ألسنا نعتقد أنّ الحبّ يعني تقبّل الشريك بمجمله قبل كلّ شيء، بإيجابياته وسلبياته، ضعفه وقوته، نزواته وأخطائه؟ إذن ففكرة تغيير الحبيب قد تتعارض مع مفهوم رومانسية الحبّ، وبالتالي، أن تحبّ يعني أنْ تتقبّله كما هو، دون أيّ رغبة في تغييره، أليس كذلك؟ ربما هذا ما يجعلنا نعتقد أنّ أيّ رغبة في تغيير الحبيب أو الزوج أو التلميح لها تتعارض مع روح الحبّ وأصله.
يرتبط الزواج الحديث بأذهاننا بتوقعاتٍ عالية يحملها كلٌّ من الشريكين تجاه الآخر، تنصبّ معظمها في تحصيل تقدّم جيد وتطوّر آخذ بالاستمرار على وجه حسن في العلاقة وأسلوب المعيشة، وفي حين الاصطدام بعكس تلك التوقعات تنشأ الخلافات، ويبدأ كل طرفٍ بإلقاء اللوم على الآخر بأنه السبب مطالبًا إياه بالتغيير سواء بشكلٍ جزئيٍ صغير أو بشكلٍ يراه الآخر كبيرًا وغير معقول.
قد تكون لحظات الحبّ الأولى مليئة بالمواقف التي شعرنا فيها بتقبّل الشريك لسلوكياتنا أو أفكارنا أو خيالاتنا التي لا نجد تقبّلًا لها من قبل الآخرين حولنا، وربما نكون قد نكون تعرّضنا للاستهزاء أو السخرية أو الإدانة بسببها، ولطالما حاولنا إخفاء الكثير من جوانبنا وشخصياتنا والتظاهر بأننا أشخاص آخرون لحماية أنفسنا منهم ومن نظراتهم وتعليقاتهم، إلى أنْ يأتي الشخص الذي يجعلنا نظنّ أنّ الحبّ عالمٌ مليءٌ بالتقبّل، والفهم، والتعاطف، والرضا، أو حتى الرغبة بوجود تلك السلوكيات والأفكار، فهو لا يهتمّ لطريقة لباسك ويتقبّلها كليًّا، يتجاهل ضعفك في نقطةٍ ما لأنّ ذلك ليس بالشيء الكبير، يدعم أفكارك ويشجعها وربما يراها هي السبب وراء حبّه وانجذابه لك.
ومن هذه النظرة الرومانسية تتولّد لدينا القناعة بأنّ الحبّ يعني فعليًّا تقبّل الآخر، بكلّ ما فيه الآن وما كان في الماضي وما سيكون في المستقبل، ووفقًا لذلك فإنّ أيّ محاولة للتغيير قد تأتي لاحقًا أو أيّ تلميح عنها قد يثير غضبنا أو انزعاجنا، وربّما نبدأ بالتفكير بكوننا اخترنا الشريك الخاطئ، وأنّ الحبّ ما هو إلا محض خيالٍ أو وهم.
على الطرف الآخر للمفهوم الرومانسيّ للحبّ، رأى قدماء الفلاسفة الإغريق أنّ الحبّ قبل كلّ شيء هو الإعجاب بالجوانب الجيّدة والإيجابية من الطرف الآخر، وبكلماتٍ أخرى، فإننا حين نحبّ فإننا نكون نبحث عن “الكمال” في حضرة شريكنا، ونفتّش عن الإثارة التي نقابلها مع كلّ اكتشافٍ لذكاء أو قوة أو لُطف أو صدق أو كرم الحبيب، وبالتالي فالحبّ عندهم ليس ظاهرة كيميائية غامضة لا يُمكن وصفها بالكلمات، إنما هو أن تُصاب بالدهشة ويتملّكك الإعجاب وينتابك الفضول حيال حبيبك.
تخبرنا الفلسفة الرومانسية للحبّ أنْ نغض الطرف عن نقاط الضعف والجوانب التي لا تعجبنا أو لا تُرضينا في الشريك، أو حتى أن نحتضنها ونرضى بها، لكنّنا ومع الأيام سنجد أنّنا قد نستطيع فعل ذلك مع عددٍ قليل فقط من تلك النقاط والجوانب ونتعايش معها، عدا عن ذلك فإنّنا معرّضون بأيّ لحظة للوصول للحظة التي نشعر فيها أنّنا وصلنا للحدّ الأقصى من التحمّل وكلّ شيءٍ عندها قد يكون معرّض للانفجار أو الانهيار.
وهنا ينشأ سؤال مهمّ قد نفكّر به كثيرًا، ألا نطمح نحن جميعًا لتغيير أنفسنا والوصول إلى نسخةٍ أفضل منّا دومًا؟ ألا نطمح لنكون في المستقبل أحسن مما نحن عليه الآن؟ فلماذا نلوم الحبيب أو الزوج على الرغبة في تغيير شيءٍ منا فينا حين يظنّ أنّ التغيير سيكون أفضل لنا وللعلاقة؟ ألسنا نحن الذين نعتقد أنّ ذلك الشريك هو أكثر من يفهمنا ويعرفنا بشكلٍ صحيح؟
لنعد إلى فكرة الحب الإغريقية التي وبناءً على الأسئلة السابقة، تخبرنا أننا بحاجةٍ من خلال الحبّ لأن نصل لمرحلة من تعليم الذات وتأهيل النفس، ونظرًا لكوننا جميعًا ناقصين فالعلاقة يجب أن تكون وكأنها فرصة للتعلّم والتعليم، نستطيع من خلالها أن نحسّن من أنفسنا ومن شركائنا، وبالتالي عندما يُخبر الفرد حبيبه بحقائق غير محبّبة لديه، أو تصرفات يبغضها فيه، فإنه بذلك لا يكون قد تخلّى عن حبه، وإنما يحاول أن يجعل من حبيبه محبوبًا أكثر.
وبذلك تصل بنا تلك الفلسفة لنتيجةٍ تخبرنا أنّ علينا ألّا نستاء من محاولة شركائنا في تغييرنا أو رغبتنا في تغييرهم، لأنّنا بذلك نكون نطمح لأن نصل بهم إلى نسخٍ أفضل من أنفسهم.
لكن لسوء الحظ وتحت تأثير الايديولوجية الرومانسية وعوامل كثيرة ظهرت في العصر الحديث، باتت العلاقات بعيدة كلّ البُعد عن مفهوم “التعلّم” أو “أكتشاف الذات” وتحسينها، وركّزت على التمرّد في رغبة الشريك بالتغيير واعتبارها انتقادًا وهجومًا على شخصيّاتنا أو عدم تقبّل ودليلًا على خفوت الحبّ وانتهائه.
الأهمّ من نظريات الحبّ والتغير تلك، هي أن نكون واعين لوجود خيطٍ رفيع بين التغيير الجيّد الذي يحسّن من ذواتنا ويغذّي العلاقة ويعززها، وبين التغيير السلبيّ الذي يسلب منا جزءًا من أنفسنا برغبةٍ أو من دون رغبة، ظانّين أنّ هذا من متطلبات الحبّ وأن العلاقة تستحق أنّ تتم التضحية لأجلها.
لا يوجد تعميم عن ماهية التغيير السلبيّ أو حتى الإيجابيّ، بالنهاية فالأمر يخضع للمعايير الفردية والشخصية التي تختلف من شخصٍ لآخر، ومن ظرفٍ لآخر، ومن زمن لآخر. مما لا شكّ فيه أنّ هناك أشياء لا يمكنك تغييرها في نفسك، كما أنّ هناك أشياء لا يُمكن لشريكك تغييرها في نفسه، وهذا صحيٌّ في العلاقة. لكنّ غير الصحيّ فيها أنْ يكون التغيير متطلّبًا للحبّ واستمراره. ما يمكن أن يتغير، وما الذي غالبًا يحتاج إلى تغيير، هو كيف تتفاعل مع شريك حياتك وكيف ترى في نفسك في حدود العلاقة وكل ما يتعلّق بها.
فكّر في الأمر حين يتم طرحه للنقاش، هل يندرج الطلب تحت بند السيطرة وحبّ التحكم، أم يندرج فعلًا تحت نطاق الرغبة في تحسين الشريك والعلاقة؟ حاول أن تجيب على ذلك السؤال قبيل بدئك بالامتعاض والغضب من رغبة شريكك في تغييرك، أو دخولك في حالة من التوتر لأنك توهّمت بأنه يحبّك أو أنّه قد تمّ خداعك.