تطورت اللغة التركية من بداية القرن الخامس عشر وحتى القرن العشرين بشكل ملحوظ وخاصة في مرحلة حكم الإمبراطورية العثمانية، التي اعتمدت على الحروف العربية بلغتهم وتداولت الكثير من المفردات العربية في أحاديثهم المحلية.
ولا بد من التذكير بأن اللغة التركية ارتبطت ارتباطًا ملحوظًا باللغة العربية وغيرها من اللغات الأجنبية مثل الفارسية والفرنسية. ويمكن تعليل هذا التشابه الواضح بين اللغات بالسنوات الطويلة التي عاشها الأتراك مع العرب في منطقة الأناضول، والسبب الآخر يعود إلى اعتناق العديد من الأمم من غير العرب للإسلام مما جعلهم بحاجة إلى تعلم اللغة العربية في محاولة منهم لفهم الثقافة والدين الإسلامي بكل تفاصيله.
ولفقر اللغة التركية في ذاك الوقت، اضطر الأتراك للاقتباس من اللغة العربية والفارسية لمواكبة التقدم الأدبي الذي حدث في القرن 15 الميلادي. أما عن وجود بعض الألفاظ الفرنسية في اللغة التركية فهذا يعود إلى البعثات التعليمية التي كانت ترسلها الدولة العثمانية إلى فرنسا، وبعدها يعود أبنائها إلى أرض الوطن مبهورين بالأدب الفرنسي، وهذا ما جعلهم يقتبسون بعض المفردات الفرنسية للغتهم.
وبهذا يمكن فهم هذا الخليط التاريخي والثقافي من المفردات الأجنبية المستخدمة في اللغة التركية. إذ يصل عدد الكلمات التركية إلى 111 ألف و27 كلمة، منها 14 ألف كلمة أجنبية واتخذت من اللغة العربية 6467 كلمة. ومع المساحة الكبيرة التي تتمتع بها المفردات الأجنبية في القاموس التركي إلا أنه في السنوات الأخيرة ظهرت حركة باسم “أوز تركي” بمعني تنقية اللغة التركية من الكلمات الأجنبية واستبدالها بكلمات تركية على قدر المستطاع. وهذا بحسب مؤسسة اللغة التركية.
الانقلاب اللغوي
أطلق هذا المصطلح “الانقلاب اللغوي” على الفترة التي تم الاعتراف بقانون رقم 1353 في تركيا والذي ينص على استخدام الحروف التركية الجديدة بشكل عام بدلًا من الأحرف العربية وذلك بدءًا من 1 نوفمبر 1928.
بعد أن كتبت اللغة العثمانية بالأبجدية العربية على مدار 900 عام من الحكم أي منذ القرن العاشر، ظهرت جماعات تطالب بتغيير الحروف العربية وجماعات أخرى تنادي بإقرار الحروف اللاتينية في القرن 13، وهو ما تبنته السلطات بالفعل مستغنية عن الحروف العربية.
حدث هذا التحول اللغوي بسبب الانبهار الكبير الذي كان يشعر به الأتراك تجاه الثقافة الغربية وإيمانهم بالتفوق الأوروبي، فلقد كانت فئة المثقفين في تركيا ملمة باللغة الفرنسية والتي كانوا يستخدموها في أحاديثهم وكتاباتهم. وخاصة أن هذه الفئة كانت مقربة من الاتحاد والترقي والذين حاولوا التعريف بهوية تركيا بعيدًا عن الإسلام، ولم يكن هذا ليحدث سوى بالتخلي عن الأبجدية العربية.
بدأ الحزب الشعب الجمهوري بتغييب اللغة العربية كتابتًا وقراءة، إذ منع التدريس أو نشر الصحف باللغة العربية، كما أمر بتتريك الآذان واعتبر رفعه باللغة العربية جريمة بحق القانون لمدة دامت إلى 18 عام
بعد أعوام من حكم مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك، وعدة محاولات لاقتراح هذه الفكرة ومناقشتها مع بعض الأدباء والصحفيين، قام المجلس القومي التركي الكبير بإصدار قانون إداري ينص على استخدام الأرقام الدولية في الدوائر الرسمية والحكومية، ولم يحدث هذا القرار أي رد فعل يذكر.
وبعدها قام أتاتورك بإعلام الشعب بجميع الولايات بالحروف الجديدة، حتى بدأ الناس يتعلموها ويجتازون الامتحانات اللازمة لإتقانها واستخدامها في المدارس.
وتدريجيًا بدأ الحزب الشعب الجمهوري بتغييب اللغة العربية كتابتًا وقراءة، إذ منع التدريس أو نشر الصحف باللغة العربية، كما أمر بتتريك الآذان واعتبر رفعه باللغة العربية جريمة بحق القانون لمدة دامت إلى 18 عام، وذلك حتى مجيء رئيس الوزراء عدنان مندريس الذي أمر برفع الآذان باللغة العربية من جديد وفتح مراكز تعليم اللغة العربية وغيرها من المؤسسات الدينية التي تعتمد على اللغة العربية بشكل أساسي مثل كليات الإلهيات أو الشريعة ومدارس أئمة الخطيب.
انتشار اللغة العربية في تركيا
عندما تولي حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم كشف عن تصوراته وميوله إلى الماضي العثماني والهوية الإسلامية ويمكن ملاحظة هذا من خلال الانتشار الواسع الذي تتمتع به اللغة العربية في الوقت الحالي على الأراضي التركية. ويمكن تفسير هذه العودة الكبيرة للغة العربية إلى تركيا بأسباب سياسية أولًا واقتصادية وإعلامية.
ففي خطاب لأردوغان يقول فيه “بسلبكم اللغة من مجتمع ما، تكونون قد سلبتموه حضارته وذاكرته. أقول هذا باعتبارنا أمة دفعت الثمن غاليًا لسلبنا لغتنا. فالاعتداء على لغة مجتمع ما، يعني الاعتداء على دين هذا المجتمع، وثقافته وفنونه وآدابه”، ويتساءل “هل هناك شعب في العالم لا يستطيع أبناؤه أن يقرؤوا لغة أجدادهم التي كتبت قبل مئة عام فقط؟”
بعد سنوات من حظر لغة الضاد وحصرها في المؤسسات الدينية، أعلنت وزارة التربية والتعليم التركية إضافة اللغة العربية في المدارس العام الماضي، ووضحت الوزارة أن دروس اللغة العربية ستكون اختيارية لمن يرغب بتعلمها.
تأسيس الجامعة جاء لتلبية حاجات الطلاب العرب في تركيا، إضافة إلى توجيهات الرئيس (التركي) رجب طيب أردوغان، بتأسيس جامعات عربية تضم أكاديميين وطلاب عرب، لضمان عدم هجرتهم إلى الدول الأخرى
وفي تصريح آخر قالت “إن اللغة العربية التي يتم النطق بها كلغة أم من قبل 350 مليون شخص في 22 دولة، تعد إحدى اللغات الستة الرسمية المعترف بها من قبل الأمم المتحدة. وتأتي الأسباب التاريخية والثقافية على رأس الأسباب التي تستدعي تعلم اللغة العربية المهمة بالنسبة للدين في الدول المسلمة. وازدياد أهمية المنطقة التي تتكلم باللغة العربية يومًا بعد يوم بسبب الأهمية الجيوسياسية والاستراتيجية، تجبر على تعلم العربية لأغراض اقتصادية وسياحية وتجارية وسياسية إلى جانب الأسباب الدينية. وتواجد آثار عربية عديدة في ميراثنا الثقافي، يجعل هذه اللغة مهمة من ناحية تاريخنا”.
وفي نفس العام، أعلنت 8 جامعات في مختلف الولايات التركية عن إدراجها تخصصات علمية وأدبية باللغة العربية وذلك مراعاة للطلاب العرب الموجودين في تركيا.
إذ قال مدير جامعة “الأمة للعلوم التكنولوجيا” خليل الحمداني لموقع الأناضول إن “تأسيس الجامعة جاء لتلبية حاجات الطلاب العرب في تركيا، إضافة إلى توجيهات الرئيس (التركي) رجب طيب أردوغان، بتأسيس جامعات عربية تضم أكاديميين وطلاب عرب، لضمان عدم هجرتهم إلى الدول الأخرى والاستفادة من خبراتهم العلمية”.
ومن جانب آخر، تقوم تركيا بتنظيم مشاريع تستقطب فيها المعلمين العرب للتدريس في جامعاتها ومدارسها، خاصة بعد هجرات النازحين العرب من العراق وسوريا وليبيا. ومن هذه الفعاليات “قرية اللغة العربية” التي انضم إليها أكثر من 62 ألف طالب. يهدف هذا المشروع إلى جذب الراغبين بتعلم اللغة العربية بإتقان قراءة واستماعا ومحادثة، دون الحاجة إلى السفر إلى الدول الناطقة بالعربية، فهي توفر للطلاب برنامجًا كاملًا من الأنشطة والدروس والحوارات التي تضمن تعلمهم اللغة العربية بالشكل المطلوب.
كما يمكن ملاحظة الوجود العربي ولغتهم بانتشار المترجمين العرب والأتراك المتحدثين باللغتين في الدوائر الحكومية أو المناطق السياحية والمؤسسات التجارية والاقتصادية، كما بدا واضحًا انتشار اللغة العربية بشكل ملفت وذلك من خلال لافتات المحال التجارية والإعلانات التسويقية الموزعة في الطرق وجميع أنحاء المدن التركية تقريبًا.
كما فرضت اللغة العربية وجودها من خلال الفعاليات والمعارض التي تقام باسم عربي أو استهدافًا للعرب، هذا ولقد ازداد عدد المكتبات ودور النشر العربية، إضافة إلى الأمسيات الشعرية والأدبية والأغاني العربية التي تصدح في الأنحاء التركية. واثبتت اللغة أيضًا نفسها عندما توسعت لتُدرس في مراكز خاصة وعن طريق دورات تقوم بها البلديات بشكل مجاني أو مخفض.
بعد أن جمع التاريخ والدين واللغة بين الأتراك والعرب لسنوات طويلة، عادت العلاقات الاقتصادية لتجمع بين الطرفين من جديد. فمن بين العرقيات المختلفة الموجودة في تركيا، يمثل العرب ثالث أكبر عرقية من إجمالي عدد السكان وفي تقارير أخرى تشير إلى أن عدد العرب الساكنين في تركيا وصل إلى 8 مليون عربي، إلا أنه لم يتم اثبات هذا الرقم من جهات حكومية أو أكاديمية.
وبسبب تفضيل الكثير من العرب لتركيا وقدرة تركيا على جذب العرب بالمقابل، أظهرت الإحصائيات أن التعاون بين تركيا والدولة العربية في ازدياد ملحوظ وهذا من ناحية السياحة والاستثمارات، فلقد زار تركيا 7 مليون عربي في السنوات الثلاثة الأخيرة، و3 مليون عربي خلال العام الحالي والذين يشكلون 40% من 42 مليون زائر يزور تركيا كل عام.
وبهذا تمكنت تركيا من استغلال النقاط المشتركة بينها وبين العرب من تاريخ ولغة، واستطاعت أن تجعل أراضيها خصبة بالمشاريع الأجنبية والاستثمارات المختلفة معتمدة على الروابط التاريخية التي أورثتها مليارات الدولارات في ميزانيتها.