لقد أصاب “أينشتاين” حينما تنبأ من خلال معادلاته عن النسبية بوجود تموجات في نسيج الزمان والمكان “الزمكان” إلا أنه أخطأ في عدم إيمانه بأن البشرية قادرة بالفعل على الإمساك بها، أي اكتشافها ودراستها وبدأ عصر جديد للبشرية يبدأ تاريخه من اكتشاف الموجات الثقالية، وصلت الموجة الثقالية تلك لمرصد ليجو LIGO الذي تشارك مؤسسوه ومديروه -راينر وايس، باري باريش وكيب ثورن- أمس جائزة نوبل في الفيزياء لعام 2017.
لقد قام أينشتاين بتحديد مفاهيم الزمان والمكان بالنسبة للكون من خلال نظرية النسبية، إذ أشار إلى أن فهمنا للأمور يختلف تمامًا عن طبيعتها، أي مفهومنا عن الزمان والمكان يختلف أيضًا عن طبيعتهما على أرض الواقع، فالزمان ليس شيئًا مستقيمًا مستمرًا كما نتخيله، فلنتخيل الكون قطعة قماش مشدودة الأطراف من كل طرف ولنتخيل ما الذي يمكن أن تفعله كرة وزنها بضعة كيلوغرامات حين وضعها في أي مكان على تلك القماشة المشدودة.
أصاب أينشتاين في وجود الموجات، ولكنه أساء تقدير قدرات البشر في رصدها وقياسها، منذ أن توقع أينشتاين وجود هذه الموجات – ضمن نتائج منظومة النسبية العامة خاصته- وصعوبة قياسها بشكل مباشر
ستنجح الأخيرة في أن ينحني نسيج القماش لأسفل، فكرة أينشتاين عن النسبية هي أن المكان والزمان هما الكون نفسه، أي أن نسيج القماش هو “الزمكان” ( Space-Time)، الزمكان هو النسيج الذي يصنع الكون، الزمكان هو الكون نفسه، وأي جرم سماوي، كان كوكبًا أو نجمًا أو نحن، يعيش بداخل هذا النسيج.
يشرح هذا الفيديو الفكرة بشكل مبسط، مستخدمًا كرات حديدية ذات أوزان مختلفة، في البداية كان لدينا كرة حديدية واحدة على نسيج القماش، والتي تسببت في انحناءه قليلًا، أو انحناء “الزمكان” كما هو مذكور سابقًا، الفيديو يشرح حالة مختلفة من مجيئ كرات ذات أوزان مختلفة لتضرب الكرة الحديدية الموجودة بالأساس.
اصطدام الكرات ببعضها سيولد موجات واهتزازات، هنا تحضر النسبية العامة لتشير بأنه في بعض الحالات الكونية شديدة التطرف، كارتطام الثقوب السوداء أو النجوم النيوترونية ببعضها البعض، أو كإنفجارات النجوم التي نسميها “المستعرات العظمى (Supernova)”، يتسبب ذلك الاضطراب الشديد في صنع موجات تسري بنسيج الزمكان ويشبه الأمر أن تُلقي بصخرة في حوض كبير به ماء فتنشأ من أثر ذلك موجات.
بداية القصة
صورة لامتداد مرصد لايجو بطول 4 كيلومترات لكل أنبوبة
تبدأ القصة من حدث قادر على هز الكون من العمق.، تملك أي كتلة القدرة على إحداث موجات ثقالية إلا أن أهم هذه الموجات هو أعنفها، في هذا السياق فإنك تبحث عن حدث يمتلك من العنف والطاقة ما يجعله يؤدي لتموج نسيج الكون تموجًا ملحوظًا وواضحًا. قد يكون الأمر نظامًا نجميًا ثنائيًا، تصادم نجوم نيوترونية، ابتلاع أحدث الثقوب السوداء لنجم أو اصطدامها بثقب آخر، أي من هذه الأحداث التي تتعلق بأجسام ذات كتلة ضخمة يمكنها أن تؤدي لموجة قوية من هذا النوع.
أصاب أينشتاين في وجود الموجات، ولكنه أساء تقدير قدرات البشر في رصدها وقياسها، منذ أن توقع أينشتاين وجود هذه الموجات – ضمن نتائج منظومة النسبية العامة خاصته- وصعوبة قياسها بشكل مباشر، استكان العلماء في علم الموجات الثقالية للقياسات غير المباشرة أو الاستنباطية، و مع تطور أجهزة المراقبة والمراصد أمكن قياس مدى فقدان بعض الأنظمة –كأنظمة النجوم الثنائية-للطاقة ومقارنة هذا الفقدان بما تتنبأ به معادلات أينشتاين من طاقة مفقودة على هيئة موجات ثقالية، كان التطابق هو أول شاهد عيان، وهو ما حصل بسببه راينر وايس، باري باريش وكيب ثورن على جائزة نوبل.
ما الذي فعله فريق نوبل؟
الفريق الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 2017
قرر فريق نوبل 2017 أن يبدأ من جهاز معروف من قبل يسمى “مقياس التداخل (Interferometer)، وهو أن تستخدم مرآة نصف عاكسة (مرآة تعكس بعض الضوء وتمرر البعض الآخر) لتفريق شعاع الضوء إلى خطي سير متساويين في الطول تمامًا بدقة شديدة للغاية ومتعامدين معًا بدقة شديدة للغاية، ثم الانعكاس على مرايا دقيقة في نهاية كل مسار، والعودة مرة أخرى إلى المصدر.
يأتي لايجو (المرصد) ليتبع آلية جديدة، فهو لا يرصد إشعاع الجرم السماوي، وإنما يرصد أثره الجذبوي على الزمكان رباعي البعد، سوف تمكننا تلك التقنية الجديدة والمختلفة كليًا أن نصل إلى مستوى مختلف من الرصد
ما أبدع فيه فريق نوبل ليس إذن في هذه الآلية بقدر ما هو في مدى الدقة التي وصلت لها تلك التقنيات، قوة وضبط شعاع الليزر، ضبط المرايا، ضبط طول المسارات، ضمان عدم حدوث أي اهتزاز.
إن مرصد موجات الجاذبية هو أدق مصيدة في تاريخ البشر، لذلك اتخذ الآمر أربعين عامًا كاملة من الضبط والتجريب وإعادة الضبط وإقامة مشروع كامل بأكثر من ألف عامل بين عالم ومهندس ورجال إدارة ثم صنع نسخة أخرى منه على بعد 3000 كيلومتر من أجل مقارنة النتائج، فقط لالتقاط تلك الموجات الدقيقة.
يأتي لايجو (المرصد) ليتبع آلية جديدة، فهو لا يرصد إشعاع الجرم السماوي، وإنما يرصد أثره الجذبوي على الزمكان رباعي البعد، سوف تمكننا تلك التقنية الجديدة والمختلفة كليًا أن نصل إلى مستوى مختلف من الرصد، سوف نتمكن من التعرف بدرجة دقة أعلى على آليات عمل الثقوب السوداء، النجوم النيوترونية، الاضطرابات الكمومية في بدايات الكون، الانفجار العظيم بأول تاريخ الكون، والثقوب السوداء في باطن المجرات.
فيديو يشرح طريقة قياس مرصد “لايجو” للموجة الثقالية ويتتبع القصة من بداية قياس موجات الجاذبية
في الرابع عشر من سبتمبر وقبل ثلاثة أيام فقط من بدأ العمل الرسمي للمرحلة الأحدث من مراحل تجديد ليجو Advanced LIGO، التقطت مكونات المرصد الحساسة أول موجاته الثقالية، تلا الأمر موجة ثانية في ديسمبر 2015 وثالثة في يناير 2017، هكذا واجه وايس، ثورن وباريش التحدي الأخير الذي طرحته نظرية النسبية العامة وهكذا تمكنوا من النظر مباشرة لأحد أكثر توقعات أينشتاين عمقًا وتجريدًا، ليتمكنوا من تأسيس بداية عصر جديد لدراسة الكون بطريقة مختلفة تمامًا.
يقول “راينر وايز” في إحدى مقابلاته أنه يتمنى أن يرى وجه “أينشتاين” الآن، فكل ما جاء فريق نوبل باكتشافه كان بفضل أسرار معادلاته التي تبعها أسرار الطبيعة التي إكتشفها الفريق، حيث عبر “وايز” عما حدث بأنها بمثابة المعجزة بالنسبة إليه، وعلى كل شخص يعيش في هذا العالم أن يشعر بالفخر بسبب هذا الإنجاز.