شهدت محافظة إدلب، مساء الثلاثاء 27 فبراير/ شباط الجاري، حدثًا غير اعتيادي، إذ تجمهر المئات في ساحة الساعة وسط المدينة الخاضعة لإدارة “هيئة تحرير الشام” وأذرعها المدنية والعسكرية، وتعالت الهتافات لإسقاط زعيمها أبو محمد الجولاني.
وما أشبه اليوم بالماضي، سجون ممتلئة بالمناهضين والمطلوبين لـ”قضايا أمنية”، وهذه الكلمة كفيلة بأن تحرم الموقوف من أبسط حقوقه، وتعرّضه للتعذيب بأساليب تتشابه مع أساليب جلادي سجن صيدنايا، حتى أصبحت سياسة الحكم القسري بالترهيب والقمع في إدلب هذا اليوم، أشبه بحكم آل الأسد للبلاد طوال الـ 53 عامًا الماضية.
ورغم تعدُّد مطالب المتظاهرين، إلا أن أبرزها المناداة بهتافات الثورة الأولى، لكن هذ المرة “السوري يرفع إيدو… الجولاني ما منريدو”، محمّلين إياه تجاوزات وجرائم جهازه الأمني، وفساد أمراء تنظيمه وإدارتهم لحكومة الإنقاذ في الخفاء.
وفي حديث خاص لـ”نون بوست”، حمّل خالد الأحمد، وهو اسم مستعار لأحد النشطاء المنظمين للمظاهرة أخفى اسمه خشية الملاحقة الأمنية، مسؤولية فساد هيئة تحرير الشام وكافة المؤسسات والإدارات التابعة لها، لقائدها أبو محمد الجولاني.
وقال الأحمد: “الجولاني هو المسؤول المباشر عن كل ما يجري في المنطقة المحررة التي حارب فصائلها ولاحق أبناءها الثائرين في وجه نظام الأسد، واليوم يلفّق للقادة العسكريين في تحرير الشام وفصائل أخرى اتهامات العمالة والخيانة، تمهيدًا لإفراغ المنطقة مجددًا من أي قوة عسكرية قد تمنع زحف النظام السوري والميليشيات الموالية له إلى المدينة التي جمعت غالبية الثائرين ضده”.
وأضاف: “عن جهل أو عن عمالة لا فرق، والجميع يعلم أنه أطلق سراح العسكريين وأسقط التهم المنسوبة إليهم تحت ضغوط من داخل الهيئة ومن بعض الدول، واليوم نقف هنا مستندين إلى شهادة العاملين في الهيئة لما يجري داخل سجونها السرّية التي يشرف عليها جهاز الأمن العام، والذي قد يعتقلنا بعد مدة وجيزة إن لم تتخذ قيادة هيئة تحرير الشام إصلاحات عاجلة تبدأ بالإطاحة بالجولاني ومحاكمته، وحلِّ الجهاز الأمني الذي أجرم بحقّ السوريين”.
بدوره، أكّد الناشط محسن الفارس، وهو أيضًا فضّل ذكر اسم مستعار للأسباب ذاتها، أن الأحداث الأخيرة داخل صفوف الهيئة برهنت على وجود سجون سرّية، يمارس فيها الجلادون التعذيب بصلاحيات مطلقة.
وأشار إلى أن المسؤولين في جهاز الأمن العام لم يكتفوا بالشبح والضرب والحرق والخنق حدّ الاقتراب من الموت، وابتزوا الموقوفين لديهم أخلاقيًّا وجنسيًّا، وأجبروهم على الاعتراف بجرائم غير موجودة خشية أن تتعرض زوجاتهم أو عائلاتهم لأي ممارسات مهينة.
وعلّق الفارس بالقول: “195 قياديًّا من داخل هيئة تحرير الشام سرّبوا ما يجري في سجونها، فإذا كانت أساليب التحقيق المتبعة مع المحسوبين عليها ومع أبناء التنظيم الواحد بهذا الشكل الإجرامي، كيف ستكون بحقّ المدنيين أو العاملين في فصائل معارضة أخرى؟”.
واجتمعت مطالب جميع النشطاء والمتظاهرين على إسقاط الجولاني، وتشكيل قيادة جديدة للفصيل العسكري الأكبر في إدلب ممّن يتوافق عليها وجهاء وأعيان المنطقة لإسقاط حكم الأمر الواقع، وإجراء تغييرات جذرية تفصل بشكل تامّ بين التنظيمات العسكرية والإدارة المدنية، بحسب ما رصد مراسل “نون بوست”.
وطالب المتظاهرون أيضًا بتبييض السجون، خصوصًا المعتقلات السرّية، وتحويل كافة الموقوفين إلى محاكم مدنية يترأّسها قضاة من ذوي الاختصاص وخبراء القانون، إضافة إلى زيادة الغرف القضائية والإسراع بحلّ القضايا العالقة، والإفراج عن الموقوفين تحت الشبهات الذين لا دلائل تدينهم بارتكاب أي مخالفات أمنية أو التجاوز على الحقوق الشخصية.
وشدد المتظاهرون على ضرورة السماح بحرّية التجارة، ومنع العسكريين والأمنيين وأمراء الحرب من احتكار اقتصاد المنطقة بكافة جوانبه، مشيرين إلى أن فارق الأسعار للمحروقات والخبز والمواد الاستهلاكية الأساسية والمواد التموينية، لا يقلّ عن 25% بين المناطق الخاضعة لسيطرة تحرير الشام وخارجها كريف حلب الشمالي.
وقالت مصادر خاصة لـ”نون بوست” إن فرع المعلومات، أو ما يعرف بقسم الدراسات في وزارة الداخلية التابعة لحكومة الإنقاذ، بدأ بجمع معلومات وبيانات عن المشاركين في التظاهرة فور انفضاضها من ساحة الساعة وسط المدينة.
ورجّحت المصادر أن هيئة تحرير الشام تحاول ترهيب النشطاء والمنظمين والمشاركين في الغليان الشعبي ضدها كل على حدة، منعًا لاستمرارية النداءات المطالبة بإسقاط الجولاني، والتي قد يتسثمرها التيار المناهض للجولاني داخل تنظيمه في الانقلاب عليه، وإعلان “حركة تصحيحية” استجابة للمطالب الشعبية.
وأكّد عدد من المحتجين أنهم تلقوا عقب المظاهرة “تهديدات ناعمة” من قبل بعض كوادر هيئة تحرير الشام، حاولوا إقناعهم بأن استمرار الاحتجاجات سيؤدّي إلى انشقاقات في الهيئة وتنامي الخلاف الموجود أساسًا داخلها، ما قد يؤدّي في نهاية الأمر إلى اقتتال داخلي يستنزف المقدرات العسكرية، ويقلّل من القدرة الدفاعية عن المنطقة التي يعيش فيها اليوم أكثر من 3 ملايين سوري، غالبيتهم من المهجّرين والنازحين.
وخرجت مظاهرة مماثلة يوم الأحد 25 فبراير/ شباط الحالي في بلدة سرمدا بالقرب من الحدود السورية التركية، حملت المطالب ذاتها على خلفية الخلاف الحاصل بين الجناح العسكري للهيئة وجهازها الأمني، والذي فضح العشرات من ملفات الفساد التي يديرها الجولاني والمقرّبون منه.
وبدأت تلك الملفات تتكشّف للعلن قبل قرابة 3 أشهر، عندما وجّه الجولاني مدعومًا بتيار بنش في تحرير الشام، والذي يقوده أشقاء زوجته والمسيطرون على جهاز الأمن العام وبعض الألوية العسكرية والملفات الاقتصادية، اتهامات العمالة للتحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” ولقاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا وغيره.
ومنح أبو محمد الجولاني صلاحيات غير محدودة لجهازه الأمني باعتقال أي شخصية قيادية يرد ذكر اسمها في التحقيقات، واستخدام كافة الأساليب لانتزاع الاعترافات، وسرعان ما بدأ بالإفراج عن المتهمين مانحًا إياهم “صكوك براءة” ممّا نُسب إليهم، مدّعيًا في أكثر من موقف أنه لم يكن يعلم بوجود ظلم في سجونه، وأنه سيتولى بنفسه القصاص من المسؤولين الأمنيين لاستخدامهم التعذيب، متوعّدًا بمتابعة قضية الاتهامات الباطلة ومحاسبة من يقف وراءها.