يبدوا ان المعاناة التي ترافق النازحين في مخيمات كردستان لا تريد الانفكاك عنهم، ففي الوقت الذي تنفسوا فيه الصعداء بعد أن تخلصوا من بطش “داعش” التي كانت تسيطر على مناطقهم قبل أشهر قليلة، حينما انتقلوا إلى كردستان طلباً للأمان، وقعوا ضحية الإهمال من قبل حكومة بغداد وحكومة الإقليم، واضطروا للعيش على ما تجود به عليهم منظمات الإغاثة العالمية من مواد غذائية لا تكاد تسد رمقهم. لكنهم الآن يواجهون مأزقاً جديدًا، لا يقل خطورة عن سابقاته من التي مروا بها، وهذه المرة بسبب تفجر أزمة جديدة بين القيادة الكردية وبين حكومة بغداد.
فبعدما أعلنت بغداد سلسلة من الإجراءات العقابية بحق الإقليم جراء إصرار قيادته السياسية على إقامة الاستفتاء الرامي للاستقلال عن العراق، بدأت المنظمات الاغاثية التي كانت تقدم العون للنازحين، بالخروج من كردستان على وجه السرعة خشية تفاقم الأمور هناك، بالأخص بعد حظر حكومة بغداد للرحلات الجوية من وإلى مطاري كردستان. ووجدَ أولئك النازحين أن الأبواب تُغلق بوجوههم، فلا هم قد أخلي سبيلهم ليعودوا لديارهم والبدء من جديد ببناء حياتهم من الصفر، ولا بقيت تلك المنظمات الإغاثية متواجدة في كردستان لتقدم لهم المستلزمات الضرورية للحياة وإن كانت بالحد الأدنى لمعيشتهم بمخيمات النزوح.
كم عدد اللاجئين العراقيين في كردستان؟
مع بدأ الحرب الطائفية والتي استعر لهيبها في العراق، بعد أن استولت الأحزاب التي جاءت من وراء الحدود على مقاليد الحكم في بغداد، وجموع النازحين والمهجرين من العراقيين تزحف إلى كردستان وغير كردستان طلباً للأمان. إلَّا أن استيلاء عصابات داعش على مساحات شاسعة من المناطق التي يتواجد بها العرب السنَّة عام 2014، والمعارك التي اندلعت بعدها بين تلك العصابات وجيش حكومة بغداد المدعومة بالمليشيات الطائفية، جاعلين من المحافظات العربية السنية مسرحاً لها، الامر الذي فاقم أعداد النازحين في كردستان، لتصل إلى أرقام قياسية.
قامت الأمم المتحدة وبالتعاون مع عدد من المنظمات الانسانية العالمية بإقامة أربعة مخيمات كبيرة للنازحين في كردستان لاستيعابهم، حيث أكد إحصاء لوزارة الداخلية في إقليم كردستان، على وجود 700 ألف لاجئ ونازح في الإقليم قبل أزمة الموصل، لكن هذا العدد ارتفع بعد أزمة الموصل ليصل إلى حوالي المليون، يقيمون في مدن الإقليم أو بالمخيمات. ومن الجدير بالذكر ان أولئك اللاجئون والنازحون يضمون بالإضافة الى العرب السنَّة، لاجئين ونازحين من جنسيات أخرى، من أكراد إيران وأكراد تركيا، بالإضافة إلى لاجئي سوريا.
الساسة الاكراد يستثمرون معاناة النازحين سياسياً لصالحهم
وعلى عادتهم يعمل الساسة الاكراد على استثمار الفرص المتاحة، حتى لو كانت على حساب معاناة شعبنا العراقي، ويحاولون إيجاد كل السبل التي تجعلهم يتجاوزن أثار الحصار الذي فرضته بغداد عليهم، من خلال وسائل عديدة لا تدخل من ضمنها المجابهة العسكرية مع بغداد، كان إحداها، استغلال معاناة النازحين واللاجئين كورقة ضغط على الحكومة العراقية لتسمح لهم بفتح مطاراتهم أمام الملاحة الدولية، وبهذا الصدد صرَّحت مديرة مطار أربيل “تالار فائق صالح” في مؤتمر صحفي لها، ان “إجراءات بغداد بشأن مطار اربيل والسليمانية تعتبر إجراءات خاطئة، لان مطاري السليمانية واربيل لا يستخدمان فقط لمواطني الإقليم، وانما للمسائل الانسانية الخاصة بالنازحين العراقيين”. ويعتبر هذا التصريح، محاولة كردية لاستغلال معاناة اللاجئين لتحقيق خرقاً بجدار الحصار الذي يلّف طوقه شيئاً فشيئاً على الإقليم.
استفاق الساسة السنَّة من سباتهم العميق وتذكروا أن لهم أهلاً يعانون الأمرين في مخيمات النزوح في كردستان
يساندها في ذلك تصريحاً للمتحدث باسم حكومة كردستان، الذي يقول فيه “إن قرار حضر الرحلات الدولية، جعل العديد من المنظمات الإنسانية التي كانت تقدم العون والمساعدة للنازحين، اضطرت لترك كردستان، ولم يعد بمقدور مئات العوائل التي التجأت لخارج العراق من زيارة عوائلهم المتواجدة في كردستان ولم شملهم”، وكأنه بذلك، يخاطب حكومة (لا توجد إلا في خياله) تعتبر رأس أولوياتها العوائل العراقية النازحة في الإقليم أو خارج العراق، لكن واقع الحال غير ذلك بالتأكيد.
فيما يرد “العبادي” على تصريحات الأكراد، أن سيطرة الحكومة المركزية على المنافذ البرية والجوية في إقليم كردستان هي مجرد إجراءات لتمكين الحكومة الإتحادية والأجهزة الرقابية الإتحادية من السيطرة على حركة دخول وخروج البضائع والأفراد إلى الإقليم، كما هو معمول به في كل المنافذ العراقية.
قضية النازحين مشكلة جديدة بين النواب السنّة وحكومة بغداد
فجأةً استفاق الساسة السنَّة من سباتهم العميق وتذكروا أن لهم أهلاً يعانون الامرين في مخيمات النزوح في كردستان، وتسابقوا للمطالبة بحقوقهم من خلال المطالبة بإلغاء قرارات الحكومة الرامية لغلق المطارات والمعابر الحدودية لكردستان.
وحقيقة الامر، أنهم بالأمس كانوا ألعوبة بيد المالكي، واليوم يقومون بذات الدور، ولكن هذه المرة بيد البارزاني. بل أن كثير من السياسيين العرب السنَّة يتعاطفون بشكل مبالغ فيه مع معاناة الأكراد الناتجة عن الحصار الحكومي، وهم يشرحون أسباب مطالباتهم بفك الحصار عن كردستان، بينما يتهامسون فيما بينهم قائلين: “إن الاكراد أقرب الينا نحن السنَّة من السياسيين الشيعة”. ولا ندري أين كان هؤلاء الذين يسمونهم بالمقربين، عندما كان يُذبح السنَّة بأيدي المالكي وميليشياته؟ المالكي الذي عاث بالعراق فساداً، كان مدعوما من قبل الأكراد في حكمه للعراق لفترتين انتخابيتين استمرت لثمانية سنوات، وتناسوا السنَّة أو أنستهم مصالحهم الجديدة مع الأكراد، إن الساسة الشيعة ونظرائهم الأكراد، يجمعهما حلف استراتيجي على حساب مصالح العرب السنَّة، يمتد تاريخه لما قبل احتلال العراق، ومؤتمرات لندن وباقي العواصم الأوروبية تشهد بذلك.
لم يستحي الساسة السنَّة حينما قدَّم أحدهم طلباً لرئيس البرلمان، لإعادة التصويت على فقرة غلق المنافذ الحدودية والرحلات الدولية بكردستان
هو شيء يُدمي القلب، عندما ترى أن من يتاجر بمعاناتك وبمستقبلك ومستقبل أولادك، هم سياسيون يفترض انهم يمثلونك، يتاجرون بمعاناة النازحين لمصالح سياسية وشخصية ضيقة، بعدما تاجروا من قبل بمصير البلد عامة. وبدلاً من يستغلوا الفرصة للضغط على حكومة بغداد ويصرّون على ارجاع النازحين لمناطقهم وتخليصهم من معاناة العيش بمخيمات النزوح، تراهم يطالبون بفتح مطارات كردستان بحجة إيصال المساعدات لهم، فالطير المسجون بقفص لا يهتم إذا كان القفص مصنوعاً من ذهب أو كان أكله من أفضل الحبوب، ما دام باقياً مسجون فيه، وبعيداً عن عشه. كذلك حال النازحين العرب السنَّة، لا يهمهم توفير مستلزمات الحياة له وهو يعيش بخيمة الأمم المتحدة بعيداً عن بيته وحيَّه ومدينته.
لم يستحي الساسة السنَّة حينما قدَّم أحدهم طلباً لرئيس البرلمان، لإعادة التصويت على فقرة غلق المنافذ الحدودية والرحلات الدولية بكردستان، بمعنى إنه يريد أن إلغاء القرار، وحجته في ذلك، ان الكثير من العوائل النازحة الموجودة في الاقليم ستتضرر جراء اي حصار اقتصادي. وفات هذا السياسي المحنك أن يقدم طلباً لرئاسة البرلمان، بضرورة الإسراع في ارجاع أولئك النازحين الذي يتباكى عليهم، إلى ديارهم وتوفير المستلزمات الضرورية لإعادة بناء حياتهم بشكل طبيعي في ديارهم.
ليرد عليه المكتب الاعلامي للعبادي في بيان، أن “الرحلات الجوية والمعابر ستفتح بمجرد نقل سلطة المطارات والمعابر الحدودية في الاقليم الى المركز، وأن هذا الأمر لا يمثل عقوبة للمواطنين في الإقليم أو النازحين انما هو إجراء دستوري وقانوني أقره مجلس الوزراء لمصلحة المواطنين في كردستان والمناطق الأخرى، وبكأن العبادي لا يعلم أن الساسة الأكراد سوف لن يستجيبوا لمثل هذا القرار، بل أنهم سوف يستثمرون معاناة الأكراد ومعاناة النازحين ليتاجروا بها أمام الرأي العام الدولي، لاستدرار التعاطف معهم، وأن آخر هم لهؤلاء الساسة هو التفكير بمعاناة شعوبهم.
الخصام بين الساسة الأكراد والساسة الشيعة مثل خصام بين زوجين
وبسبب أن حكومة بغداد تعرف نفسها أنها غير قادرة على كسر شوكة الأكراد عسكرياً، وهي التي لا تزال تُقاتل عصابات داعش منذ سنتين ولم تستطيع حسم أمرهم إلى الآن، والأكراد يعرفون أنهم غير قادرين على فرض إرادتهم على بغداد عسكرياً من خلال البيشمركة التي أخذت خبراتها القتالية بقطع الطرق على الناس في سنوات نضالهم المزعومة، فتراهم يهدد أحدهما الآخر باتخاذ إجراءات عقابية تضر خصمه ولكنها بنفس الوقت تعود بالضرر عليه من حيث لا يدري.
لقد وصل البلد على أيدي هؤلاء الساسة الى مرحلة الانهيار والتقسيم، ووصل شعبنا إلى حالة التشرذم والضياع بسببهم
فيخرج علينا هذه المرَّة مدير الاتصالات بمكتب مسعود بارزاني المدعو “هفال علي” مهدداً، بلجوء الإقليم إلى اجراءات مشددة بحق حكومة بغداد، في حال استمرَّ حظر الرحلات الدولية على مطاري الإقليم، قائلاً سوف يكون لدينا الكثير لكي نفعله، من مثل قطع خدمة الإنترنت، وإيقاف تغطية الهاتف المحمول، والذي تُعد كردستان، مقراً أساسياً لكثير منها، بل قد يتم إيقاف إمدادات الإسمنت، التي تأتي معظمها من الإقليم الى بغداد. ويمكننا أيضاً أن نوقف الرحلات الجوية المتوجهة إلى بغداد والنجف من مطار أربيل، والذي سوف يعود بالضرر على المسؤولين العراقيين الذين تعيش عائلاتهم في المناطق الكردية، مشيرا إلى أن أُسر معظم صانعي السياسة العراقية يعيشون في أربيل!
وما أشد الشبه بين الخصومة التي تتفاقم بين الساسة الكرد والساسة الشيعة، بالخصام الذي يقع بين زوج جبان غير قادر على إدارة بيته، وزوجته الناشز التي لا تستطيع مجابهة زوجها بالقوة، فعندما يتخاصم هذا الزوجان، يقوم الزوج بتكسير أثاث بيته الذي تحرُص عليه الزوجة، معتقداً أنه قد قام بتأديبها، أما الزوجة فإنها ترد عليه بالتوجه مباشرة لتحطم أشياء زوجها، من ملابس ومقتنيات شخصية، حتى إذا انتهت، توجهت لتحطيم موجودات المطبخ من أواني فخارية، معتقدةً أنها بذلك ستفت بعضد زوجها، وما علِما أنهما يحطمان بيتهما الذي تعاونا بإنشائه، وأنهما الخاسران من ذلك لا أحد سواهما، وإذا ما استمرا في ذلك فأنهم سيجدان نفسيهما يعيشان في الشارع مع أولادهم.
مشكلة النازحين السنة في كردستان لا تختلف عن مشاكل نظرائهم المتواجدين بمناطق العراق الأخرى، بل إنها لا تختلف عن مشاكل كل العراقيين من شماله إلى جنوبه
لقد وصل البلد على أيدي هؤلاء الساسة الى مرحلة الانهيار والتقسيم، ووصل شعبنا الى حالة التشرذم والضياع، فلا بيت يأوي النازحين ولا أمان يشجع اللاجئين على الرجوع، وأصبح سياسيونا مطية لدول الجوار وغير الجوار، كل واحد منهم يتبارى مع زميله كيف يحافظ على مصالح ولي نعمته بالخارج. يتقاتلون مع بعضهم وعيونهم شاخصة إلى ولاة أمورهم في عواصم الجوار. ويمنّون أنفسهم بإنشاء دول يستقلون بها بدعم من الخارج، معللين ذلك أن هذا العمل لا يخلوا من فائدة، ذلك أن العراق بعد يقسّموه، سيصبح لنا ثلاثة مقاعد أو أكثر في هيئة الأمم المتحدة، بدلاً من مقعد واحد.
ماذا يُمكن فعله لحل مشكلة النازحين؟
ومن المؤكد أن السياسيين السنَّة لو كانت لديهم الإرادة الحقيقية لرفع المعاناة عن النازحين المتواجدين في كردستان، ولم تكن لديهم أجندات سياسية بعيدة عن مصالح أهلنا هناك، لوجدوا الطريق الصحيح لذلك، وبالتأكيد لا يكون ذلك بزج قضية النازحين في الخصومات المستفحلة بين السياسيين، وجعلهم ورقة ضغط بيد هذا أو ذاك من السياسيين، لانهم يدركون أكثر من غيرهم، ان حكومة بغداد لا يهمها مصير أولئك النازحين بأي حال من الاحوال، ولو كان لديها ادنى اهتمام بهم، لما أقدمت على هدم بيوتهم فوق رؤوسهم بحجة محاربة داعش، ولا كانت لتسمح بإصدار القوانين التي تمنع النازحين السنَّة من الرجوع لديارهم. ففي الوقت الذي يتباكى فيه السياسيون على النازحين، يقرُّ عضو مجلس محافظة ديالى “عبد الخالق العزاوي” ببدء خطة لإغلاق الحدود مع محافظة صلاح الدين، لكي يمنع ذلك نازحي ديالى في مناطق صلاح الدين من العودة إلى ديالى مرة أخرى، ويصدر مجلس محافظة بابل قراراً بتجريم من ينادي بإرجاع المهدرين من جرف الصخر.
إن مشكلة النازحين السنة في كردستان لا تختلف عن مشاكل نظرائهم المتواجدين بمناطق العراق الأخرى، بل إنها لا تختلف عن مشاكل كل العراقيين من شماله إلى جنوبه، والمتمثلة بالسياسيين الذين ابتُليَ بهم العراق والعراقيين منذ أربعة عشر سنة. إن عيون العراقيين ترقب اليوم الذي يتخلصون فيه من تلك الطغمة السياسية وإلى الابد، ذلك لأنهم أس البلاء.