في تطور يحمل العديد من الدلالات التي ربما تعيد رسم خارطة مشهد الصراع داخل اليمن، أعلنت الخرطوم حجم خسائرها البشرية بين صفوفها المشاركة ضمن قوات التحالف في سابقة هي الأولى منذ إعلان مشاركتها في عاصفة الحزم في الـ26 من مارس 2015.
الأرقام التي كشفها قائد قوات الدعم السريع في الجيش السوداني محمد حمدان حميدتي خلال حوار صحفي له منذ أيام مع صحيفة “الجريدة” السودانية، بشأن مقتل 412 سودانيًا بينهم 14 ضابطًا منذ بدء مشاركة قواته في الحرب ضد الحوثيين، أثارت الكثير من الجدل داخل الأوساط السودانية وخارجها، خاصة فيما يتعلق بتوقيت إعلانها.
إعلان الخسائر بين صفوف السودانيين والتي وصفها البعض تلويحًا بالانسحاب تأتي بعد أيام قليلة من تصريحات أدلى بها الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح بشأن انسحاب القوات المغربية المشاركة في صفوف التحالف أيضًا، مما يضع السعودية والإمارات في مأزق حقيقي ربما يهدد مستقبل وجودهما في اليمن.
الخرطوم تشارك رغم المعارضة
في 26 من مارس 2015 خرج الناطق الرسمي باسم الجيش السوداني ليعلن مشاركة بلاده في عاصفة الحزم ضمن قوات التحالف بزعامة المملكة العربية السعودية، وبحسب البيان الصادر عن الجيش فإن هذه المشاركة تأتي “من منطلق المسؤولية الإسلامية لحماية أرض الحرمين الشريفين والدين والعقيدة”، وأعلن أن مشاركة السودان بقوة ومنعة وعزة في هذه العمليات، لتبقى السعودية آمنة مستقرة، بلدًا حرامًا”.
ورغم المعارضة التي قوبلت بها المشاركة السودانية في هذه الحرب خاصة في ظل وجود عدة جبهات قتالية مفتوحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، والتي من الأولى أن تُحسم أولاً ويُدحر المتمردون الذين يهددون أمن المواطنين، فضلاً عن ضعف إمكانيات الجيش السوداني والتي لا تسمح له بخوض معارك خارجية، إلا أن القيادة السياسية كان لها رأي آخر.
شارك السودان في العاصفة بجانب قوات التحالف بثلاث طائرات مقاتلة إضافة إلى مئات من عناصر القوات البرية – لا يوجد حصر رسمي لعددها – التي شكلت منذ انطلاق الحرب العصب الرئيسي للقوات المشاركة على أرض المعركة ميدانيًا، خاصة في ظل تراجع أعداد القوات المشاركة من البلدان الأخرى والتي اعتمدت على سلاح الجو كرافد أساسي في الحرب.
أراد السودان تدشين لوبي داعم له في مساعيه لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ 1997، من خلال وساطة سعودية إماراتية في هذا الملف
ماذا يريد؟
العزلة الإقليمية والدولية التي كانت تعاني منها الخرطوم قبيل مشاركتها في عاصفة الحزم جراء علاقتها بإيران، فضلاً عن الملاحقات الأممية لبعض قادتها بدعاوى دعم الإرهاب، علاوة على العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، بخلاف المأزق الداخلي الناجم عن الوضع الأمني المتردي والتعثر الاقتصادي الواضح، كل هذا كان دافعًا رئيسيًا لأن يعيد السودان حساباته مرة أخرى، باحثًا عن الخروج من تلك الشرنقة.
ومن ثم سعت الخرطوم إلى مغازلة دول الخليج حفاظًا على استمرارية حصتها من الدعم والتمويل المقدم للسودانيين لا سيما من السعودية والإمارات والتي ستصيب الداخل بحالة من الارتباك الشديد إن تم توقفها، هذا في مقابل الآثار السلبية – اقتصاديًا وسياسيًا – الناجمة عن العلاقات مع طهران، لذا جاء قرار البشير بتحويل قبلة بلاده من الاتجاه الإيراني إلى الاتجاه الخليجي، فقررت الحكومة السودانية فجأة إغلاق المراكز الثقافية الإيرانية بالبلاد وفروعها كافة بالولايات السودانية بدعوى “التبشير بالمذهب الشيعي” مع إمهال الموظفين والدبلوماسيين بها مدة 72 ساعة لمغادرة البلاد وذلك في الـ2 من سبتمر 2014.
ومنذ هذا الوقت دخلت العلاقات السودانية الخليجية مرحلة جديدة من الوئام والتنسيق والتعاون، تمخضت عن فتح الباب أمام الاستثمارات الخليجية للتدفق في ولايات السودان المختلفة، بلغت ذروتها عقب إعلان المشاركة في عاصفة الحزم في مارس 2015.
علاوة على ذلك فقد أراد السودان تدشين لوبي داعم له في مساعيه لرفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليه منذ 1997، من خلال وساطة سعودية إماراتية في هذا الملف، مستغلاً العلاقات القوية التي تربط بين الإدارة الأمريكية ودول الخليج في الوقت الراهن.
وفي الناحية الأخرى، قدمت الرياض وأبو ظبي حزمة من الوعود ببذل الجهود لرفع العقوبات الاقتصادية المفروضة، فضلاً عن توجيه صناديق التمويل والمستثمرين بزيادة الدعم الموجه للسودان، وهو ما أفرز مؤخرًا اتفاق الشراكة الاستراتيجية المبرم بين الخرطوم ودول مجلس التعاون الخليجي، حسبما أعلن وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور في أبريل الماضي.
إعلان السودان حجم خسائره في اليمن والذي فسره البعض كونه تلويحًا بالانسحاب، جاء بعد أيام قليلة من المفاجأة التي فجرها الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح بشأن انسحاب المغرب من قوات التحالف
وماذا تحقق؟
حصد السودان عدة مكاسب من وراء مشاركته في عاصفة الحزم في اليمن وما تلاها من تعميق لعلاقاته مع دول الخليج، وإن كان البعض يراها لا تتناسب وحجم الخسائر التي تكبدها طيلة الأشهر الـ31 الماضية منذ مارس 2015 وحتى الوقت الراهن، إلا أنها تعد خطوة جيدة في طريق مساعي النظام السوداني الخروج من ورطته الداخلية والخارجية على سواء.
اقتصاديًا.. ارتفعت الاستثمارات الخليجية في السودان بصورة غير مسبوقة، وهو ما ساعد بشكل كبير في استقرار الوضع الاقتصادي وإنقاذه من مرحلة السقوط الكامل، وتعد السعودية أكبر مستثمر عربي في السودان في العامين الأخيرين على وجه الخصوص، إذ ارتفعت معدلات استثماراتها بالولايات السودانية المختلفة لتصل إلى 15 مليار دولار خلال العام الماضي، واستحوذ القطاع الزراعي على النصيب الأعلى من قيمة تلك الاستثمارات، إذ إن هناك ما يقرب من 196 سعوديًا يستثمرون في القطاع الزراعي بالسودان، تتركز استثماراتهم على الأعلاف والقمح والذرة، أي أنها منتجات تهم السعودية، سواء للأمن الغذائي للإنسان أو للحيوان.
ثم تأتي الكويت في المرتبة الثانية بقيمة استثمارات بلغت نحو 9 مليارات دولار، أبرزها مشروع سكر “كنانة”، الذي تمتلك الكويت 33% منه، بجانب استثمارها في مجال الاتصالات عبر شركة “زين السودان”، بينما تبلغ استثمارات قطر نحو 1.7 مليار دولار.
أما الإمارات فجاءت في المرتبة الثالثة بعد السعودية والكويت، وذلك باستثمارات تبلغ تقريبًا 6 مليارات دولار، فضلاً عن الدور الذي تقوم به أبو ظبي لتنشيط استثماراتها في الخرطوم من خلال بعض الفعاليات على رأسها رعايتها لأعمال الملتقى السوداني الإماراتي في أبو ظبي مايو 2015 وفيه نُوقشت مشاريع استثمارية بنحو 16 مليار دولار.
رغم ما يقال بشأن زيادة الخسائر في صفوف القوات السودانية عن تلك الأرقام المعلنة، إذ فاق الرقم مجموع ما أمكن تعداده من البيانات المتفرقة للجيش اليمني واللجان الشعبية عقب كل معركة، إلا أن توقيت الكشف عنها له عدة دلالات ربما تستهدف مقاصد اخرى أبعد من مسألة أرقام معلنة
سياسيًا.. نجحت الوساطة السعودية الإماراتية في تقريب وجهات النظر بين واشنطن والخرطوم فيما يتعلق برفع العقوبات المفروضة عليها منذ 20 عامًا، ورغم إعلان الإدارة الأمريكية إرجاء قرار رفع العقوبات في يوليو الماضي ثلاثة أشهر إضافية بعد انقضاء انقضاء مهلة الـ6 أشهر التي منحت للسودان من قبل الإدارة السابقة، فإن عدم فرض شروط جديدة تسبب في حالة من الارتياح لدى بعض المقربين كون ذلك بادرة جيدة لإمكانية رفع تلك العقوبات بصورة كلية في نهاية المهلة الحالية والمقرر لها أكتوبر القادم.
الدعم الخليجي للسودان أمريكيًا ساهم بشكل كبير في إعادة نظر البيت الأبيض للصورة التي رسمها عن الخرطوم لتصبح أقل عدائية مما كانت عليه في السابق، مما أفضى إلى تكوين لجنة مشتركة بين الطرفين للنظر في بعض القضايا محل القلق بينهما، انتهت إلى التوصل لتفاهمات عدة صاحبها خطوات عملية، على رأسها رفع حظر السفر للرعايا السودانيين إلى أمريكا، والتي من المتوقع أن تؤدي إلى رفع العقوبات الأحادية المفروضة من الجانب الأمريكي، حسبما جاء على لسان مستشار رئيس المجلس الوطني السوداني، والناطق الرسمي باسمه الدكتور عبد الماجد هارون.
ورغم هذه المكاسب التي حصل عليها السودان مقابل مشاركته في عاصفة الحزم في اليمن، يبدو أنها لم تكن على مستوى الطموحات المتوقعة لدى القائمين على أمور النظام في الخرطوم، ومن ثم جاء إعلان حجم الخسائر بين صفوف القوات السودانية المشاركة ضمن قوات التحالف في هذا التوقيت.
العاهل السعودي خلال استقباله الرئيس السوداني في الرياض
إعلان الخسائر.. لماذا الآن؟
بعد تكتم زاد على عامين ونصف تقريبًا يفجر قائد قوات الدعم السريع في الجيش السوداني محمد حمدان حميدتي مفاجأة مدوية بشأن الخسائر بين صفوف قواته المشاركة ضمن قوات التحالف والتي تجاوزت 412 قتيلاً بينهم 14 ضابطًا، أثارت الكثير من الجدل داخل الأوساط السودانية وخارجها.
ورغم ما يقال بشأن زيادة الخسائر في صفوف القوات السودانية على تلك الأرقام المعلنة، إذ فاق الرقم مجموع ما أمكن تعداده من البيانات المتفرقة للجيش اليمني واللجان الشعبية عقب كل معركة، فإن توقيت الكشف عنها له عدة دلالات ربما تستهدف مقاصد أخرى أبعد من مسألة أرقام معلنة، وهو ما أشار إليه الكاتب والمحلل السوداني وائل علي الذي ألمح إلى أن الخسائر المفصح عنها مؤخرًا تفوق ما حققته الخرطوم من مكاسب.
علي في تصريحات لـ”نون بوست” كشف النقاب عن الوضعية الحرجة للنظام السوادني بسبب توجهاته حيال الأزمة القطرية والذي اختار الوقوف محايدًا تجنبًا للصدام مع أي من طرفي الأزمة، خاصة بعد الدعم الذي قدمته الدوحة للسودان خلال السنوات الأخيرة، والذي وقف حائلاً دون تبني الأخيرة موقفًا عدائيًا متطرفًا في الأزمة، مما أثار حفيظة العواصم الخليجية الأخرى.
حصد السودان عدة مكاسب من وراء مشاركته في عاصفة الحزم في اليمن وما تلاها من تعميق لعلاقاته مع دول الخليج، وإن كان البعض يراها لا تتناسب وحجم الخسائر
ومن هنا فإن إعلان خسائر القوات السودانية في هذا التوقيت يأتي في إطار أوراق الضغط المستخدمة من قبل الخرطوم لتحفيز وتشجيع السعودية والإمارات لبذل المزيد من الجهود الدبلوماسية لدى الإدارة الأمريكية لرفع العقوبات المفروضة عليها، حسبما أشار المحلل السوداني، هذا بخلاف ما ذهب إليه آخرون كونه ابتزازًا للحصول على مزيد من الدعم المالي لمواجهة تفاقم الوضع الاقتصادي الداخلي.
أما عن حقيقة الأرقام المعلنة بشأن القتلى من السودانيين أشار علي إلى أنها تبدو حقيقية بنسب كبيرة، ورغم إثارتها لحفيظة المعارضة داخليًا والاتهامات الموجهة للرئيس السوداني بالتضحية بدماء شعبه وجيشه، إلا أنه استبعد إثارتها لأي مشاكل على الصعيد الداخلي، ملفتًا أن أغلبية القتلى في صفوف الجيش السوداني عبارة عن مليشيات أشبه بالحشد الشعبي في العراق تم تدريبها ثم انضوت تحت لواء الجيش النظامي.
السعودية في مأزق
إعلان السودان عن حجم خسائره في اليمن والذي فسره البعض كونه تلويحًا بالانسحاب، جاء بعد أيام قليلة من المفاجأة التي فجرها الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح بشأن انسحاب المغرب من قوات التحالف، في الوقت الذي لم يصدر أي بيان عن قيادة التحالف بشأن انسحاب أي دولة منه، كما أن المغرب لم يُصدر بيان نفي أو تكذيب لتصريحات صالح، مما أعطى تلك التصريحات زخمًا إعلاميًا وسياسيًا كبيرًا.
صالح خلال حديثه إلى قناة “اليمن اليوم” قال: “نثمن تثمينًا عاليًا الذين بدأوا ينسحبون من التحالف مثل المغرب العربي، واعتقد أن هناك دولتين قادمتين للانسحاب من هذا التحالف”، وتابع: “اليمن لا يشكل خطرًا على أي دولة من دول التحالف على الإطلاق، لكن مجاملة للسعودية فقد دخلت تلك الدول في التحالف”، داعيًا باقي دول التحالف إلى الانسحاب منه مهددًا بأنها “ستندم مستقبلًا على ما فعلته بالشعب اليمني”.
المواقف المتتابعة لقوات التحالف وضعت السعودية في مأزق حقيقي بشأن مستقبل عاصفة الحزم في اليمن، خاصة لو ربطنا ذلك بما تعزف عليه الإمارات أكثر من مرة بشأن التلويح بالحل السياسي للخروج من هذا التحالف أو رفع يدها عن العمليات العسكرية في اليمن، وهو ما جاء على لسان وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية أنور قرقاش، حين أعلن يونيو الماضي أن الحرب في اليمن “انتهت عمليًا” بالنسبة إلى جنود بلاده وذلك بعد مقتل ما يقرب من 52 جنديًا إماراتيًا على أيدي الحوثيين، مشيرًا إلى أن الإمارات ترصد الترتيبات السياسية على هذا الصعيد، مما يعني الانسحاب ولو تدريجيًا.
تأزم الوضع اليمني دفع السعودية إلى إعادة النظر في توجهاتها العسكرية والتفكير في الحل السياسي للخروج من هذا المأزق، وهو ما ألمح إليه زير الخارجية السعودي عادل الجبير، خلال كلمته في الدورة الـ72 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث قال: “الحل العسكري لم يعد ممكنًا وحده لحسم الأمور في اليمن”، وأن بلاده باتت تدعم الحل السياسي في الأزمتين اليمنية والسورية، وهو التصريح الذي رأى فيه المراقبون توجهًا سعوديًا نحو الحل السياسي والتراجع عن الاستمرار في الخيار العسكري.
ومع عدم الإعلان رسميًا عن انسحاب قوات التحالف من اليمن يظل بقاء القوات السودانية كونها القوة الأكثر حضورًا بريًا وميدانيًا مسألة حيوية لتقوية الجبهة السعودية في عملية المفاوضات المستقبلية إن أرادت اللجوء للخيار السياسي، وهو ما تستغله الخرطوم وفق مصالحها لمزيد من الضغط على واشنطن لرفع العقوبات المفروضة عليها قبل نهاية أكتوبر الحاليّ، فهل يسعف الوقت البشير وحكومته لتحقيق أهدافه؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام القادمة.