ذكرنا في الحلقة السابقة أن أشرف مروان سلّم للموساد، نهاية 1971، أسرارًا عسكرية خطيرة مكّنت صانعي القرار الإسرائيليين من تكوين صورة دقيقة عن نوايا مصر بخصوص الحرب والسلم، وتولد لديهم، بناءً عليها، قناعة بأن إعلان مصر للحرب لن يكون بهدف استعادة سيناء، وإنما لإجبار القوى المؤثرة في الصراع على التدخل وفرض حل دبلوماسي على الجانبين.
متى ستحارب مصر؟
المسألة الأخرى الهامة التي كانت تشغل الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية هي متى يصبح المصريون على أهبة الاستعداد للهجوم؟ وهنا أدت المعلومات التي قدمها مروان دورًا حاسمًا أيضًا في التصور الذي كونه الإسرائيليون وملخصه أن مصر لن تهاجم “إسرائيل” – أبدًا – قبل أن تحل مشكلة ضعفها العسكري ومعالجة التفوق الجوي الإسرائيلي.
سرب مروان للموساد معلومات خطيرة حول الحوارات التي أجراها السادات في موسكو عام 1971
بخصوص هذه النقطة، قدم مروان تقريرًا عن اجتماع عقده السادات مع كبار قادته العسكريين أعربوا فيه عن حاجتهم إلى خمسة أسراب من القاذفات المقاتلة بعيدة المدى (ما بين ستين وخمس وسبعين طائرة حربية كحد أدنى)، كشرط للذهاب إلى الحرب، كذلك طائرات حربية توازي طائرات “فانتوم f-4” الإسرائيلية.
كما سرب مروان للموساد معلومات خطيرة حول الحوارات التي أجراها السادات في موسكو عام 1971، والتي تشير إلى رغبة مصر في امتلاك أسلحة تهدد العمق الإسرائيلي لردعها عن مهاجمة العمق المصري عند قيام الحرب. وبذلك تولدت قناعة لدى الإسرائيليين مفادها أن الجيش المصري لن يهاجم بدون القاذفات المقاتلة، التي يتعنت الجانب السوفييتي في إرسالها لمصر.
مروان يخبر الموساد بخطة الحرب الجديدة
منذ أواخر 1972، بدأ أشرف مروان يرسم صورة مغايرة بالكامل حول التصور السابق، بناء على توقف مصر المفاجئ في السعي لحصول على قاذفات مقاتلة كشرط لخوض الحرب، ففي 24 أكتوبر 1972 طرح السادات رؤيته الجديدة في اجتماع مصيري مع قادته، لم يشارك فيه مروان، لكن أحد مساعديه كان حاضرًا وسجل الملاحظات. وبعد ذلك بأسبوع التقى مروان برئيس الموساد تسفي زامير، ومشرفه دوبي، في لندن وسلمهما وثائق تثبت نية السادات الذهاب للحرب بأسرع ما يمكن، وتشرح بوضوح قرار ترحيل السوفييت في يوليو 1972 كخطوة أولى باتجاه زيادة حرية مصر في المناورة.
كان لمروان دور حاسم في تطوير التصور الإسرائيلي بشأن الحد الأدنى من المعطيات التي تعتبرها مصر ضرورية لشن الحرب
وعلى الرغم من أن تلك الوثائق لم تذكر صراحة أن السادات لم يعد ينتظر الأسلحة التي كان يعتقد، حسب الخطة الأولى، أنه بحاجة إليها لشن الهجوم، أكمل مروان ما كان ينقص الوثيقة من خلال روايته الشفوية عن الاجتماع ونتائجه، فقد أخبر زامير ودوبي أن السادات وصل إلى قناعة تامة بانسداد أفق الخيار الدبلوماسي، وأن السبيل الوحيد لإعادة إحيائه هو خطوة عسكرية، وأنه طرد جنرالات من جيشه بسبب شكوكهم في جاهزية الجيش بدون وصول القاذفات، كما قدم مروان جدولًا زمنيًا لتنفيذ رؤية السادات الجديدة تتضمن: استكمال التحضيرات المتعلقة بالدفاع عن الجبهة الداخلية المصرية في نهاية نوفمبر 1972، وخلال ديسمبر سيكون الجيش أكمل استعداداته لخوض حرب “ساكنة” منخفضة المستوى، أما عبور القناة فلن يتم قبل نهاية 1972. وأخيرًا أخبرهم بأن سوريا قررت المشاركة في الخطة.
وفي 3 يونيو 1973، قبل أربعة أشهر من انطلاق الحرب، قال مروان لدوبي أن الجيش المصري، وفقًا للتصور الجديد، سيعتمد – بدلًا من القاذفات – على المضادات الأرضية الضخمة المركزة غربي القناة، كذلك على تقسيم مجهود القوى الجوية الإسرائيلية ما بين الجبهتين الشمالية والجنوبية، وتحقيق عنصر المفاجأة كوسيلة رئيسية للتغلب على التفوق الجوي الإسرائيلي.
وهكذا كما كان لمروان دور حاسم في تطوير التصور الإسرائيلي بشأن الحد الأدنى من المعطيات التي تعتبرها مصر ضرورية لشن الحرب، عندما سلم الموساد خطة العبور “جرانيت 1″، كان أيضًا المصدر الرئيسي للمعلومات بشأن تغير المزاج المصري.
مروان أيضًا أخبر الموساد بكل المعلومات التي تخص صفقة طائرات الميراج بين ليبيا وفرنسا في الظاهر بينما كانت في الحقيقة لمصر، والتي تؤكد عزم مصر على تنفيذ التصور الجديد والتي لجأ إليها السادات بعد التعنت السوفييتي في إرسال القاذفات.
خطة المآذن العالية في يد الموساد
حين استلم سعد الدين الشاذلي منصب رئيس أركان حرب الجيش المصري، وضع خطة هجوم “جرانيت 2” وكانت أكثر تحديدًا من خطة “جرانيت 1″، حيث كانت تستهدف تحرير الأرض وصولًا إلى ممري “متلا والجدي”، اللذان يقطعان الجبال الممتدة غربي سيناء، بحدود أربعين إلى سبعين كيلو مترًا شرق قناة السويس، لكن مشكلة تلك الخطة أنها كانت بحاجة إلى “أسلحة ردع” لمجابهة القوة الجوية الإسرائيلية. لذلك حينما أمر السادات، في مطلع عام 1973، بالاستعداد لشن حرب، اُتخذ القرار بتقليص أهداف الحرب إلى الحد الذي يكون الجيش المصري مقتنعًا بأنه قادر على تحقيقه حتى بدون الصواريخ والطائرات بعيدة المدى.
عرف مروان أن الحرب ستندلع في 6 أكتوبر قبل ذلك التاريخ بيوم واحد، تحديدًا في منتصف 5 أكتوبر، وبمحض الصدفة خلال وجوده في لندن
الخطة الجديدة المعروفة باسم “المآذن العالية” أصبحت جاهزة في يناير 1973، كما أمر السادات، وكانت تهدف إلى حل مشكلة هشاشة الجيش أمام هجمات سلاح الجو الإسرائيلي، وإلى تلبية مطالب السادات في تحقيق إنجاز يهز المنطقة ويفرض التحرك على الجبهة الدبلوماسية.
كانت “المآذن العالية” تركز على عبور قناة السويس – باستخدام نفس الخطة التي أعطاها مروان للموساد عام 1971، والتي تعتمد على 5 فرق مشاة تعبر من 5 نقاط مختلفة، لكن بعكس الخطط السابقة التي كانت تعتبر العبور بمثابة مرحلة أولى هدفها تمكين الفرق المدرعة من الانطلاق باتجاه “متلا والجدي”، كان الهدف النهائي للحرب في خطة “المآذن العالية” هو عبور القناة والسيطرة على ضفتها الشرقية. وبهذه الطريقة تتجنب القوات المصرية التحرك شرقًا خارج مظلة المضادات الأرضية التي لا تغطي أكثر من 10 كيلو مترات شرق القناة.
على الرغم من السرية الكاملة التي أحاطها السادات بخطة “المآذن العالية”، استطاع مروان تمريرها للإسرائيليين، كما مرر “جرانيت 1″، “جرانيت 2” من قبل.
وفي بداية سبتمبر 1973، أخبر مروان دوبي أن مصر قررت الهجوم بجانب سوريا في نهاية العام، لكنه لم يذكر توقيتًا محددًا لأنه لم يكن يعرف بالضبط في أي يوم سيحدث ذلك.
فشل إسرائيلي ذريع
هنا نصل للسؤال: إذا كان مروان قدّم كل شيء خاص بتغير شروط الحرب في الخطة المصرية الجديدة، فلماذا مُني الجانب الإسرائيلي بخسائر هائلة في أيام الحرب الأولى برغم معرفته المسبقة بكل هذه التفاصيل؟
يقول جوزيف، في معرض إجابته عن هذا السؤال، إن شعبة أبحاث الاستخبارات الإسرائيلية واستخبارات القوى الجوية لم تهتم كثيرًا بالتصور الجديد الذي نقله مروان إليها، وظلت حتى 6 أكتوبر 1973 على اقتناعها بالتصور القديم الذي يفترض أن مصر لن تهاجم بدون القاذفات المقاتلة، على سبيل المثال أكد إيلي زعيرا، رئيس الاستخبارات العسكرية، في 24 سبتمبر 1973 أي قبل أسبوعين فقط على اندلاع الحرب، أن مسألة شراء تلك القاذفات شرط ضروري لذهاب المصريين إلى الحرب، وهذا الشرط، من وجهة نظره، لن يتحقق قبل عام 1975 بالحد الأدنى.
يعلق جوزيف على ذلك: “سيظل هذا الخطأ يطارد محللي الاستخبارات الإسرائيليين الذين رفضوا تعديل أفكارهم حول نية المصريين لخوض الحرب حين بدأ مروان يرسم صورة مغايرة عنها”.
طلب مروان مقابلة رئيس الموساد تسفي زامير ليخبره بأن الحرب ستقع في اليوم التالي، وفي مساء ذلك اليوم، الجمعة 5 أكتوبر التقا مروان بزامير ودوبي وأخبرهما أن “السادات ينوي شن الحرب غدًا”
ويخبرنا جوزيف بأن لجان التحقيق التي درست أسباب الفشل الاستخباراتي الذريع الذي مُنيت به “إسرائيل” في الأيام التي سبقت حرب أكتوبر، أثبتت أن ذلك الفشل لم ينتج عن شح المعلومات “الدقيقة” بل عن رفض الاستخبارات العسكرية التخلي عن تصورها القديم حتى بعد أن أثبتت الوقائع عكس ذلك.
كيف أنقذ “الملاك” دولة “إسرائيل” في حرب أكتوبر؟
إذا كانت “إسرائيل” – نتيجة فشل الاستخبارات في استيعاب التصور الجديد كما يقول جوزيف – لم تستفد من جهود مروان الجاسوسية، فلماذا إذن أطلقت عليه لقب “الملاك” ولماذا يدّعي مؤلف هذا الكتاب أنه أنقذ “إسرائيل”؟
هنا، سنسرد عدة نقاط مفصلية تبين القيمة اللا محدودة لمساهمة مروان في أمان “إسرائيل”، اعتبرها جوزيف كافية لوصفه بـ “الملاك”.
بحسب جوزيف، عرف مروان أن الحرب ستندلع في 6 أكتوبر قبل ذلك التاريخ بيوم واحد، تحديدًا في منتصف 5 أكتوبر، وبمحض الصدفة خلال وجوده في لندن، عندما أخبره صديقه محمد نصير أن أوامر عاجلة صدرت من القاهرة بتغيير مسار جميع طائرات النقل الموجودة في لندن وباريس إلى طرابلس بليبيا، وكانت تلك الأوامر بمثابة إشارة لمروان بأن الحرب ستندلع في اليوم التالي لعلمه المسبق بأن خطة الحرب تقضي بتغيير مسارات الطائرات إلى بلدان أخرى.
عندها، وفورًا، طلب مروان مقابلة رئيس الموساد تسفي زامير ليخبره بأن الحرب ستقع في اليوم التالي، وفي مساء ذلك اليوم، الجمعة 5 أكتوبر، التقا مروان بزامير ودوبي وأخبرهما أن “السادات ينوي شن الحرب غدًا”.
على الفور، أرسل زامير تحذير مروان إلى “إسرائيل”. هذا التحذير كان كفيلًا بتغيير مجرى أحداث حرب أكتوبر، هكذا يقول جوزيف.
وعند الساعة الرابعة والنصف من صباح السبت، كانت كامل نخبة صناع القرار في الحكومة الإسرائيلية على علم بالهجوم المصري الذي سيقع في ذلك اليوم، وعقدوا اجتماعات مكثفة ناقشوا خلالها كيفية مواجهة الهجوم المصري السوري الوشيك. هيمنت مسألتان على تلك النقاشات، الأولى تخص الاستدعاء الطارئ لقوات الاحتياط، والثانية كانت بشأن قيام سلاح الجو الإسرائيلي بضربة استباقية بهدف إبقاء المبادرة العسكرية بيد الإسرائيليين.
كادت الجولان أن تسقط تمامًا لولا استدعاء الاحتياطي الإسرائيلي في وقت مبكر، بفضل تحذيرات أشرف مروان
وبعد مناقشات عديدة تناولوا فيها كافة الجوانب السلبية والإيجابية، وافقت رئيسة وزراء “إسرائيل” جولدا مائير على استدعاء قوات الاحتياط ورفضت الضربة الاستباقية.
وبحلول التاسعة صباحًا، تم إصدار أوامر استدعاء قوات الاحتياط، ولكن نتيجة لخطأ في تطبيق القرار، طبقًا لما توصلت إليه لجنة أجرانات – التي تشكلت فيما بعد للتحقيق في أسباب القصور الإسرائيلي خلال حرب أكتوبر – لم تكن فرقة الدبابات المسؤولة عن قطاع سيناء في الجيش الإسرائيلي “الفرقة المدرعة 252” مستعدة حينما بدأ الهجوم عند الثانية ظهرًا، ونتيجة لذلك عبرت القوات المصرية القناة “دون خدش” وتمكنت من تنفيذ أخطر جزء من الخطة وهو عبور القناة، دون مقاومة تُذكر، وخسرت الفرقة 252 مائتي دبابة من أصل ثلاثمائة.
لكن على الجانب الآخر، وبفضل تحذيرات مروان التي جاءت في الوقت المناسب والاستدعاء الطارئ لقوات الاحتياط، تمكنت الدبابات الإسرائيلية من الوصول إلى حصن بودابست قبل دقائق من شن الجيش المصري هجومه الأرضي، واستطاعت تدمير الدبابات المصرية والعربات المدرعة التي كانت تتأهب لاقتحام الحصن.
لم ينقذ “الملاك” بودابست فقط، فبفضل أشرف مروان، تجنبت “إسرائيل” مواجهة وضع أسوأ بكثير على أرض الميدان، كان ذلك جليًا أكثر على الجبهة السورية. فبحلول منتصف الأحد 7 أكتوبر، صار السوريون إلى مرتفعات الجولان لدحر الجيش الإسرائيلي، بالتقدم نحو “نفح” حيث كانت تتمركز الفرقة المدرعة 36 الإسرائيلية. إذا تمكن السوريون من الاستيلاء على “نفح” سيسيطرون على كامل الجولان الأوسط ويصبحوا قادرين على تدمير اللواء المدرع السابع الإسرائيلي الذي كان يدافع عن الجبهة الشمالية الشرقية من الجولان، والأكثر من ذلك أنهم سيكونوا قادرين على التقدم غربًا باتجاه جسر بنات يعقوب، وبالتالي الإمساك بمصادر نهر الأردن ومنع الاحتياطي الإسرائيلي من الوصول إلى الجولان.
لو أن مروان لم يخبر زامير بتوقيت الهجوم لربما اختلفت نتيجة الحرب كليًا، لقد أسهم تحذير مروان في تفادي خسارة عسكرية فادحة كانت بلا شك ستلقي بظلالها على مستقبل “إسرائيل”
عند “نفح” قامت إحدى أهم المعارك في حرب أكتوبر، وبرغم تعرض “إسرائيل” لخسائر فادحة في البداية، إلا أنها استطاعت هزيمة القوات السورية وأجبرتها على الانسحاب من هناك بعد أن كبدتها خسائر أكثر من 40 دبابة. في اليوم التالي حاول السوريون إعادة المحاولة لكنهم فشلوا مرة ثانية، وشن الجيش الإسرائيلي هجومًا معاكسًا.
وهكذا.. كادت الجولان أن تسقط تمامًا لولا استدعاء الاحتياطي الإسرائيلي في وقت مبكر، بفضل تحذيرات أشرف مروان، المسؤول الوحيد عن النصر الإسرائيلي في “نفح”، بتعبير جوزيف الذي أكد أن استعادة الجولان مرة أخرى كان سيتطلب من الجيش الإسرائيلي ليس فقط معركة طويلة إنما أيضًا توجيه قوات كبيرة من الجبهة المصرية، وهو ما سيزيد حتمًا من احتمال ضغط مصري هجومي في الجنوب ربما تفقد “إسرائيلط على إثره ليس فقط عدد كبير من القتلى بل فقدان مزيد من الأراضي.
لو أن مروان لم يخبر زامير بتوقيت الهجوم لربما اختلفت نتيجة الحرب كليًا، لقد أسهم تحذير مروان في تفادي خسارة عسكرية فادحة كانت بلا شك ستلقي بظلالها على مستقبل “إسرائيلط، فبفضل المعلومة الخطيرة التي أعطاها لرئيس الموساد تمكنت “إسرائيلط من استدعاء قوات الاحتياط واتخذت عددًا من القرارات المصيرية الأخرى في الساعات الأخيرة قبل الهجوم جنبتها هزيمة نكراء، هكذا يقول جوزيف.
إلى جانب الأثر الكبير لتحذير مروان على سير المعركة في مرتفعان الجولان، استفادت “إسرائيل” أيضًا من مساعدة “الملاك” في مسألة أخرى، ففي الدقائق الأولى من الحرب، قامت قاذفات توبولف tu-16 “الغرير” المصرية بإطلاق صاروخي جو – أرض باتجاه تل أبيب، لتحذير الإسرائيليين من مهاجمة عمق الأراضي المصرية كما فعلت في حرب الاستنزاف، كانت “إسرائيلط تعلم ذلك من قبل حسب الخطط المصرية التي سلمها مروان للموساد، لذلك انطلقت مقاتلتا ميراج من قاعدة “حاصور” الجوية الإسرائيلية وضربت الصاروخين، سقط أحدهما في البحر بينما هوى الآخر في الماء مباشرة عند شاطئ تل أبيب.
بدون المعلومات التي زود بها مروان الموساد حول هذا الأمر، لسقطا الصاروخين وسط تل أبيب، ولكان تأثير ضربة كهذه وقع هائل، سواء على الروح المعنوية للجمهور الإسرائيلي أو على منحى تطور الصراع.
مساء 7 أكتوبر، أوضح رئيس الموساد تسفي زامير – الذي وصل لتوه لإسرائيل قادمًا من قبرص – لمجموعة صنع القرار في مكتب جولدا مائير، أن مصر تتبع فعلًا خطط الحرب التي أعطاه مروان إياها. كان الجيش الإسرائيلي يستعد لشن لهجوم معاكس في اليوم التالي، 8 أكتوبر، أخبرهم زامير أن مصر “تنتظر هذا النوع بالضبط من الانتقام”، وقال لهم “إننا نعرف الخطة المصرية مسبقًا”، وأن المصريين ينتظرون هذا الهجوم المضاد ليهزموا الجيش الإسرائيلي بواسطة المشاة المسلحين بالأسلحة المضادة للدبابات، وأضاف: “إذا بقينا مصرين على القتال من أجل القناة سيكون الوضع سيئًا”.
بفضل مروان، فهم الإسرائيليون بدقة كيف كان المصريون ينظرون إلى الحرب والظروف اللازمة لشنها وذلك على امتداد أكتوبر 1972
بعد يومين، التقى زامير بحاييم بارليف، قبل إرساله جنوبًا لتولي منصبه كقائد جديد لجبهة السويس، وشرح له كل تفصيلة في خطة المعركة المصرية، وأعطاه رسالة تلكس مطبوعة عن الخطة، وطلب منه أن يقسم على إتلافها حرصًا على سلامة مصدرها. قرأ بارليف الخطة التي سربها مروان بعناية، ومن هنا بدأت القيادة الجنوبية بالاستعانة بها كثيرًا، وكان هذا أحد الأسباب التي جعلت “إسرائيل” تشهد تحسنًا ملحوظًا على جبهتها الجنوبية بعد ذلك.
في 11 أبريل 1973، سرد مروان لدوبي تفاصيل عسكرية حول الهجوم المصري المتوقع، وقال أن الحركة الافتتاحية ستكون بوابل من القصف المدفعي يستمر لمدة 38 دقيقة من أجل إضعاف الدفاعات الإسرائيلية على الجبهة الأمامية، وبالتزامن مع ذلك تقوم 178 طائرة بمهاجمة المواقع العسكرية والمدنية (تحديدًا حقول النفط) في سيناء، بينما تقوم 40 طائرة ميراج بمهاجمة أهداف في العمق الإسرائيلي، وبعد هذا التمهيد تبدأ 5 فرق مشاه متمركزة على طول القناة بالعبور من 5 نقاط مختلفة، وتفاصيل أخرى عديدة حدثت بالفعل بعد ستة أشهر من ذلك اللقاء، ففي 6 أكتوبر قامت مصر بالهجوم بعد 38 دقيقة من القصف.
في أبريل 73 أيضًا، سرّب مروان تفاصيل خطة الحرب السورية للموساد، والتي تنص على: في المركز تستعد 3 فرق مشاه للتقدم، تحت جنح الظلام، مسافة 10 كيلو مترات إلى مرتفعات الجولان، وفي فجر اليوم التالي ستندفع الفرقة المدرعة الثالثة السورية باتجاه الغرب إلى حدود 1967 بهدف استعادة كامل المنطقة التي تم احتلالها في حرب 67. وبالفعل، كان الهجوم السوري في أكتوبر مطابقًا لما وصفه مروان، باستثناء توقيت الهجوم الليلي، حيث اتضح فيما بعد أن السوريين فضلوا الهجوم عند بزوغ الفجر، وبعد كثير من الجدل مع الجانب المصري، تم في آخر لحظة التوصل إلى تسوية تحدد ساعة الصفر عند الثانية ظهرًا.
خلال الحرب، قام السرب التاسع والستين المصري بنشر 42 طائرة ميراج 5 مختلفة الأنواع من قاعدة طنطا، تلك الطائرات تولت المهام الجوية الأكثر أهمية لمصر في الحرب، وبفضل أشرف مروان – الذي كشف تفاصيل صفقة طائرات الميراج كما ذكرنا سابقًا – عرفت الاستخبارات الإسرائيلية كل ما تريده عن السرب: من هم قادته، أسماء طياريه، مواقع حظائره السرية.
بعد كل هذا.. مروان عميل مزدوج؟!
منذ اندلاع حرب أكتوبر، صدر كم هائل من المعلومات، معظمه على شكل مذكرات رسمية وأبحاث وثائقية، تتناول السلسة الطويلة من الأحداث التي سبقت الحرب: تصورات المصريين لما يحتاجونه للهجوم، الأسلحة التي استلموها وجعلت ذلك ممكنًا، والقرارات المتعلقة بموعد الهجوم. وقد اتضح من كل ذلك دون أدنى شك، طبقًا لجوزيف، أن المعلومات الاستخباراتية التي أعطاها مروان للإسرائيليين أثبتت دقها على الدوام وتنقل بالضبط ما كان يحدث في مصر.
نائب لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية:”مروان كان مصدراً استخباراتيًا لا يظهر إلا مرة في كل جيل ووزنه يساوي ذهبًا”
بفضل مروان، فهم الإسرائيليون بدقة كيف كان المصريون ينظرون إلى الحرب والظروف اللازمة لشنها وذلك على امتداد أكتوبر 1972، وعندما غير السادات رأيه وقرر خوض الحرب دون انتظار الأسلحة التي كان يعتبرها الجيش ضرورية للنصر، نقل مروان أيضًا تفاصيل التصور الجديد، لكن الاستخبارات العسكرية فشلت في تعديل تقديراتها القديمة، وبحسب تعبير مؤلف “الملاك”: “هذا، وفقط هذا، ما أدلى لفشل “إسرائيل” في أن تكون جاهزة للحرب لحظة نشوبها”
من كل ذلك يقول جوزيف أن الاستنتاج الوحيد المقبول في قصة مروان هو عدم صحة الادعاءات القائلة بأن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن تملك أدنى فكرة عن كون تصورها القديم أصبح حبر على ورق، وأن ليس لديهم أي فكرة عن تغيير المصريين لموقفهم من الشروط اللازمة لشن الحرب، كذلك وجهة النظر المتطرفة الذي تبناها زعيرا بعد الحرب – ليعالج فشله الاستخباراتي – والتي تدّعي أن مروان خدع الإسرائيليين بطرقة ما ليجعلهم متمسكين بطريقة تفكيرهم القديمة ليزيد فعالية عنصر المفاجأة في الهجوم المصري.
الملاك الذي يساوي وزنه ذهبًا!
“أعظم مصدر حظينا به يومًا.. لقد كان فريدًا”، هكذا وصف زامير، رئيس الموساد، أشرف مروان وذلك يرجع لتميز الوثائق والتقارير التي كان يقدمها مروان بدقة استثنائية. وهناك آخرون اطلعوا على إسهامات مروان ووافقوا زامير الرأي مثل العميد المتقاعد عاموس جلبوع الذي ترأس شعبة أبحاث الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في فترة الثمانينات، والذي قال أنه لم يظهر في تاريخ “إسرائيل” كله جاسوس جعل مصر شفافة بالطريقة التي فعلها مروان. كذلك العميد المتقاعد أهرون ليفران الذي عمل كنائب لرئيس شعبة الاستخبارات العسكرية قبل حرب أكتوبر وقال أن المعلومات التي سلمها مروان “لإسرائيل” كانت “عالية الجودة من النوع الذي ترغب فيه وكالات الاستخبارات طوال حياتها”، واعتبر أن مروان “مصدر استخباراتي لا يظهر إلا مرة في كل جيل” وأنه “يساوي وزنه ذهبًا”.
لم يقتصر تقدير مروان على رجال الاستخبارات، فبعد سنوات من الحرب قال موشيه ديان عنه: “قدم معلومات استخباراتية متينة جدًا نعتقد أنها أفضل ما يمكن تحقيقه”.
في الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسة، نجيب عن السؤال الذي لا يزال عالقًا منذ 10 سنوات: من قتل أشرف مروان؟
ربما تفسر تلك الشهادات التي توثق أهمية مروان الاستراتيجية لدى “إسرائيل” الأخبار التي نشرتها الصحافة فيما بعد حول المبالغ التي كان يتقاضاها نظير خدماته، التي ذهبت إلى حد 200 ألف دولار عن الاجتماع الواحد، يؤكد جوزيف أن الأرقام الفعلية كانت أقل من ذلك، وأشار إلى أن مروان كان يتقاضى في بداية التعاون 10 آلاف دولار عن كل سلسلة اجتماعات، ثم طلب لاحقًا مضاعفة الأجر، ونزل بالفعل رجال الموساد على رغبته، ودفعوا له ما أراد. وكان الدفع يتم عن طريق دوبي نقدًا بأوراق مستعملة من فئات صغيرة موضوعة في حقيبة سامسونايت صغيرة.
غير أن كل المعلومات التي قدمها مروان “لإسرائيل” في كفة، وإبلاغه زامير بموعد الحرب يوم 5 أكتوبر في كفة أخرى، كانت “إسرائيل” تقدر تمامًا مدى أهمية تحذير مروان، لذلك، وبعد أن انتهت الحرب، أعطى زامير أمرًا بدفع مبلغ قدره 100 ألف دولار للملاك مكافأة على هذا التحذير.. “وقد استحق كل سنت منه”، بتعبير يوري بار-جوزيف.
في الحلقة الرابعة والأخيرة من هذه السلسة، نجيب عن السؤال الذي لا يزال عالقًا منذ 10 سنوات: من قتل أشرف مروان؟