ترجمة وتحرير: نون بوست
قبل أسبوع، نشرت صحيفة “هآرتس” مقالاً بقلم إيتان ليشم، بعنوان “في كل بيت في غزة وجدنا زيتونًا وزيت زيتون وكميات كبيرة من التوابل، نحن نطبخ هناك بمشاعر مختلطة”.
ويحكي المقال قصة الجنود الذين استولوا على منازل الفلسطينيين وسرقوا الطعام من المشردين، الذين أصبحوا الآن يتضورون جوعًا وأجبروا على الفرار، وربما حتى من قبل هؤلاء الجنود أنفسهم. من الصعب حقًا أن نتخيل مقالًا أكثر فجاجة وبؤسًا.
كان المقال صادمًا للكثيرين، ليس فقط بسبب محتواه ولكن أيضًا بسبب مكان ظهوره؛ حيث يستشهد بصحيفة هآرتس على نطاق واسع دوليًا، وخاصة من قبل الليبراليين، باعتبارها وسيلة إخبارية إسرائيلية ذات ميول يسارية جديرة بالثقة، كما أن صحفيين مثل جدعون ليفي وأميرة هاس، الذين غالبًا ما يغطون أهوال الفصل العنصري الإسرائيلي بمزيد من التفصيل وبقوة أكبر من أي صحفي إسرائيلي آخر، يعتبرون بالنسبة للكثيرين الوجه الشجاع لقول الحقيقة في هذا المنفذ الإعلامي.
لكن الصحيفة لها أيضًا جانب أكثر قتامة، ولا شك أن هذا له علاقة بحقيقة أنها صحيفة صهيونية في نهاية المطاف، كما قال جدعون ليفي ذات مرة بوضوح.
وفي ظل هجوم الإبادة الجماعية الحالي على غزة، فإن توجهها الصهيوني لا يعني فقط أن محرريها لم يمثلوا الدعم الشعبي الإسرائيلي للإبادة الجماعية تمثيلاً كافيًا، ولكنه أدى أيضًا إلى قيام الصحيفة بنشر وترويج بعضًا من أكثر أشكال الدعاية وحشية وخطورة للهجوم الإسرائيلي على غزة.
التزييف بشأن مستشفى الشفاء
في تشرين الثاني/نوفمبر، كتبت روني ليندر مقالًا لصحيفة هآرتس بعنوان “مأساة مستشفى الشفاء: التحدي الأخلاقي الأكبر لإسرائيل في حرب غزة”؛ حيث رددت ليندر الدعاية العسكرية التي تقول إن مستشفى الشفاء هو “درع بشري ضخم”، ويعمل بمثابة “مركز القيادة الرئيسي” لحماس:
“إن الجمع بين كونها أكبر وأهم مستشفى في غزة، ومخيم اللاجئين سريع النمو لسكان غزة اليائسين من جميع الأعمار، وأداة تستخدمها حماس – كدرع بشري ضخم فوق مركز القيادة الرئيسي للمنظمة – يجسد التحدي المستحيل لإسرائيل”.
وقد نُشر المقال في 13 تشرين الثاني/نوفمبر، أي قبل يومين فقط من قيام “إسرائيل” بمداهمتها الأخيرة للمستشفى، ونشر الجيش الإسرائيلي بعد ذلك فيلمًا دعائيًا يزعم فيه العثور على أسلحة في الطابق السفلي، لكنه لم يثبت وجودًا واضحًا لحماس، ناهيك عن مركز القيادة، وكما علق معين رباني للجزيرة: “لقد اقتحمت القوات الإسرائيلية مستشفى الشفاء وتواجدت فيه لمدة 12 ساعة كاملة – بعد أن رفضت مرافقة أي جهة مستقلة – والآن من المفترض أن نصدق أنه كان هناك مقاتلون من حماس يلاحقهم الجيش الإسرائيلي لكنهم تركوا أسلحتهم بطريقة ما؟”.
في النهاية، لم تثبت “إسرائيل” مطلقًا ادعاء “مركز القيادة” التابع لمستشفى الشفاء، على الرغم من أن إيهود باراك فاجأ كريستيان أمانبور المذهولة على قناة سي إن إن عندما أخبرها أن “إسرائيل” قامت ببناء بعض المخابئ تحت الأرض هناك في أوائل الثمانينيات، “لا يزال الأمر بمثابة مراوغة” كما أوضحت وكالة أسوشييتد برس، وقال مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك في 17 تشرين الثاني/نوفمبر إنه “لا يمكن مهاجمة مستشفى في غياب أدلة واضحة”، ودعا تورك إلى إجراء تحقيق، لكن الأمر كان قد تم الانتهاء منه مسبقًا بالنسبة لـ”إسرائيل”، لقد تعرض المستشفى بالفعل للهجوم والتعطيل، كل ما كان علينا فعله هو تصديق الدعاية.
وأصبح هذا بمثابة مخطط للهجمات التي تلت ذلك على بقية مستشفيات غزة، وهي حملة تصفها مجموعة “فورنسيك أركتيتشر” بأنها “نمط منهجي من الترهيب والعنف من قبل الجيش الإسرائيلي كجزء من الغزو المستمر”، وفي الوقت الحالي، لا يزال ثلث المستشفيات الستة والثلاثين فقط في غزة يعمل بشكل جزئي، مع إغلاق مستشفى ناصر في خان يونس، ثاني أكبر مستشفى في غزة، يوم الأحد الماضي بعد الحصار الإسرائيلي واعتقال الطواقم الطبية والمرضى، ويتعرض مستشفى الأمل في خان يونس أيضًا للحصار منذ بداية الشهر.
واتبعت كل هذه الهجمات على القطاع الطبي في غزة نفس قواعد اللعبة التي اتبعتها الحملة الأولية ضد مستشفى الشفاء، وهي الحملة التي قدمت لها صحيفة هآرتس منصة حاسمة في وقت حرج.
إن الدور الذي لعبته ليندر وهآرتس في الهجمات الإسرائيلية المستمرة يذكرنا بالدور الذي لعبته جوديث ميلر وصحيفة نيويورك تايمز في الفترة التي سبقت حرب العراق، ويمكن القول إن تقارير ميللر عن الأكاذيب حول أسلحة الدمار الشامل العراقية باعتبارها حقائق أنهت مسيرتها المهنية في صحيفة نيويورك تايمز، في الواقع، قد يكون ادعاء ميلر بتبرئة نفسها من أي خطأ مشابهًا جدًا لكيفية رؤية ليندر لدورها أيضًا:
“مهمتي ليست تقييم معلومات الحكومة وأن أكون أنا نفسي محللة استخبارات مستقلة، وظيفتي هي أن أخبر قراء صحيفة نيويورك تايمز عن رأي الحكومة في ترسانة العراق”.
تشويه الأونروا
في 12 كانون الأول/ديسمبر، نشرت صحيفة هآرتس مقالاً آخر لليندر، هذه المرة عن الأونروا، هذا المقال الذي يحمل عنوان “كيف أصبحت الأونروا ثاني أكبر منظمة مؤثرة في غزة بعد حماس”، وتحدثت عن “صلات مزعومة بحماس” واستشهدت بـ”منتقدين يتهمون وكالة الأمم المتحدة بأنها تلعب دورًا رئيسيًا في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
ومرة أخرى؛ التوقيت والسياق هما كل شيء هنا، لطالما هاجمت “إسرائيل” الأونروا بدعوى إطالة أمد قضية اللاجئين الفلسطينيين، وفي الشهر الماضي، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو إن “مهمة الأونروا يجب أن تنتهي”، وأنها “تسعى إلى الحفاظ على قضية اللاجئين الفلسطينيين”، وهذا أمر خاطئ بطبيعة الحال، كما يشرح ميتشل بليتنيك هنا في موندويس، نقلاً عن الأمم المتحدة: “إن حالات اللاجئين المطولة هي نتيجة الفشل في إيجاد حلول سياسية لأزماتهم السياسية الأساسية”.
وفي 26 كانون الثاني/يناير، وهو اليوم الذي وجدت فيه محكمة العدل الدولية أنه من المعقول أن “إسرائيل” ترتكب إبادة جماعية، زعمت “إسرائيل”، دون تقديم أدلة، أن 12 من العاملين في الأونروا المنتمين إلى حماس بطريقة أو بأخرى متورطون في هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر، وكان هذا الادعاء كافيًا لبدء سلسلة من الدول على رأسها الولايات المتحدة وتبعتها حوالي 16 دولة أخرى، وقف دعمها للمنظمة الإنسانية.
وعلقت رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، يسرى فراوس، قائلة: “إن تعليق الأموال المخصصة للأونروا يعني الحكم على ملايين اللاجئين الفلسطينيين بالموت من الجوع والمرض، وهذا تواطؤ واضح في الإبادة الجماعية المستمرة، ومخالفة محيرة تمامًا لقرار محكمة العدل الدولية”.
لذا، التوقيت هو كل شيء، لقد استخدمت “إسرائيل” بطاقة الأونروا-حماس على وجه التحديد عندما كانت تواجه اتهامات بارتكاب أخطر جريمة على الإطلاق، وقلبت الطاولة ضد المنظمة التي تعتبر الأكثر أهمية في تخفيف الاحتياجات الأساسية للسكان، الذين يواجهون الآن المجاعة.
يتم نشر الادعاءات الكاذبة على أنها حقائق، ولا يتم تقديم أي دليل، لكن “إسرائيل” تعمل بناءً على هذه التقارير وهذا الخطاب لتدمير المجتمع والحياة الفلسطينية
كيف يحدث مثل هذا الشيء؟ بتواطؤ الصحفيين وغيرهم، وكان مقال ليندر عبارة عن تحريض ضد الأونروا، وحشد الدعم لتفكيكها، وهو ما طالب به نتنياهو في وقت لاحق.
وكتبت ليندر: “منذ مذبحة 7 تشرين الأول/أكتوبر، يبدو أن كل يوم يجلب المزيد من القصص حول الصلات المزعومة بين حماس والأونروا ومؤسساتها في قطاع غزة: من التعريف العلني والواسع النطاق بالجماعة الإرهابية على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل العاملين في الأونروا أو الطلاب الذين تلقوا تعليمهم على يد المنظمة، إلى مزاعم بتورط بعضهم في الإرهاب الفعلي”.
هذه “القصص” حول “الصلات المزعومة” لا تحتاج إلى أن تكون دقيقة أو واقعية حتى يكون لها تأثير، بل تحتاج فقط إلى أن تُروى، كما تفعل ليندر.
وهي تبدأ بالاستشهاد بادعاء أحد الرهائن الإسرائيليين المفرج عنهم بأنه احتجز من قبل مدرس في الأونروا، وهو ما دحضته الأونروا ووصفته بأنه لا أساس له من الصحة، وطالبت بدليل لن تقدمه الصحفية التي أثارت هذا الادعاء، ثم تستشهد ليندر بالمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي (وهو نفسه الذي يقوم بجولات دعائية في مستشفى الشفاء) قائلاً إنه “تم العثور على عشرات الصواريخ والأسلحة الأخرى تحت صناديق الأونروا في منازل خاصة في شمال قطاع غزة”، ومرة أخرى، ادعاءات فضفاضة من مصادر غير جديرة بالثقة.
ثم تستشهد ليندر بـ “معاهد أبحاث” لم تذكر اسمها والتي “كانت تتعقب المنظمة لسنوات عديدة”، والتي يُزعم أنها “كشفت أن العديد من أعضاء قوة النخبة (وحدة النخبة التابعة لحماس) وأعضاء إضافيين من حماس الذين ارتكبوا المذبحة هم خريجي مدارس الأونروا أو موظفي المنظمة”.
وتستمر على هذا النحو، ولا يستحق الأمر الخوض في التفاصيل لتحليل كل ادعاء تقدمه ليندر، وكل خبير تجري مقابلات معه (وهم إسرائيليون حصرًا، إلى جانب رد الأونروا الإلزامي المضاف في النهاية) لتوضيح وجهة نظرها بأن الأونروا هي “لاعب رئيسي في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، يخدم كيانات ليس لها مصلحة في رؤية حل له”، إن جوهر المقال هو تصوير الأونروا على أنها مرتع للتحريض والإرهاب، في خضم إبادة جماعية ضد الأشخاص الذين من المفترض أن تخدمهم الأونروا.
ويتم نشر الادعاءات الكاذبة على أنها حقائق، ولا يتم تقديم أي دليل، لكن “إسرائيل” تعمل بناءً على هذه التقارير وهذا الخطاب لتدمير المجتمع والحياة الفلسطينية، ويتعاون أصدقاؤها في الخارج ويتصرفون بناءً على ادعاءات هذه الدولة المشهورة بالكذب، وعندما يكتشفون أن الأدلة غير متوفرة، يكون الأوان قد فات لأن “إسرائيل” تصرفت بالفعل مع الإفلات من العقاب.
مرآة للإسرائيليين الليبراليين
من الواضح أن صحيفة هآرتس أصبحت مرآة للجمهور الإسرائيلي الليبرالي، وبالعودة إلى مقالة إيتان ليشيم حول أسلوب حياة الجنود الإسرائيليين الذين يطبخون في منازل الفلسطينيين المهجورة، فإن “إطلاق النار والبكاء” أصبح “الطبخ والبكاء”، وهآرتس موجودة لخدمة القصة، في الواقع، هذا المقال بمثابة نموذج أولي للمادة التي توفرها الصحيفة للاستهلاك الإسرائيلي الليبرالي الداخلي باعتباره مقالًا “يعطي شعورًا جيدًا”.
تسأل هآرتس الجنود عن مشاعرهم تجاه تناول الطعام في منازل سكان غزة، مع العلم أنهم أجبروا على الفرار، “نعم، هناك مشاعر متضاربة بالتأكيد، لأنني أستخدم أدواتهم في منزلهم، ولكن من ناحية أخرى، علينا أن نأكل، غرائزنا ورغبتنا في تناول الطعام تحل محل هذا”.
إن أي “مشاعر متضاربة” قد تكون لدى القراء قد هدأتها معرفة أن “إسرائيل” تقوم بتسوية غزة بالأرض على أي حال، فما الفرق الذي يحدثه ذلك؟ “من المهم التوضيح أن هذه منازل مهجورة، وبعضها مدمر أو من المقرر تدميره، وهذه هي الطريقة التي نقاتل بها في غزة”.
هكذا نقاتل في غزة، نحن نسوي غزة، وعلينا أن نأكل.. أرغب بالتقيؤ.
لكن الأمر لا يتعلق فقط باستهلاكهم للطعام؛ يتعلق الأمر بإصدار صحيفة هآرتس مثل هذه المقالة الشنيعة عن أسلوب الحياة من وسط الإبادة الجماعية، وقرائها الليبراليين الذين يستهلكونها كمصدر إلهام، لقد أصبحت صحيفة هآرتس مكانا يمكن فيه لقرائها، مثل الجنود في القصة، “تحويل الطعام إلى شيء يُناقَش بعقلانية” وسط الإبادة الجماعية.
وهذا ما كانت تزودنا به هآرتس، دعاية خطيرة للإبادة الجماعية تسعى إلى جعلنا نشعر بالرضا حيال ذلك، لقد ألغيت اشتراكي.
المصدر: موندويس