ترجمة وتحرير: نون بوست
أضرم آرون بوشنل، وهو عضو نشط في القوات الجوية الأمريكية، النار في نفسه أمام السفارة الإسرائيلية في العاصمة واشنطن وتوفي متأثرًا بجراحه بعد ساعات. نحن دولة نشهد انقسامات لأسباب ليس أقلها الحرب في غزة. لذا يبدو أنه لا مفر من أن ننظر إلى الحقائق ذاتها – رجل يحترق وهو يصرخ “فلسطين حرة” – ونُفسّرها بطرق مختلفة تمامًا. كانت بعض ردود الفعل المبكّرة على انتحار بوشنل مُدينة وحتى ساخطة، بطرح أسئلة من قبيل: لماذا يفعل شيئًا سخيفًا جدًا أو مجنونًا؟
أرجع مايكل ستار من صحيفة “جيروزاليم بوست” الاحتجاج الانتحاري إلى “حالة من الهستيريا”، في حين قال الصحفي مارك جوزيف ستيرن بلهجة انتقادية إن “الأشخاص الذين يعانون من مرض نفسي يستحقون التعاطف والاحترام ولكن من غير المسؤول إلى حد كبير الثنّاء عليهم لاستخدامهم مبررًا سياسيًا لوضع حد لحياتهم”. وقد افترض كثيرون غيره أن يكون بوشنل مريضًا نفسيًا دون دليل.
يشير الاندفاع نحو إضفاء الصبغة المرَضيّة على تصرفات بوشنل إلى وجود معايير مزدوجة. فعندما أن أحرق البائع المتجول التونسي محمد البوعزيزي نفسه في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2011 ــ بداية الربيع العربي ــ لا أتذكر أن أحداً تساءل عما إذا كان مريضاً نفسيًا. وقد أشاد به الرئيس باراك أوباما باعتباره بطلاً وقارنه بالوطنيّين الأمريكيين في حركة الشاي في بوسطن وأيقونة الحقوق المدنية روزا بارك. لم نكن نعرف سوى القليل عن آراء البوعزيزي السياسية أو حياته العائلية، ولم يهتم سوى القليل بهذا السؤال. ونادرا ما وُصفت وفاته بأنها انتحار في وسائل الإعلام الغربية. وفي نهاية المطاف، كانت قضيته عادلة أخلاقيا وأصبحت أكثر عدلاً بسبب الثورات التي أحدثتها.
ما الذي يجعل تصرفًا يصنف نبيلًا وآخر مضطربًا؟ كيف نحكم على ما هو معقول وما هو غير ذلك؟ على النقيض من البوعزيزي الذي كان يرد على مصادرة بضاعته وإساءة معاملة الشرطة له، يبدو أن بوشنل قد فكر ملياً في أفعاله وحذر وسائل الإعلام بشأن احتجاجه الوشيك قبل ساعات. وبينما كان يغمر نفسه بالبنزين اعترف بنزعته “المتطرفة” لما كان على وشك القيام به – وبالفعل كان كذلك. وكما يشير الفيلسوف مايكل تشولبي بشكل فاتر في كتابه عن الانتحار، فإن “قتل النفس أمر صعب” والغالبية العظمى من المحاولات تبوء بالفشل. في المقابل، يزيد معدل الوفيات في حالات التضحية بالنفس عن 70 بالمائة، وفقًا لإحدى الدراسات.
لم ينظر بوشنل إلى الصراع على أنه معزول وصرح قبل إضرام النار في نفسه: “أنا عضو نشط في القوات الجوية للولايات المتحدة”
كان بوشنل يتبنى نزعة سياسية متطرّفة. سيجد الكثيرون، إن لم يكن معظمنا، وجهات نظره المختلفة التي كان ينشرها بانتظام على موقع ريديت سخيفة وتائهة ومستهجنة. لقد انخرط في نوع من الفانونية التي كانت تنظر للعالم من خلال العدسة المبسطة للمستعمِر والمستعمَر. كان يعتقد أنه ليس من حقه، كمواطن أمريكي من ذوي البشرة البيضاء أن يتمتع بالامتيازات وأن يتساءل عن كيفية استجابة الفلسطينيين وغيرهم من الجماعات المضطهدة لقَمعهم، حتى لو كان ذلك يعني اللجوء إلى العنف.
بالنسبة لبعض منتقدي بوشنل، كان هذا الامتياز مصدرًا للغضب في الاتجاه الآخر. وقد أشار أحد النقاد إلى أنه بينما كان البوعزيزي يحتج على حكومته، كان بوشنل البالغ من العمر 25 سنة يشغل نفسه بـ “صراع عرقي ديني بعيد” دون أن يكون له حتى أي صلة عائلية بالمنطقة. فلماذا ينبغي أن يهتم بشدة بمشاكل الآخرين؟
يؤدي هذا إلى انقسامٍ أساسيٍّ حول كيفية تفسير الأمريكيين للحرب في غزة. وهو ليس مجرد صراع أجنبي آخر قُتل فيه عشرات الآلاف من الأبرياء. والولايات المتحدة ليست في منأى عن الصراع لأنها تعتبر الراعي العسكري الرئيسي لإسرائيل بتوفير أسلحة الطوارئ والإمدادات اللازمة لمواصلة حربها. علاوة على ذلك، تقدم القوات الجوية الأمريكية معلومات استخباراتية عن الاستهداف الهجومي في القصف الجوي الإسرائيلي الضخم على غزة. إن الولايات المتحدة متورطة بشكل مباشر بطريقة مختلفة عن صراعات أخرى.
كان بوشنل مستاء على نحو متزايد بشأن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الحرب التي أودت بحياة نحو ثلاثين ألف فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال
لم ينظر بوشنل إلى الصراع على أنه معزول وصرح قبل إضرام النار في نفسه: “أنا عضو نشط في القوات الجوية للولايات المتحدة. ولن أكون متواطئا بعد الآن في الإبادة الجماعية. أنا على وشك الانخراط في عمل احتجاجي متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي مستعمريهم، فهو ليس متطرفًا على الإطلاق. وهذا ما قررت طبقتنا الحاكمة أنه سيكون طبيعيا”.
لا يتعين على أحد أن يُعجَب بمنطق بوشنيل ـ أو استخدامه لمصطلح “الإبادة الجماعية” ـ حتى يفهم وجهة نظره. لكن استيعابه وتفهّمه لا يعني تبريره. وللاستشهاد بتشبيه تافه نسبيا، أشار الفيلسوف السياسي سانتياغو راموس مؤخرا إلى أن “تفسير سبب تصويت عمك لترامب في سنة 2020 ليس مثل التصويت لترامب بنفسك”. التفكير بهذه الطريقة يتطلب ما يسميه المؤلف روبرت رايت “التعاطف المعرفي”، وهو جهد واعي لتبنّي وجهة نظر الآخرين، حتى الأشخاص الذين تعتقد أنهم سيئون.
واستنادًا إلى المعلومات المتوفّرة لدينا، بدلاً من التكهنات حول الحالة العقلية لرجل ميت، كان بوشنل مستاء على نحو متزايد بشأن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في الحرب التي أودت بحياة نحو ثلاثين ألف فلسطيني أغلبهم من النساء والأطفال. وخلُص تحقيق شامل أجرته صحيفة واشنطن بوست إلى أن حرب “إسرائيل” في غزة كانت إحدى أكثر الحروب تدميرًا – في القرن الحادي والعشرين حتى الآن: فقد “دمرت إسرائيل عددًا أكبر من المباني في وقت أقل بكثير مما دُمّر أثناء معركة النظام السوري في حلب من سنة 2013 إلى سنة 2016، والحملة التي تقودها الولايات المتحدة لدحر تنظيم الدولة في الموصل بالعراق والرقة بسوريا في سنة 2017”.
قد يكون من غير المعقول، أو حتى من الجنون، أن نفكر في القيام بما فعله بوشنل، ولكن ليس من غير المعقول أن يشعر بوشنل ـ والملايين من الأميريكيين الآخرين ـ بإحساس متزايد بالعجز إزاء قيام حكومتهم بتسهيل عملية القتل الجماعي لشعب أعزل إلى حد كبير. وهذا غير منطقي.
المصدر: واشنطن بوست