“الضوء أرزاق.. نحن خصوم الشمس” عند سماع هذه الكلمات قد يعتقد السامع للوهلة الأولى أنها مجرد وصف خيالي، فهل هناك للشمس خصوم؟ ومن الذي يكره الضوء ويهرب من شمس تبشّر بالخير؟ ربما لا أحد!
لكن الإنسان قد يصبح خصمًا للشمس حينما تُسلب حريته ويوضع في زنزانة ليس فيها من حقوق الآدمية شيء، فلا يرى الشمس ولا أشعّتها، ولا يشم الهواء نظيفًا كما هو، وإنما يسمع صوت السجّان ولا يرى إلا سياط التعذيب.
طال غياب المعتقلين في سجون النظام السوري، 13 سنة مرّت والمعتقلات مليئة بالأبرياء والأهالي في انتظار مرير، لكن لا خبر يأتي أو بارقة أمل تسعف قلوب الأمهات المفجوعات، وما زالت القضية مفتوحة في ظل تعنّت الأسد عن كشف مصير المعتقلين، وهي قضية ليست وليدة الثورة في سوريا، إذ إن النظام البعثي له باع طويل في اعتقال الناس وإخفائهم.
تحت الأرض
في ذكرى انطلاقة الثورة السورية الثالثة عشرة، يطلّ علينا الفنان السوري أمير المعري بأغنية “تحت الأرض” عن المعتقلين في زنازين، ورسومات توضيحية للمعاناة الكبيرة في المعتقلات، في ظل محاولات الأسد الحثيثة لإخفاء هذا الملف وتغييبه عن الرأي العام.
تأتي أغنية “تحت الأرض” ضمن رصيد كبير من الإنتاجات الفنية التي صدرت بهدف توثيق قضايا السوريين المقهورين، ولعلّ هذه الأغنية تعدّ الأولى التي تروي رحلة المعتقل في سوريا كاملة، بما يعانيه ويقاسيه من آلام وعذابات لا يمكن استيعابها أو الشفاء من آثارها.
يشير أمير المعري إلى أن “الأغنية تتكلم عن أصغر التفاصيل النفسية التي يعيشها المعتقل في الزنزانة، وتسلط الضوء على أنواع التعذيب، بما يشمل اغتصاب الفتيات وجلد الشيوخ وتعذيب الأطفال التي يتعرض لها المعتقلون والمغيبون قسرًا”.
لا تستهدف الأغنية الجديدة مسالخ الاعتقال في سوريا وحسب كما يقول المعري، إنما تستهدف فكرة الاعتقال في جميع بقاع الأرض التي تحكمها الديكتاتورية والصهيونية عامة، والمعتقلين في أقبية النظام السوري خاصة.
توصيف الواقع
لا يبالغ المعري في توصيف الواقع المرير، إذ إن الشبكة السورية لحقوق الإنسان وثّقت في تقرير سابق لها وجود أكثر من 154 ألفًا و817 شخصًا لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري، على يد أطراف النزاع والقوى المسيطرة في سوريا، مبيّنًا أن أكثر من 135 ألفًا منهم على يد قوات النظام السوري وحدها، وسجّل التقرير مقتل ما لا يقل عن 15 ألفًا و272 شخصًا تحت التعذيب، بينهم 197 طفلًا و113 سيدة (أنثى بالغة)، قرابة 99% من الحصيلة الإجمالية على يد قوات النظام السوري.
كما وثقت الشبكة الحقوقية ذاتها أن نظام الأسد استخدم 44 وسيلة تعذيب مختلفةضد المعتقلين، توزعت على 8 وضعيات تعذيب ممنهجة، و22 حالة لألوان متنوعة من التعذيب الجسدي، و14 حالة للتعذيب النفسي، وكأن الاعتقال وأسر حرية شخص بريء لا يكفيان.
ومن وضعيات التعذيب التي ذكرها التقرير وضعية الشبح ووضعية الدولاب، حيث يتم ربط يدَي المعتقل مع رجلَيه بشكل يصبح فيه مثل دولاب السيارة، وبعد ذلك تبدأ عملية الضرب على أنحاء مختلفة من جسده، فيما في وضعية بساط الريح يوضع المعتقل على لوح خشبي مكوّن من قسمَين ثم يربط، ويتم تحريك القسمَين باتجاه بعضهما، والمعتقل بينهما، ما يسبّب ألمًا فظيعًا في العمود الفقري، كما يقوم عنصر آخر بضرب المعتقل بالتزامن مع ذلك.
الفن لتحقيق العدالة
يضيف أمير المعري في حديثه لـ”نون بوست”، أن الأغنية تصف كذلك “حالة أهالي المعتقلين الذين ينتظرون معتقليهم ويتساءلون ما إذا كان معتقلوهم على قيد الحياة أم لا”، مشيرًا إلى أن “الذي استدعى العمل على أغنية تخصّ المعتقلين هو ضعف حديث المطالبة بالمعتقلين السوريين، داخل أوساط المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ووكالات الأخبار”، وهنا يؤكد المعري أنه “ليس من الضروري وجود مناسبة معيّنة للحديث والمطالبة بمعتقلينا والمغيبين قسرًا في ظل حكم الطغاة”.
أما عن الهدف من إطلاق هذه الأغنية، يشير المعري: “هدفي كفنان وكاتب سياسي وإنساني وثوري هو التركيز على ما يهدف لإحقاق العدالة والحرية للشعوب، وليس من أهدافي إطلاقًا ركوب أي موجة او صيحة أو اتّباع القطيع، وأركز على تذكير الناس بالمواضيع اللازمة التي غطتها الترندات”، مشيرًا إلى أن “الفن كان جزءًا من المقاومة عبر التاريخ، ككاتب أكتب ما يلزم لتحقيق الحرية والعدالة وأغنيه وأرسم صورًا محاكية لما نعيشه”.
سبق للمعري أن قدّم أغنيات عديدة من نوع موسيقى الراب لتوثيق حالة الثورة السورية، منها “ع كل الجبهات” و”نزحة” و”مباشر من إدلب”، صُوّرت كلها في مدينة إدلب وريفها، وينحدر المعري من مدينة معرة النعمان المشهورة بتاريخها الثوري، قبل أن يُهجر الأسد أهلها.