تسبّبت الحرب الدائرة في سوريا على مدار عقد من الزمن في مضاعفة معاناة المسنين، والتي تزامنت مع تردّي الظروف المعيشية في المنطقة، وبسبب فقدهم لذويهم نتيجة ظروف التهجير وإغلاق الحدود، حيث شكّلت دور المسنين ملاذًا لكبار السن في تقديم الخدمات والرعاية لهم.
ويعيش المسنون في شمال غرب سوريا ظروفًا إنسانية صعبة، خاصة ذوي الاحتياجات الخاصة منهم، بسبب حملات التهجير والآثار المدمرة لزلزال 6 فبراير/ شباط من العام الماضي، فهم بحاجة رعاية خاصة بسبب بنيتهم الضعيفة، حيث كانوا عرضة للإصابة بالأمراض المزمنة والأمراض التنفسية الحادة التي انتشرت مؤخرًا في المنطقة.
معاناة إنسانية
ألقت ظروف التهجير بالحاج خليفة العلي إلى مخيم الأندلس في منطقة زردنا شرقي إدلب، حيث يعيش ظروفًا إنسانية صعبة، فهو بحاجة كافة أنواع المساعدات، وقال العلي لـ”نون بوست” إن “المسنين أكثر ما يعانون في المخيم”، فالطرقات موحلة ولا يوجد عناية خاصة بهم، لا يوجد دورات مياه أو نقطة طبية قريبة، وبرد الشتاء كان قاسيًا هذا العام بسبب غياب مواد التدفئة عن الكثير من الأسر، كما أن المخيم البالغ عدد قاطنيه 350 عائلة لم تدخله مساعدات إنسانية منذ قرابة سنة.
فيما يعمل السبعيني رجب الحسين بجمع الكراتين والأكياس من أمام المحال التجارية، وبيعها في منطقة البردقلي شمالي إدلب، لشراء متطلبات المعيشة والأدوية اللازمة له ولزوجته، مشيرًا إلى صعوبة وضعه المعيشي، وبسبب تقدمه بالسن وإصابته بأمراض مزمنة، فإن معاناته مضاعفة.
وقال الحسين لـ”نون بوست”: “بعد تهجيرنا منذ قرابة 4 سنوات من معرشورين بريف إدلب الجنوبي، فقدنا منزلنا وعددًا من أولادنا وأحفادنا بفعل الزلزال الأخير، وأعيش مع زوجتي في كتلة سكنية تم تخصيصها لمتضرري الزلزال في قرية أجيال في منطقة البردقلي، وأعمل في جمع الكراتين وأكياس النايلون عبر دراجتي النارية، فأخرج صباحًا رغم برودة الجو لأبيعها وأشتري متطلبات التدفئة والطعام”.
وأشار إلى غياب المساعدات الإنسانية بكافة أشكالها عن القرية، فلا يوجد تدفئة أو سلل غذائية، أو حتى نقطة طبية لتقديم الخدمات، فأدوية الضغط والسكر يتم شراؤها من الصيدليات الخاصة، وهذا ينطبق على الكثير من المسنين القاطنين في المخيمات المجاورة للقرية السكنية، على حدّ قوله.
دور المسنين
ينتشر في شمال غربي سوريا عدد من دور المسنين في كل من إدلب وشمال حلب، تقدم الخدمات المعيشية والاجتماعية والطبية لهم، إضافة إلى خدمات الصحة النفسية، إلا أن بعض هذه المراكز يعمل بشكل تطوعي في ظل ضعف أو انقطاع التمويل عنها.
مدير دار الرفاه للمسنين في مدينة إدلب، محمد عتيق، قال لـ”نون بوست” إن مركز الرفاه عبارة عن 18 غرفة مجهّزة بمرافق كاملة من مطبخ ومطعم وحمّامات ومرافق صحية، تم تأسيسه في العام الماضي بهدف تأمين حياة كريمة لكبار السن ممّن فقدوا الرعاية الاجتماعية، والموجودين في الشمال السوري.
وأضاف عتيق أن المركز يتلقى دعم من منظمة الرابطة الطبية للمغتربين “سيما”، ويتم تقديم خدمات رعاية معيشة متكاملة لجهة الرعاية الصحية والشخصية، إضافة إلى متطلبات المعيشة للمسنين، من مأكل ورعاية اجتماعية وطبية، بالإضافة إلى تعليم القراءة والكتابة للأميين.
مشيرًا إلى وجود تحديات تواجه المركز في صعوبة نقلهم إلى مكان آمن أو إنزالهم إلى الأقبية، أثناء تعرض مدينة إدلب للقصف من قبل قوات النظام، مع جهود مستمرة لإعادة وصل المسن بعائلته إن وُجدت.
نعمل تطوعًا
فيما تستقبل دار السلامة في أعزاز بريف حلب الشمالي المسنين، خاصة من ذوي الاحتياجات الخاصة، ممّن ليس لهم مَن يعيلهم من ذويهم وليس لديهم مسكن، إضافة إلى عدم قدرتهم على تأمين الرعاية اللازمة لأنفسهم، وبحاجة عناية خاصة بكافة أشكالها.
وبحسب مدير دار السلامة نزار النجار، فإن الدار تستقبل كبار السن وغير مدعومة من أي جهة، وتعتمد على التبرعات من قبل ميسوري الحال من المغتربين أو من سكان المنطقة، لتغطية مصاريف الدار.
وقال لـ”نون بوست” إن الحرب شرّدت الكثير من الناس ولم يبقَ لهم أحد يرعاهم، حيث يقيم في الدار 42 شخصًا ممّن فقدوا عوائلهم ومساكنهم، إضافة إلى وجود قسم ممّن تمّ ترحيله من تركيا للشمال السوري وليس لهم معيل، ومنهم لديه إصابات عقلية وإصابات جسدية وقسم يعاني من أمراض مزمنة.
ويقدم المركز مختلف الخدمات للشخص الموجود بحسب النجار، فيقدم له 3 وجبات طعام يوميًّا، إضافة إلى الاهتمام بالنظافة الشخصية والغسيل والمنامة، ومراقبة المركز على مدار 24 ساعة عبر حرس ليلي ونهاري.
ومن حيث الرعاية الطبية، لا تحوي الدار كادرًا طبيًّا، إلا أن القائمين عليها ملتزمون بنقل المريض للمشفى وقت الحاجة، وتأمين الأدوية اللازمة للمرضى، والكادر الوظيفي يتابع كل الحالات المرضية وتأمين التحاليل والصور والأدوية غير المجانية، ونقلهم إلى المشافي لإجراء بعض العمليات الجراحية، إضافة إلى “تنظيم رحلات ترفيهية للتخفيف من آلام النزلاء ومعاناتهم وهمومهم، كنوع من الدعم النفسي ليخرجوا من جو الحزن الذي يرافقهم”.
وتقع دار السلامة بالقرب من معبر السلامة شمالي مدينة أعزاز على الحدود التركية السورية، حيث انطلقت على شكل خيمة في بداية تأسيسها عام 2013، لتستقبل كبار السن الذين يعتبَرون من الفئات المنسية في ظل ظروف الحرب الحالية، وفق ما قال نزار النجار.
إضافة إلى دارَي الرفاه والسلامة، تعمل دار المسنين في مدينة معرة مصرين شمالي إدلب على تقديم الرعاية للأمّهات المسنات، والتي تضم 12 سيدة مسنّة، تقدم لهن المأوى والطعام والرعاية الصحية، غالبيتهن من النساء المهجّرات اللواتي انقطعت بهن السبل وليس لهن معيل، وفق مديرة الدار يسرا صبرا.
وأضافت أن القائمين على الدار يقومون بأنشطة دورية خارج الدار، وبعض التمارين الرياضية الخفيفة التي تناسب أعمار المسنات، إضافة إلى قراءة القرآن، ويوجد ممرضتان، ممرضة في الليل وممرضة في النهار، لمرافقة المريضات واجراء العلاج الفيزيائي اللازم لهن، ويتم استدعاء طبيب متطوع عند الضرورة.
الاحتياجات
يعاني قاطنو المخيمات في شمال غربي سوريا من ظروف إنسانية صعبة، بسبب شحّ المساعدات الإنسانية وغيابها عن كثير من المخيمات منذ أكثر من عام، وما زاد معاناتهم الغلاء الكبير في الأسعار، إضافة إلى انعدام فرص العمل أو انتشار البطالة.
حسن عبد اللطيف، مدير مخيم الليث في منطقة حربنوش شمالي إدلب، قال لـ”نون بوست” إن قاطني المخيم، خاصة كبار السن، كانت معاناتهم مضاعفة لهذا العام، بسبب غياب المساعدات الإنسانية خاصة مواد التدفئة، حيث لجأت الكثير من العائلات في المخيم إلى وسائل تدفئة غير صحية من بقايا الأدوات البلاستيكية وألبسة البالة والأحذية، الأمر الذي سبب أمراضًا تنفسية حادة لكبار السن والأطفال في المخيم، ناهيك عن معاناة بعضهم من أمراض مزمنة مثل الضغط والسكر.
يعاني كبار السن في سوريا من صعوبة في تلبية احتياجاتهم الخاصة، لا سيما بعد ما تعرضوا له من تهجير ونزوح وفقدان للأبناء والأصدقاء والجيران.
وعن أبرز احتياجات ذوي الإعاقة، قال مدير العلاقات في جمعية عطاء الإنسانية، الدكتور مأمون سيد عيسى، لـ”نون بوست”، إن من الأولويات فيما يخصّ المسنين هو تقديم الرعاية الصحية، خاصة ممّن هم من ذوي الاحتياجات الخاصة، فمن الضروري تأمين الأدوية والكراسي المتحركة وزيادة مراكز التأهيل والعلاج الفيزيائي.
في حين ذكر تقرير وحدة تنسيق الدعم أن وجود أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة يؤثر بشكل كبير على أولويات الاحتياجات للأسر في جميع أنحاء شمال سوريا، وأجملَ التقرير أبرز الاحتياجات بضرورة تأمين قسائم مالية متعددة الأغراض، ووقود ووسائل التدفئة، وخدمات مخصصة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى تأمين كراسٍ متحركة ووسائل مساعدة في المشي، وتأمين فوط لكبار السن.
أمراض مزمنة
بحسب عدد من الأطباء التقى بهم “نون بوست”، فإن المسنين المهجّرين الموجودين في الشمال السوري، تراهم بصحة نفسية سيّئة نتيجة تعلقهم بأرضهم التي هُجّروا منها، وأكد ذلك فارس أحمد، مدير أحد المراكز الصحية في ريف حلب، لافتًا إلى أن كبار السن بمجملهم يعانون من الأمراض المزمنة خاصة القلب والسكر والقولون العصبي، وهو ناجم بشكل أساسي عن الظروف الإنسانية الصعبة التي يعيشونها، وظروف القهر والتهجير طيلة السنوات الماضية.
وأظهرت نتائج اختبارات شبكة الإنذار المبكر، ارتفاعًا حادًّا في أعداد حالات مرض إنفلونزا A (المرض التنفسي الحاد الشديد) في مناطق شمال غربي سوريا، وأشارت البيانات إلى أن عدد الحالات أصبح أعلى من المعدل السنوي مقارنة بالسنوات الخمس الماضية، وتظهر نتائج تحليل الـ”بي سي آر (PCR)” تزايدًا في عدد النتائج الإيجابية للفيروس A والفيروس التنفسي المخلوي “آر إس في (RSV)”.
وبحسب مدير شبكة الإنذار المبكر في وحدة تنسيق الدعم الدكتور ياسر الفروح، فإن القطاع الصحي يواجه حاليًّا التعامل مع “موجة حادة” من الأمراض التنفسية في فصل الشتاء، وهو المعدل الأعلى منذ 5 سنوات.
وأشار الفروح إلى أن سيناريو كورونا من الممكن أن يتكرر، مؤكدًا أن هناك دروسًا مستفادة من جائحة كورونا، وأهمها كيفية التعامل مع الجوائح التنفسية في منطقة شمال غربي سوريا، إضافة إلى الخبرات التي اكتسبتها الكوادر الطبية من أطباء وممرضين، مثل كيفية العناية المشددة وتدبير الأمراض التنفسية الحادة في الأجنحة.
وأوضح الفروح أن تأثير الفيروسات شديد على كبار السن ما فوق الـ 65 بسبب ضعف مناعتهم، مشيرًا إلى أن إجراءات الحماية العالمية مثل ارتداء الكمامة وتحديدات السفر، ساهمت بالحدّ من انتشار الأمراض التنفسية الحادة، لكن في الوقت الحالي لا يوجد أي إجراءات متّبعة أو قيود سفر، فالجميع توقع أن تكون هناك موجة أمراض تنفسية حادة تؤدي إلى حصول وفيات بنسب عالية.
وبيّن تقرير حالة سكان سوريا لعام 2022 أن نسبة الشباب من الفئة العمرية 15 إلى 49 سنة انخفضت بسبب الهجرة والوفيات، وكل هذه الأرقام تؤشر إلى زيادة أعداد المسنين في المجتمع السوري، بعدما كان يتميز بمعدل نمو سكاني مرتفع، وتحولت التحديات من وضع خطط تنمية تتناسب مع تزايد النمو السكاني، إلى وضع خطط لكيفية التعامل مع توسع ظاهرة المسنين، والذين يفتقدون لأدنى الخدمات بعد تقاعدهم من العمل.
لا تتوفر حاليًّا إحصائيات رسمية جديدة عن عدد المسنين في سوريا، إلا أن أحدث التقديرات تشير إلى أن العدد تجاوز 1.7 مليون مسن بنسبة تقدَّر بنحو 7.2% من تعداد السكان، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 5.7 ملايين نسمة عام 2050 بنسبة 13% من إجمالي عدد السوريين، وبحسب فريق منسقو استجابة سوريا، يقيم نحو 800 ألف مسن في مخيمات شمال غربي سوريا.
ويسكن في مناطق شمال غربي سورية 4.5 ملايين شخص، 4.1 ملايين منهم بحاجة إلى مساعدة، و3.3 ملايين منهم يعانون انعدام الأمن الغذائي، 2.9 مليون منهم نازحون داخليًّا، ومليونان يعيشون في المخيمات، وفق الأمم المتحدة، في حين تتحدث إحصائيات محلية عن 5.5 إلى 6 ملايين شخص.