليها 17 من أعضاء حملة إعادة انتخاب بايدن حذروه فيها من خسارة الأصوات بسبب موقفه من الحرب، وطالبوه بالدعوة إلى وقف إطلاق النار ووقف المساعدات لـ”إسرائيل”.
– 4 يناير/كانون الثاني 2024.. تقدم طارق حبش، وهو مسؤول كبير بوزارة التعليم، ومن أصل فلسطيني، باستقالته، احتجاجًا على طريقة تعامل إدارة بايدن مع الحرب، وطالب بوقف الدعم الأمريكي للاحتلال والضغط لوقف إطلاق النار.
ويرى المحامي الحقوقي والمرشح السابق في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي، روبرت باتيلو، أن مهمة بايدن اليوم في توحيد صف الديمقراطيين باتت صعبة في ظل تمسكه بموقفه الداعم لـ”إسرائيل” على طول الخط، لافتًا في تصريحات صحفية له إلى أن هناك جناحًا جديدًا صغير السن وأكثر تقدمية داخل الحزب الديمقراطي يدعم فلسطين بشدة، وهو ما لم يكن موجودًا في السابق.
أما النائبة الديمقراطية مدينة ويلسون أنطون، العضو في كونغرس ولاية ديلاوير، (الولاية التي ظل بايدن ممثلًا لها في مجلس الشيوخ 36 عامًا) فوصفت تجاهل الرئيس الأمريكي لآراء القاعدة الشعبية التي تندد بإدارته للحرب في غزة ودعمه المطلق لـ”إسرائيل” على حساب شعب فلسطين، بأنه “خطأ كبير”.
الصوت العربي.. يُمكن أن يحدث الفارق
ردود الفعل الأولية إزاء ما حدث في ميشيغان تشير إلى إمكانية إحداث الصوت العربي والإسلامي في الولايات المتحدة تأثيرًا ملحوظًا، ليس في الانتخابات الرئاسية فحسب لكن على المستويات كافة، السياسية والاقتصادية، التي تشكل محورًا أساسيًا في بناء المواقف الرسمية للدولة وسياستها تجاه الشرق الأوسط بصفة عامة.
وتقدر اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز (ADC)، عدد الأمريكيين من أصول عربية داخل أمريكا بأكثر من 3.5 مليون ويشكل اللبنانيون والسوريون غالبيتهم العظمى، في حين يقع أكبر تجمع للأمريكيين العرب في منطقة ديترويت الكبرى بولاية ميشيغان.
وبحسب إحصاء مجموعة (Emgage) وهي جماعة مدنية أمريكية مسلمة، فإن قرابة 1.1 مليون ناخب مسلم شاركوا بأصواتهم في انتخابات 2020، وكان لأصواتهم تأثير كبير في فوز المرشح الديمقراطي حينها جو بايدن ضد منافسه الجمهوري دونالد ترامب، ويشير الإحصاء ذاته إلى ارتفاع عدد الناخبين المسلمين والعرب في الماراثونات الانتخابية بصفة عامة بنسبة 27%، فيما زادت نسب المشاركة في آخر انتخابات عام 2020 بنحو نقطتين مئويتين عن التي قبلها في 2016 ويتوقع زيادتها بنسب تقترب من 4 نقاط خلال الانتخابات القادمة.
ووفق استطلاع رأي أجراه معهد السياسة الاجتماعية والتفاهم، (منظمة بحثية أمريكية مسلمة مستقلة)، عام 2020، كشف أنه خلال الفترة من 2019 إلى 2020، ارتفعت نسبة المسلمين الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية من 16% إلى 30%، وهو رقم لم يحدث من قبل في تاريخ الولايات المتحدة.
ورغم ذلك هناك أصوات تقلل من تأثير الغضب العربي وترجمته إلى تصويت عقابي ضد بايدن في الانتخابات المقبلة، لا سيما إن كان المنافس هو ترامب المعروف بعنصريته الفجة ضد المهاجرين وكل الجاليات بما فيها العرب، ودعمه اللامحدود للإسرائيليين وخدمته المخلصة للأجندة الصهيونية، وهنا يقع العرب بين خيارين أحلاهما مر.
ويعلق مدير دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو، جاستن لوجان، على هذا الأمر بالإشارة إلى أن الجالية العربية إذا قررت معاقبة بايدن بالتصويت العقابي لصالح ترامب فإنها ستلحق الضرر بنفسها لعقود من الزمن، في ظل ما يتنباه ترامب من أيديولوجية متطرفة إزاء المجتمعات العربية بصفة عامة، مضيفًا “لا يبدو الأمر ذكيًا بالنسبة لي وأنا أعلم أنهم أذكياء”.
وبصرف النظر عن مآلات الصوت العربي وحساباته المعقدة في الانتخابات القادمة، لا سيما إذا كان ترامب هو منافس بايدن، إلا أن الجالية العربية بحراكها هذا تمثل رقمًا صعبًا في معادلة الصوت الأمريكي بصفة عامة، وتمثل ضغطًا كبيرًا على ساكن البيت الأبيض، أيًا كانت هويته، خاصة في ظل الزخم العالمي الذي مُنحته القضية الفلسطينية وكسب تعاطف ودعم شرائح سياسية عدة داخل أمريكا وخارجها بما يتجاوز الكتلة العربية والإسلامية الضيقة.