ترجمة وتحرير نون بوست
كان مهرجان المهرّجين الدولي بمثابة قافلة محملة بالضحك والحق في الحياة، تنقلت إلى الأراضي الفلسطينية. وشارك في هذه التظاهرة حوالي 43 فنانا، لمدة 10 أيام جابوا خلالها مستشفيات ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وفي هذا الصدد، تحدث مدير المهرجان، إيفان برادو، عن 14 سنة قضاها في مجال عروض السيرك في الأماكن الأكثر اضطهادا في العالم.
في خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وتحديدا خلال سنة 2003، تمكن إيفان برادو من بث البهجة والفكاهة في قلوب الفلسطينيين في الوقت الذي كان صوت قذائف الهاون الإسرائيلية على غزة يطغى على الأجواء. في المقابل، لم تمنع هذه الظروف برادو من تقديم 28 عرض سيرك على مدار 26 يوما في شهر نيسان/ أبريل من تلك السنة. والجدير بالذكر أن برادو قد بادر بتأسيس مجموعة “المهرجين المتمردين”، فور عودته إلى إسبانيا.
في سنة 2009، هددت السلطات الإسرائيلية بطرد برادو من البلاد، في حال لم يمتثل إلى أوامر إحدى العاملات في المطار. وتمثل طلبها في الدخول إلى حساب البريد الإلكتروني الخاص به عبر جهاز حاسوب مدته به. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد طُلب من برادو أن يكتب كلمة السر على مرأى من هذه العاملة في المطار. في السياق ذاته، لم تتوقف مثل هذه التهديدات عند هذا الحد، فقد أقدمت عاملة المطار ذاتها على حث برادو على الانصياع إلى الأوامر ذاتها بعد سنة من هذه الحادثة، في خضم زيارة إلى الأراضي المحتلة من جديد. وبمجرد أن وطأت قدما برادو أرض مطار بن غوريون، ألقي عليه القبض وتم استجوابه، ومن ثم نقله إلى السجن.
في الأثناء، لم تنتهي معاناة برادو بعد، فقد وقع طرده في اليوم الموالي من الأراضي الفلسطينية المحتلة، مصحوبا بأزياء المهرج. عموما، لا يمكن حصر عدد المظالم والانتهاكات التي عاشها إيفان برادو على يد المحتل الإسرائيلي. لكن، هذه العقبات لم تثن مدير مهرجان المهرّجين الدولي، إيفان برادو، في حين لم يتخل عن القضية التي تحمّسه، ألا وهي محاربة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وذلك من خلال سلاح فتاك، يتمثل في “فنون السيرك”.
في هذه السنة، تزامن وجود الوفد الدولي، المكون من 43 فنانا من إسبانيا، وكولومبيا، والبرازيل، مع إعلان حركة حماس عزمها على تحقيق المصالحة مع حركة فتح وإنهاء الانقسام الذي شهدته المقاومة الفلسطينية
بعد عودته من الجولة الأخيرة لقافلة “فيستكلون” في الأراضي الفلسطينية، وفي إحدى مقاهي مدينة ريفاس المدريدية، تطرق برادو إلى تجربته، والأسباب التي دفعته صحبة فريقه إلى التنقل لتقديم ورشات عمل، فضلا عن عرض أعمال بهلوانية أو قيادة جولات في الشوارع في المناطق الأكثر اضطهادا في العالم. والجدير بالذكر أن فريق برادو المتكون من مجموعة كانباهيوتا البرازيلية، ومجموعة تشيمينيغاغوا الكولومبية، وغيرها… قد جاب المستشفيات، والمدارس، والجامعات، ومخيمات اللاجئين في المدن الفلسطينية التي تشهد أشد حالات الحصار، ألا وهي القدس، وبيت لحم، والخليل، ورام الله ونابلس.
في هذه السنة، تزامن وجود الوفد الدولي، المكون من 43 فنانا من إسبانيا، وكولومبيا، والبرازيل، مع إعلان حركة حماس عزمها على تحقيق المصالحة مع حركة فتح وإنهاء الانقسام الذي شهدته المقاومة الفلسطينية. وفي هذا الصدد، أشار برادو إلى أنه، في ذلك الوقت، “كان السكان سعداء، لكن لم يعبر أي منهم عن فرحته”.
وأضاف برادو أنه “بما أننا نزور فلسطين سنويا، صادف وأن تزامن وجودنا أيضا مع منح الأمم المتحدة فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو بعد تصويت تاريخي في الجمعية العامة خلال سنة 2012. وعلى الرغم من حالة التجاوب والفرح الشعبي بعد هذا القرار، لكن الاحتفال كان محتشما نوعا ما. ويعزى ذلك إلى أن الفلسطينيين قد انهكوا جراء المعاناة التي يعيشون في ظلها إلى درجة قصوى. فضلا عن ذلك، وعلى الرغم من التقدم المحرز، إلا أن هناك درجة كبيرة من التجاهل من قبل المجتمع الدولي للقضية الفلسطينية”.
الضحك والأعمال البهلوانية سلاح جديد ضد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين
السيرك بمثابة دواء لجروح الاحتلال
في الواقع، ترك المهرجون المتمردون خلال السنوات التي زاروا فيها الأراضي الفلسطينية، أثرا عميقا في سكانها. وفي هذا السياق، صرح برادو، قائلا: “كلما غادرنا مكانا، كنا نشعر أن الأشخاص في حاجة إلى أن نعود مرة أخرى لزيارتهم. وفي كل مرة، يستقبلنا الفلسطينيون بحفاوة. فضلا عن ذلك، نعد الجهات الأجنبية الذي يحن الفلسطينيون إلى لقائها أكثر من أي طرف آخر”.
ومن المثير للاهتمام أن أحد الأهداف ذات الأولوية لمبادرة التضامن الدولية، تتمثل في “التشجيع على المشاريع الفنية الصغرى”، من أجل العمل بشكل مستقل. وأورد برادو أن “الفلسطينيين يملكون مدرستي سيرك كبيرتين، التي نتعاون معها في كل سنة من أجل القيام بنشاطات وتدريبات”.
والجدير بالذكر أن من بين هذه المشاريع الفنية الصغرى، مدرسة سيرك فلسطين في بيرزيت بالقرب من رام الله. وفي صلب هذا المشروع، يعمل أحد الشباب الفلسطيني، وهو محمد أبو سخا، الذي اعتقلته السلطات الإسرائيلية لمدة 20 شهرا، من دون إثبات أي تهمة ضده، تحت صيغة “الاحتجاز الإداري”. وفي إطار الرحلة الأخيرة لفريق “المهرجين المتمردين”، تمكن برادو من لقائه مجددا.
في هذا الصدد، أفاد إيفان برادو، أن “محمد أبو سخا قد شارك في إحدى الورشات التي نظمتها في جنين خلال سنة 2009. وفي ذلك الوقت، كان محمد يبلغ من العمر 16 سنة، وينشط مع مجموعة من أصدقائه، الذين لا ينفصلون عن بعضهم البعض، إلا حين سجن أبو سخا. ومن الأمور التي دائما ما تثير اهتمامي، الالتقاء بهذا الشاب وعائلته والتأمل في البيئة التي يعيش فيها”.
في شأن ذي صلة، لاقى هذا الشاب تعاطفا كبيرا بعد اعتقاله. وفي هذا الإطار، قادت منظمة العفو الدولية أول مبادرة للتدخل وإنقاذ محمد أبو سخا، الذي اعتقله الجنود الإسرائيليون في 15 من كانون الأول/ يناير، أثناء مغادرته منزل والديه، عبر إطلاق حملة للمطالبة بالإفراج عنه. ومن جهته، ساند برادو قضية أبو سخا.
في هذا الإطار، أورد برادو أن “نظام الإرهاب العالمي يرتكز على إستراتيجية الخوف والتخويف… ويتغلغل الخوف في نفوس الأفراد انطلاقا من عملية التضليل”. في الوقت ذاته، أشاد برادو بدور منظمته في إدانة ما حدث في فلسطين خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وغيرها من الأماكن التي ينتشر فيها الظلم. وذلك من خلال جولة المنظمة التي قامت بها خلال سنة 2003.
كانت أول مرة تخرج فيها قافلة فيستكلون في سنة 2003، لتقديم العروض، ولم يكن هناك عدد كبير من المهرجين الذين يريدون العمل في مناطق النزاعات والحرب
وأضاف مدير مهرجان المُهرجين الدولي، أن “الأماكن التي يكافح فيها الأفراد من أجل تغيير العالم، غنية بالقصص المثيرة التي تكتسي أهمية بالغة مقارنة بالأخبار السلبية التي تصل إلى العالم حولها”. وفي السياق ذاته، كشف برادو أن “هدفنا الأول والأساسي يتمثل في توجيه أنظار العالم إلى هذه الحقائق على غرار حركة الفلاحين الذين لا يملكون أرضا في البرازيل، وقضية الصحراء الغربية، أو القضية الفلسطينية، أو قضية الأمريكيين الأصليين”. وأردف مدير المهرجان أنه “في نهاية كل جولة سيرك، يطلب منا المتفرجون العودة في أقرب وقت ممكن. ويتمثل الدافع الدافع وراء ذلك في أن الفرح الذي تولده عروض السيرك يغذي روح المقاومة لدى هذه الشعوب، ويجعلها تؤمن بأن الغد يمكن أن يكون أفضل”.
التمرد الذي ولد من بين القنابل
على العموم، تولد هذا التمرد في صفوف هذه المجموعة، عقب رحلة أداها برادو إلى تشياباس (المكسيك)، في الفترة التي تلت تكوين جيش زاباتيستا للتحرير القومي، وتحديدا خلال سنة 1995. وبعد سنة من عودته من هذه الرحلة، أسس إيفان برادو مجموعات فكرية، كما شارك في إدارة التعاونية الثقافية “كولتورا أكتيفيا”.
في هذا السياق، أوضح برادو أن “الفكرة الرئيسية كانت تتمحور حول قيادة تحول اجتماعي من خلال التعاون مع حكومات يسارية، لا ترى الثقافة على أنها مكان ينفق فيه المال، بل تعتبرها أداة ثورية لبناء المجتمع، والديمقراطية ونشر الفرح”. ومن هذا المنطلق، وُلد مهرجان المهرجين الدولي، وقافلة فيستكلون، التي تحولت إلى إحدى أهم مشاريع برادو.
في الأثناء، كشف برادو أن “هذه القافلة تمكنت من حشد حوالي 50 ألف متفرج. وفي كل مرة، كنا نخصص عائدات العروض من أجل تأسيس مشروع جديد مثل راديو زاباتيستا. وإثر النسخة الثالثة لهذا المهرجان، قررنا إرسال مهرجين إلى فلسطين. وفي أعقاب التنسيق مع مجموعة “مهرجون بلا حدود”، أدينا الزيارة الأولى إلى فلسطين”.
في واقع الأمر، كانت أول مرة تخرج فيها قافلة فيستكلون في سنة 2003، لتقديم العروض، ولم يكن هناك عدد كبير من المهرجين الذين يريدون العمل في مناطق النزاعات والحرب. وفيما يتعلق بالمصاعب التي واجهها فريقه، أوضح برادو، قائلا: “كنا نعمل تحت وطأة التفجير في قطاع غزة. فضلا عن ذلك، كانت قنابل الهاون تتساقط بالقرب من مقر بلدية المدينة. كما كنا شهود عيان عندما قطعت ذراع سائق الإسعاف جراء التفجيرات عند نقله لنا إلى رام الله”.
وأردف برادو، أنه “بالإضافة إلى ذلك لاحقتنا في إحدى المناسبات دبابة في بيت لحم عندما كنا نهم بمغادرتها. كما لم نتمكن من القيام بورشات العمل لأن حظر التجوال كان عشوائيا. وقد حال ذلك دون وصول المتساكنين إلينا”. وأضاف برادو أنه “في غزة، اكتشفت أهمية المهرج والسيرك. فضلا عن ذلك، فهمت أهمية الضحك وقدرة السيرك على علاج النفوس”. وبناء على ذلك، نشأت مجموعة أخرى، التي أصبحت روح المهرجان، ألا وهي مجموعة “المهرجين المتمردين”.
من ناحية أخرى، عاد برادو من تجربته التي خاضها ضمن رحلته إلى فلسطين، خلال الانتفاضة الثانية، وهو في حالة “غضب من الإنسانية”، ويحمل صورة مشوهة عنها. وتعليقا عما شاهده خلال تلك الحرب، أفاد برادو، قائلا “خلال تلك الفترة، شاهدت كيف أرغم جيش الاحتلال المرضى على الخروج من سيارات الإسعاف من أجل تسجيل العربات في نقاط التفتيش. علاوة على ذلك، عاينت كيف يترك جنود الاحتلال المرضى ينتظرون لثلاث ساعات في درجة حرارة تعادل الأربعين. لقد كان ذلك من أقصى حالات القمع، بالنسبة لي، فضلا عن فريقي”.
في هذا الصدد، كانت الفكاهة في المناطق الأكثر اضطهادا بمثابة آخر الممتلكات التي يعمل المتساكنون على انتزاعها من براثن الحرب. ووفقا لبرادو، كان سكان غزة، خلال أيام الانتفاضة الثانية، يعمدون إلى محاكاة أصوات ضجيج الطائرات، مما أفزع أحد المهرجين في إحدى الليالي. وفي هذا الصدد، أخبره سكان غزة أنهم “يسمعون صوت طلقات الرصاص في كل الأماكن. وقد أصبح ذلك بالنسبة لنا أشبه بصوت الألعاب النارية، أو صوت الموسيقى الليلية”.
ما يتعلمه المهرجون من البسطاء في كل مرة، يحفزهم على مواصلة مسيرتهم. من جهة أخرى، تساعدهم ورشات العمل والدورات التي يشرفون عليها، إلى جانب بعض المساعدات
في الواقع، ووفقا لبرادو، تعتبر المجتمعات التي تخاطر بحياتها في كل يوم، هي أكثر سخاء، وحيوية، وعطفا من أولئك الذين يعيشون في المجتمعات المستهلكة”. وفي نهاية حديثه، أقر المسرحي الجاليسي، بأنه “بالنسبة لهؤلاء الفنانين، يعد نشر الضحك والبسمة في مخيمات اللجوء، بمثابة “حب ثوري””.
لعل أبرز تجلي لما قاله برادو، يكمن في إحدى الوقائع التي حدثت معه خلال السنة الماضية في مخيم ايدوميني، على الحدود بين اليونان ومقدونيا. وفي هذا الصدد، أورد برادو أن “المخيم كان يضم حوالي خمسة آلاف شخص، كما كان هناك عدد كبير من الأطفال حافي الأقدام. وبعد أن نزعت حذائي… اقترب مني أحد الأطفال وقدم لي حذاءه. حقيقة، يعكس هذا الأمر درجة رأفة وسخاء المضطهدين”.
وأضاف برادو أنه “في الواقع، في هذه العوالم، لا يعرف الأشخاص ما إذا كانوا سيتمكنون من تناول وجبة الغذاء في اليوم الموالي، أو هل سيتم اعتقالهم أو هل ستقع قنبلة فوق رؤوسهم. ولكن وعلى الرغم من كل ذلك، يعتبر هؤلاء الأشخاص الأكثر سخاء، وعفوية، وبهجة، ومرحا على الإطلاق”.
على العموم، يمكن القول إن ما يتعلمه المهرجون من البسطاء في كل مرة، يحفزهم على مواصلة مسيرتهم. من جهة أخرى، تساعدهم ورشات العمل والدورات التي يشرفون عليها، إلى جانب بعض المساعدات، على تمويل مشاريعهم. وقبل نهاية هذه السنة، سيكون لمهرجان المهرجين الدولي، عروض في الصحراء الغربية، وتشيلي، وكولومبيا والبرازيل.
المصدر: بوبليكو الإسبانية