الكثير من الغموض يحوم حول تنظيم “الطليعة المقاتلة” والمعارك التي خاضها ضد النظام السوري، وأدى مقتل جل قادة التنظيم من الجيل الأول واختفاء الجيل الثاني، وكل ما يتعلق بهم من وثائق وسجلات كافية عن الأحداث التي شاركوا فيها من بداية السبعينيات، إلى علامات استفهام كثيرة وتفاصيل ما زالت خافية عن تلك الفترة المهمة.
رغم شح المعلومات الدقيقة عن تلك الحقبة، هناك شهادة نادرة جدًا وذات قيمة تاريخية لم تنل الاهتمام الكافي، وهي مذكرات أحد مؤسسي التنظيم “أيمن الشربجي”، الرجل الذي صاحب مروان حديد وعاصر كل مراحل تنظيم الطليعة وكان أحد أهم صناع القرار بالحركة، حتى انتهى به المطاف ليكون قائدًا لجميع خلايا التنظيم من 1984-1988.
تنبع قيمة مذكرات الشربجي من أمرين، الأول: فهم المسار السياسي والعسكري التاريخي لتنظيم الطليعة المقاتلة، ومعرفة الأسباب التي أدت إلى نشأة التنظيم وعلاقته بجماعة الإخوان.
والثاني: الدور الميداني الذي لعبه التنظيم في الأحداث، ونقاط القوة الأساسية التي ساعدته على البقاء والاستمرار لمدة 12 عامًا إلى انتهى به المطاف بضربة قاضية. مع العلم أن هذه المذكرات ليست سردًا مطولًا للمعلومات، وإنما تعتبر وثيقة وشهادة حية لأحداث عاشها وشارك فيها المؤلف.
الأهم من ذلك، أن الشربجي تحدث عن فترة لم يُشر لها أي أحد، وهي فترة تنظيم الطليعة بدمشق، فقد كان الشربجي نفسه قائد التنظيم بدمشق وشارك في تنفيذ أكثر من 100 عملية في قلب العاصمة السورية، واستمر في قيادة التنظيم من دمشق حتى قتله جنود النظام عام 1988.
ومع وقوع مذبحة حماة 1982، شعر الشربجي بضغط نفسي خصوصًا أنه كان يعيش معظم وقته هاربًا ويواجه احتمالات الموت بكل لحظة من حياته، لذا أراد أن يدون الأحداث التي عاشها بإيجابياتها وسلبياتها أمانة للتاريخ وضمانًا لحقوق رفاقه الشهداء والمعتقلين والمشردين وتوثيقًا للمواقف، بجانب استخلاص النتائج والعبر من أخطاء الماضي، ولذا قال في مقدمة مذكراته:
“إن هذا التاريخ يكاد أن يضيع ويشوه ونحن ما زلنا على قيد الحياة، فكيف سيكون الأمر بعد موتنا.. لذلك وجدت من واجبي كتابة تاريخ المجاهدين في دمشق منذ عام 1974 حتى عام 1982، وسينشر على الناس عندما تحين الفرصة”. (صـ36).
كان العنوان الذي اختاره الشربجي لمذكراته هو “تاريخ العمل المسلح في مدينة دمشق”، ومن المهم الإشارة إلى أن الشربجي كان قد تبقى له موضوعان لينهي كتابه، وهما (ملابسات مجزرة حماة ومجزرة تنظيم الضباط في الجيش)، لكن الظروف الأمنية التي عاشها حالت بينه وبين إتمام آخر فصلين في مذكراته التي بدأ كتابتها منذ 1982.
وبعد موت الشربجي في 1988 لم ينشر رفاقه شهادته على الملأ، ولا نعرف على وجه الدقة السبب، لكن الأرجح أنهم خشوا من استغلال النظام للمعلومات التي ذكرها في مذكراته، لذا نشرت على نطاق ضيق.
ثم في العام 2010 نشر موقع “سوريون نت” أجزاءً من المذكرات، ولم ينشرها كاملة حفاظًا على سلامة الأسماء الحية التي أوردها الشربجي. ومع انطلاقة الثورة السورية 2011، نشرت المذاكرات كاملة على 30 حلقة، وجُمعت بعد ذلك في كتاب مطبوع بعنوان “على ثرى دمشق” صدر عام 2017.
أيمن الشربجي .. نبضات القلب
لم يُعرف إلا القليل عن طفولة الشربجي، ولم يتطرق في مذكراته إلى حياته الشخصية، واكتفى بذكر القليل جدًا، وعلى كل حال، فقد ولد عام 1955، ونشأ وسط عائلة محافظة من طبقة وسطى تعيش في حي قديم من أحياء دمشق العريقة، تحديدًا في “حي الميدان” الذي يشتهر بعدد من المساجد التاريخية، لا سيما جامع “الدقاق” الذي كان يرتاده.
جامع العقاق
انتمى الشربجي مبكرًا إلى الإخوان المسلمين، وأكمل معظم تعليمه في مسقط رأسه، ومن صغره مارس رياضة الكاراتيه وكان مهتمًا بالتاريخ، لذا قرأ موسوعات الحروب العالمية، ويبدو أنه كان طالبًا متفوقًا، ويذكر كاتب مقدمة مذكراته أنه درس العلوم الشرعية والفكرية، وكان مهتمًا بشكل كبير بأوضاع سوريا السياسة، وفي الواقع، فإن الطابع العسكري والنهج العقلاني يغلب على شخصيته.
وفي عام 1966 اتخذت الأمور منعطفًا مفاجئًا بعد ظهور “البعث الجديد”، إذ تضررت قطاعات كبيرة من المجتمع السوري من سياسات النظام الذي تدخل في كل جانب من جوانب الحياة، إضافة إلى أن الأيديولوجية التي طرحها لم تكن متوافقة بطبيعتها مع المجتمع وغذت الاستياء الشعبي.
ثم بقدوم حافظ الأسد 1970، كانت أسباب السخط عديدة ومتداخلة في كثير من الأحيان، إلا أن الطابع الطائفي الطاغي على النظام، ومحاباته للأقلية العلوية على حساب الأغلبية السنية، كان أحد أهم أسباب السخط الشعبي السني، وبدأ الكثيرون داخل الحركة الإسلامية في التأكيد على “الطبيعة النصيرية” لحزب البعث.
لم يكن الشربجي بعيدًا عن كل هذا، كان في فورة شبابه، وعاش كحال الكثيرين المزاج الثوري الذي هيمن على البلاد، إذ شهدت سوريا في جميع أنحائها حراكًا شعبيًا للاحتجاج ضد نظام البعث، والكل كان متحفزًا ليوم الخلاص من الأسد، وبما أن “الحركة الإسلامية” كانت تشكل التحدي الأكبر للنظام، أصبح العديد من السوريين ينجذبون إليها بشكل متزايد.
لذا من المؤكد أن الشربجي تأثر بالمناخ السياسي، ولم ينتظر حتى الانتهاء من دراسته الجامعية، وقرر أن ينضم إلى العمل المسلح ضد حافظ الأسد، ويبدو أنه يأس من محاولات التغيير السلمي، خصوصًا أن قمع النظام لمدينته دمشق كان طائفيًا، إذ كُلفت “سرايا الدفاع”، العلوية في تكوينها والتابعة لرفعت الأسد، بقمع أي احتجاجات في العاصمة، وقد اتسمت بإذلال وسحق السنة في المقام الأول.
على صعيد آخر، كانت مدينة حماة كحال المدن السورية الأخرى تغلي بشدة، وعلم زعيم الاحتجاجات في المدينة والشخصية الكاريزمية، مروان حديد، أنباء الاعتقالات التي شنها النظام على مدينته، لذا تنقل من مسجد لآخر وبدأ يحرض من حوله على القتال والدفاع عن النفس، وحسب رواية الشربجي فقد وصل رفعت الأسد إلى حماة خصيصًا لاعتقال حديد مع عدد من شيوخ المدينة.
حاول البعض إقناع حديد بأن القتال في ذلك الوقت خطأ تكتيكي لا ينبغي ارتكابه حتى لا تتكرر مأساة مسجد السلطان التي حدثت عام 1964، ويبدو أنهم خشوا من تصرفات مروان الجريئة ضد النظام، خصوصًا أنه منذ أحداث جامع السلطان 1964 كان يُنظر له كبطل شعبي قادر على التأثير وتحريك الجماهير في المظاهرات المناهضة للنظام، وفعلًا نزل مروان عند رغبة رفاقه في حماة وقرر الفرار منها ليتابع طريقه بخفية في دمشق، وكان يردد دائمًا: “الموت في سبيل الله أفضل من سياط الذل في السجون”.
وفي دمشق ظل حديد متواريًا عن الأنظار مدة عام كامل تنقل خلالها بين أصحابه ومعارفه بسرية تامة، وبأحد منازل “حي العدوي” زاره الكثيرون ممن يميلون إليه، ومن بينهم الشربجي الذي قادته جهوده الحثيثة إلى التعرف على الشيخ الحموي مروان حديد، وذلك بهدف الثورة المسلحة ضد النظام.
كان الشربجي في عمر الـ19 ومنتسبًا إلى جماعة الإخوان عندما اجتمع مع حديد، وعلى الفور توطدت العلاقة بينهما بشكل جيد، وما من شك في أن حديد شخصية كاريزمية تميز بشكل أساسي بقدرته على استقطاب الشباب في كل مكان ذهب إليه.
لذا من خلال صفحات مذكراته، يمكننا أن نرى بوضوح تأثير مروان حديد على الشربجي وإعجاب الأخير به، فقد تحدث عنه بكل إجلال ورأى فيه نموذجًا للإخلاص والعزيمة، واستشهد بكلامه كثيرًا في مذكراته، وعلى الفور قرر أن يبدأ مسيرته الجهادية بالانضمام إلى تنظيم حديد قبل أن يتم عامه الـ20، ويقول:
“قدر الله لي أن ألتقي بالشيخ مروان ـ رحمه الله تعالى ـ سنة 1974م، وبعد مناقشات مطولة وشرح للموقف من جوانبه المختلفة تم تنظيمي في أسرة”. (صـ58).
عشرية التأسيس
رأى مروان حديد خطورة الوضع الذي وصلت له سوريا في السبعينيات، وهو ما جعله يصر على قتال النظام مهما كانت الظروف، فاتصل برفاقه في الإخوان وأطلعهم على رؤيته، التي كانت تقوم على الإعداد والتنسيق للقيام بثورة عامة من خلال أن يقوم الإخوان بتعبئة كوادرهم وتشكيل تنظيمات عسكرية سرية استعدادًا للمواجهة مع السلطة، بجانب التعاون مع الضباط السنة في الجيش.
لكن لماذا أراد حديد جر الإخوان تحديدًا إلى المعركة المسلحة ضد النظام؟ في حقيقة الأمر كانت جماعة الإخوان أكبر حركة إسلامية في سوريا، ومنذ تأسيسها منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، كانت منخرطة في مجموعة واسعة من الأنشطة الدينية والاجتماعية والسياسية حيثما أمكن، بجانب أنها قاتلت على الجبهة الشرقية خلال حرب فلسطين عام 1948، وقبلها ضد الاستعمار الفرنسي.
وظلت نشطة حتى تم حظرها في نهاية الخمسينيات لتنتقل بعدها إلى العمل السري، ثم بعد وفاة قائدها الأول مصطفى السباعي الذي كان له دور كبير في توحيد الحركات السورية المتفرقة، عصفت بالجماعة انقسامات وصراعات داخلية بين شخصياتها وخلافات بشأن السياسة، لا سيما بعد استيلاء نظام البعث على السلطة في انقلاب عسكري عام 1963.
الأمر الذي أدى إلى ظهور مجموعات منقسمة جغرافيًا ومتناقضة في الرؤية والأهداف، وبرز بشكل رئيسي تكتلان، أحدهما في دمشق بقيادة عصام العطار الذي فضل المعارضة السلمية، والثاني معسكر أكثر نضالية يتمركز حول حماة وحلب والمدن الشمالية، هذا الانقسام سيتجلى في أحداث السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي.
عصام العطار: الزعيم الذي ضيعه الإخوان والسوريون
رغم محاولة حديد الاستفادة من شبكة الإخوان الواسعة واستقطاب أي من المعسكرين، لم تتجاوب قيادة الإخوان معه، وعارضوا استخدام السلاح كوسيلة لإسقاط النظام، واتهموه بالاندفاع وبأنه سيتسبب في ضرب الجماعات الإسلامية، وبدلًا من ذلك، حاولوا ثنيه وعرضوا عليه المساعدة لمغادرة سوريا كي يكون بمأمن من بطش النظام، لكنه رفض قائلًا: “إذا كانت السلطة مجنونة في باطلها فإننا مجانين في حقنا، والله لأقاتلنهم ولو كنت وحدي ولا أقبل إلا بحكم الإسلام أو أموت شهيدًا في سبيل الله”.
وراح حديد ينتقد بشدة ما أسماه “انهزامية الإخوان”، لكن رغم ذلك ظلت الحوارات بينه وبين والإخوان مستمرة حتى وصلت إلى درب مسدود، وفشلت كلمته المشهورة: “سأجر الإخوان إلى الجهاد جرًا، وإذا أخرجوني من الباب، سأدخل عليهم من النافذة”.
فعندما يأس حديد وتوصل إلى قناعة أن الإخوان لن يشاركوه أهدافه، لدرجة أنه اعتبر أن الأخوان جعلوا من مصلحة التنظيم وثنًا يعبد من دون الله، قرر عام 1970 تشكيل تنظيم مسلح للإطاحة بحكم البعث والنصيريين والوصول إلى الحكم الإسلامي المنشود، واستقل عن الإخوان بجماعته التي أسماها “الطليعة المقاتلة لجند الله”.
ويؤكد الشربجي أن هذا التنظيم كان مستقلًا تمامًا عن جماعة الإخوان، وكانت النشرات الداخلية للتنظيم لا تصدر باسم الإخوان وإنما تحت اسم “الطليعة المقاتلة لجند الله”. ورغم أن مروان لم يترك أي كتاب أو ما يدل على فكر التنظيم الجديد، فيبدو أنه اعتمد بالكامل على الأفكار والكتابات التي كان يدرسها الإخوان. وفي الواقع، لم يكن هناك اختلاف فكري ومنهجي كبير بين حديد والإخوان، الإشكال الوحيد هو فيما يتعلق بالوسائل والأساليب التي سيتم استخدامها ضد النظام.
حسب شهادة أبي مصعب السوري وآخرين، فقد فصلت جماعة الإخوان حديد وكل شاب يتصل به ويحضر دروسه، كما بذلت جهودًا لطرد الأعضاء الذين عارضوا إستراتيجية الإخوان الرسمية المتمثلة في تجنب المواجهة المسلحة، لكن أصر عدنان سعد الدين على أن حديد بقي في الإخوان ولم يغادر الجماعة، على حد قوله: “لم ينفصل مروان عن الإخوان ولو ساعة في حياته حتى توفي، والإخوان لم يفصلوه أبدًا، لكن كان لديه جناح يتصرف بالطريقة التي يراها مناسبة”.
ومن الواضح أن حديد استقطب الكثيريين من شباب الإخوان الثائرين، وخصوصًا من فصيل حماة الذي كان لبعض أعضائه “عضوية مزدوجة” في تنظيم الإخوان كغطاء فيما لو قُبض عليهم، ويبدو أنه كان هناك تدخل بين الإخوان وتنظيم حديد في المدن الشمالية.
وفي كل الأحوال، ظل حديد يعمل في صمت تام طيلة 4 سنوات رغم أنه في ذلك الوقت كان يعاني من مشكلة الحركة من مكان إلى آخر، ولم يكن يتنقل إلا قليلًا، كما اعتمد تنظيمه على التمويل الذاتي والاشتراكات الشهرية التي يدفعها الأعضاء المنتسبون.
ورغم اعتبار حديد العمل المسلح هو الأسلوب الأنجع لمقاومة النظام، فحسب رواية الشربجي، وضع خطة مكونة من 4 مراحل للتنظيم الجديد: مرحلة التعريف الفكري، يليها الاستيعاب التنظيمي، ثم الإعداد والتدريب، وأخيرًا الصدام مع النظام.
كتب الشربجي: “كان رأي الشيخ مروان ـ رحمه الله ـ أن مرحلة التبليغ لم تنته بعد، ويجب علينا الاستمرار في تبليغ دعوتنا والتنبيه إلى حركتنا وأهدافها حتى نصل إلى مرحلة اليأس من انضمام عناصر جديدة لتنظيمنا، وعندها نقرر أساليب المرحلة الصدامية، هل ستكون حربًا مفاجئة شاملة أم حرب عصابات طويلة الأمد”. صـ(59).
وبعد أن بدأ العديد من الشباب ينتظمون ضمن صفوف جماعة حديد، جاءت المرحلة الثانية التي حددها حديد في أواخر 1974، فقام بتعبئة الشباب في شبكة من الخلايا السرية، ويوضح الشربجي أن مروان اعتمد بشكل أساسي على طلابه القدامى الذين خاضوا العديد من المعارك بفلسطين واكتسبوا خبرة عسكرية واسعة في معسكرات الفدائيين الفلسطينيين، وكان أبرزهم، عبد الستار الزعيم، وموفق عياش، وغالب حداد.
سيحمل هؤلاء القادة الثلاث على عاتقهم مسؤولية التنظيم والإعداد العسكري وشراء السلاح اللازم لخلايا التنظيم. وبالفعل شكلوا منذ عام 1974 معسكرات تدريب سرية في الجبال الساحلية والغابات وضم كل معسكر نحو 30-40 شخصًا من دمشق وحماة وحلب، وبدأت معالم التنظيم العسكري بالبروز، وقد تكون جماعة الإخوان على علم بتنظيم حديد العسكري، لذا حذرت شبابها من التواصل أو التورط معه.
ويلاحظ أن أغلب هؤلاء الشباب الذين انضموا إلى تنظيم حديد وذكر الشربجي سيرهم الذاتية بالتفصيل في مذكراته، كانوا من مواليد الخمسينيات، وغالبيتهم في سن العشرينيات، كما يغلب عليهم التربية الصوفية والكثير منهم ينتمي إلى أسر عريقة، بجانب أنهم كانوا من خريجي الكليات العلمية خاصة الهندسة والطب، ومعظمهم كانوا طلابًا في الجامعة، وقد اعتقل البعض منهم وهم يؤدون الامتحانات، كذلك يبدو واضحًا أن الخلفية الإسلامية لهؤلاء الشباب اعتمدت بالأساس على الدروس التي تلقوها في المساجد.
الحركات الإسلامية في سوريا بين السياسة والجهاد
شعر النظام بوجود مروان حديد في دمشق منذ بداية عام 1975، لكنه لم يعلم بنشاطه العسكري، واستطاع زرع أحد المخبرين إلى صفوف حديد بدمشق، ويدعى مصطفى جيرو، ومن خلاله علمت السلطة بالمكان الذي يقيم فيه حديد، ثم في صباح يوم الإثنين منتصف عام 1975 طوقت أعداد كبيرة من قوات النظام منزل مروان في منطقة العدوي تمهيدًا لاعتقاله.
بحسب الشربجي، دارت معركة عنيفة من الساعة السادسة صباحًا إلى الساعة الرابعة بعد الظهر، استخدم فيها حديد ورفاقه القنابل اليدوية والبنادق الروسية، بينما استخدم جنود النظام آر بي جي، ورشاشات عيار 500، وأسفرت المعركة التي استمرت 10 ساعات عن اعتقال حديد وقتل أحد رفاقه، كما اعتقل آخرون كانوا قادمين إلى منزل حديد لم يعلموا بخبر المداهمة.
تأثر الشربجي كثيرًا لاعتقال حديد، وبالفعل شكل اعتقال القائد العام للتنظيم وأقوى زعيم سوري جهادي ثم موته في 1976 تحت التعذيب الوحشي الذي أودي بحياته، خسارة كبيرة للطليعة المقاتلة، وقد وصف حديد التعذيب الذي تعرض له بقوله:
“إنني شهدت تعذيب الإخوان المسلمين بمصر وقرأت وسمعت عن مختلف أنواع التعذيب في العالم، إلا أنني لم أجد أخس ولا أحقر ولا أحط من زبانية حافظ أسد”. (صـ63).
كان موت حديد بمثابة البداية الفعلية للعمل المسلح ضد النظام، لكن في الواقع بعد حديد، عاني التنظيم لمدة سنتين من ضعف الإمكانات المادية والفوضى الحاصلة، وتتابع على التنظيم عدد كبير من القادة، قتل واعتقل معظمهم، وعاش الشربجي ظروفًا أمنية صعبة، مع العلم أنهم حتى 1975 لم يقوموا بأي عمل ضد النظام، وإنما كانوا في مرحلة الإعداد والتدريب.
ثم بعد سلسلة من الضربات القاصمة التي تعرض لها التنظيم عقب موت حديد واعتقال العديد من كوادر الطليعة، تعهدت الخلايا الباقية من التنظيم بالانتقام لمقتل مروان وحمل لواء إشعال الثورة، وفي العام 1976 تولى قيادة التنظيم طبيب أسنان من مواليد حماة 1947 ومن تلامذة مروان يدعى عبد الستار الزعيم، ويعتبر بحق المؤسس الفعلي للتنظيم.
عبد الستار الزعيم
ففي حين جمع حديد بين العديد من الصفات الحميدة من بينها والقوة، والأب الروحي، والكاريزما، كان عبد الستار رجلًا محنكًا همه الأساسي الإستراتيجية، واستطاع بالفعل أن يوقف النزيف الحاصل والفوضى التي عاشها التنظيم بعد حديد، والأهم أنه وضع أسس تنظيمية وإستراتيجية جديدة للمواجهة القادمة، كما قلص عدد أفراد التنظيم في سائر أنحاء سوريا، وحين طُلب منه تخزين كميات من الأسلحة، رفض وقال: “لا نريد أن نصبح أسرى للإمكانيات ولا نريد المجابهة مهما كانت الضغوط”.
وكانت إستراتيجية عبد الستار الزعيم تتمثل في اغتيال المسؤولين العلويين الذين يهيمنون على السلطة السياسية والجيش والمخابرات، والدخول في أضيق المواجهات وليس في مواجهات مكشوفة، لأن الدولة تمتلك إمكانيات تفوق إمكانيات التنظيم بمراحل. ويروي الشربجي عن أحد لقائاته المهمة بعبد الستار الزعيم قال له فيها:
“إن الرؤوس السنية غير ثابتة في السلطة، فهي عرضة في أي لحظة للتغيير والتبديل، وعلى هذا فسيقتصر عملنا على الرؤوس المدبرة في السلطة السياسية والجيش والمخابرات”. (صـ77).
ورغم لقاء عبد الستار بعدنان سعد الدين مراقب جماعة الإخوان المسلمين في سوريا عدة مرات، يشير الشربجي إلى أن عبد الستار لم يعط البيعة للإخوان رغم أنه كان يأخذ تمويلًا قليلًا من عدنان سعد الدين الذي اشترط عليه أن الذي ينتمي إليه يقطع صلته تنظيمًا بالإخوان، ورغم ذلك لم يُطلع عبد الستار الإخوان على أي عملية كان ينفذها.
وحسب رواية الشربجي، وضع عبد الستار مع قيادة التنظيم خطة العمل لمدة 5 سنوات، وقسموا أنفسهم إلى 3 قطاعات رئيسية (حماة وحمص – حلب وإدلب ودير الزور والساحل – دمشق وريفها)، وفي كل قطاع لجنة عسكرية مستقلة، لكن ترتبط جميع اللجان بقيادة مركزية واحدة، أصبح مقرها في حماة بقيادة عبد الستار الزعيم، بعد أن كانت في دمشق منذ تأسيس التنظيم.
كتب الشربجي: “تم سبك الأسلوب المناسب ووضع المنهج الذي سيتبعه التنظيم في مواجهة النظام، وهذا الأسلوب هو حرب العصابات، (الحرب اللامتكافئة) التي ليس لها إلا هذه القاعدة: اضرب واهرب، وتابع الضربة الأولى دون أن يؤدي ذلك إلى مواجهة”. (صـ67).
وبالفعل في النصف الأول من العام 1976 نفذ التنظيم عمليات في غاية الدقة ضد مؤسسات النظام ومسؤولي الحزب وضباط الجيش في جميع أنحاء البلاد، وكانت باكورة عمليات التنظيم، اغتيال رئيس المخابرات بحماة محمد غرة عام 1976 وهو ابن خالة حافظ الأسد.
وتوالت بعدها في الفترة 1976 – 1979 سلسلة من العمليات التي لم تتوقف ضد قيادات النظام ومواقع حساسة في المدن الـ3 (حلب – حماة – دمشق)، لكن الطليعة حتى ذلك الوقت لم يعلنوا عن أنفسهم أو يتبنوا هذه الهجمات. وفي الواقع، تظهر هذه العمليات التي أربكت وهزت النظام ما كان يتمتع به التنظيم من خبرات أمنية وتنظيمية، وقدرته على اختراق مستويات كبيرة في النظام وتفوقه في أحيان كثيرة على أجهزة المخابرات.
فحسب شهادة الشربجي وآخرين، لم يكن النظام يعلم بأن الطليعة هي التي تقف وراء هذه العمليات، وبدلًا من ذلك، ظنت المخابرات السورية أن العراقيين هم الذين يقومون بها، وتبادل النظامان العراقي والسوري الاتهامات، ولم يكشف النظام عن تنظيم الطليعة إلا في العام 1978.
لكن بسبب تقسيم عبد الستار الزعيم التنظيم إداريًا وعسكريًا في المدن الـ3، حماة ـ حلب ـ دمشق، ونتيجة الضغط الأمني والملاحقة المستمرة التي بسببها تُرك كل فرع يقرر نوعية الأهداف على حدة، عملت بعض الفروع بمعزل تام عن القيادة المركزية، مثل قيادة حلب التي نفذت “مجزرة مدرسة المدفعية”، ولم يكن عبد الستار الزعيم يعلم بها، ويبدو أنه لم يوافق عليها خصوصًا أنه كان ضد التصعيد الذي قد يستدرج التنظيم نحو معركة غير متكافئة، وهو الأمر الذي طالما تجنبته قيادة الطليعة، لذا حين علم بها قال بقلق شديد للشربجي: “نسأل الله أن يجعل العواقب إلى خير”.
ويعقب الشربجي: “بدأت الأخبار تنتشر والأحاديث تزداد عن حصول عملية ضخمة في مدرسة المدفعية بحلب استهدفت الضباط النصيريين، وقد راودتنا الشكوك حول صحة هذه العملية، إلى أن جاءنا الأخ عبد الستار الزعيم بعد ثلاثة أيام وأخبرنا بصحة الأنباء الواردة عن مدرسة المدفعية، كما أكد لنا أن الإخوة في قيادة حماة لم يكونوا على بينة من أمر العملية، وأنه شخصيًا لم يكن يعلم بها، وأن قيادة التنظيم في حلب هي التي اجتهدت باتخاذ القرار وذلك نتيجة للجرائم المتزايدة التي يقوم بها زبانية النظام في حلب، وأكد قائلًا: (إنني أخشى في حالة التصعيد أن نجر إلى معركة مكشوفة غير متكافئة مع السلطة على غرار ما حدث في مسجد السلطان بحماة عام 1964 وهذا ما تسعى إليه السلطة بكل ما أتيت من قوة)”. (صـ113).
اتساع المواجهة: 1979 -1982
ازداد الضغط الأمني على المدن خاصة حماة وحلب، وكثفت السلطة من دورياتها في الشوارع العامة، كانت عشوائية النظام في الملاحقات والاعتقالات قد طالت الآلاف من الشباب، وأصبحت العقوبات الجماعية أكثر شيوعًا، لم تشمل أفراد عائلات المشتبه بهم فحسب، بل أحياء وبلدات بأكملها.
العلاقة بين حركة النقابات والطليعة المقاتلة في الثمانينيات
ومع اتساع دائرة الاعتقالات لتشمل كل من يشتبه به، ازداد نشاط الطليعة الحركي وزاد عدد الأعضاء بشكل كبير، لقد وضعت هذه الأحداث قيادة الطليعة أمام منعطف خطير، وتدريجيًا توسعت الأهداف، وبدأوا التفكير نحو مواجهة أكبر مع النظام.
إثر ذلك قررت قيادة التنظيم تغيير اسمها من “الطليعة المقاتلة لجند الله” إلى “الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين”، وتبنوا كل العمليات السابقة التي نفذوها، بحسب الشربجي فقد هدف عبد الستار الزعيم من وراء الاسم الجديد تثبيت الخلفية الفكرية للقائمين على العمل الجهادي في سوريا، ولم يقصد أي ارتباط تنظيمي مع الإخوان المسلمين، لكن الأرجح أن الطليعة أرادوا بهذا الاسم الجديد حشد كل الإخوان للدخول في مواجهة مسلحة ضد النظام.
ومن الواضح أن تنظيم الطليعة بضرباته الموجعة ضد النظام، قد جذب العديد من شباب الإخوان المتحمسين، وقد تكون قيادة الإخوان انتبهت إلى هذا وشعرت بأن التنظيم همش دورهم، وحاولت تدارك هذا الأمر من خلال التواصل مع الطليعة للاتفاق على قيادة موحدة، لذا حصل اللقاء بين عبد الستار الزعيم و عدنان سعد الدين، ويبدو أنهما اتفقا مبدئيًا على بقاء الطليعة كتنظيم عسكري مستقل عن الإخوان، لكنه يتبع للأخيرة فكريًا أو ينسق معها على الأقل.
ورغم أنه لم يكن لجماعة الإخوان دور كبير حين كانت الطليعة تشن عملياتها ضد النظام منذ 1976، فإن الأحداث اضطرتهم لتبنى الكفاح المسلح، وتحققت أمنية مروان حديد بجر الإخوان إلى المعركة، فبعدما أعلن النظام الحرب على كل جماعة الإخوان، وأصبح الانتماء لها جريمة يعاقب عليها القانون بالإعدام، قرر الإخوان أواخر عام 1979 رفع راية الجهاد دفاعًا عن النفس، ويبدو أنه كان قرارًا صعبًا بالنسبة للإخوان.
وكما ذكر الشيخ سعيد حوى في مذكراته “هذه تجربتي وهذه شهادتي”، فوقت المواجهة المسلحة لم يكن من اختيار جماعة الإخوان، ولم يكونوا مستعدين للاندفاع إلى المعركة في تلك المرحلة، لكن تداعيات حادثة مدرسة المدفعية – التي أدانها الاخوان بشدة – على حد تعبير حوى: “قلبت إستراتيجياتنا رأسًا على عقب، وأعطت النظام المبررات التي كان يحتاجها”.
غادرت قيادات الإخوان لخارج سوريا، وتُرك أعداد كبيرة من شباب الإخوان دون قيادة أو هيكل تنظيمي يستوعبهم، وفي غضون بضعة أشهر، اضطر هؤلاء الشباب، الذين كانوا يواجهون السجن والتعذيب أو الموت، الدخول في أتون معركة لم يُخطط لها ولم تتخذ عدتها، وانضم المئات منهم إلى الطليعة المقاتلة دفعة واحدة ودون أن يمروا بتجربة عسكرية. وبالتالي أصبحت الحدود التي تفصل بين الإخوان والطليعة غير واضحة بشكل كبير، واختلطت الولاءات والانتماءات.
ويجادل الشربجي بأن قبول الطليعة أعداد كبيرة في ذلك الوقت أو ما يسميه بـ”الخليط اللامتجانس” وتضخم حجم التنظيم، أفقدهم الكثير من السرية وأصبحت خطط التنظيم مكشوفة، فهذه الأعداد الجديدة والكبيرة كانت حقيقة عبئًا على الطليعة، فهم إما ملاحقين من السلطة أو غير مدربين، بجانب أن ميزانية التنظيم كانت ضعيفة لا تسمح بتوفير مأوي لهذه الأعداد الكبيرة والتدريب بشكل صحيح أو التسلح بشكل كاف، لذا خرجت الأمور عن السيطرة.
وبسبب ذلك، خسرت الطليعة عددًا كبيرًا من كوادرها، لكن بحسب رواية الشربجي، فقد رفضت قيادة الطليعة بدمشق انضمام عناصر جديدة حفاظًا على السرية ولعدم لفت الأنظار بعكس قيادة التنظيم في حماة وحلب.
كتب الشربجي: “بدأت الأوضاع تتبدل بشكل تدريجي وبدأ الاختلاف يظهر بشكل واضح، وهذا التغيير سببه الظروف المحيطة بكل مدينة من المدن السورية، لكن الهوة أخذت تتسع وظهر الفرق واضحًا بين عمل الإخوة في حماة وحلب وعمل الإخوة في دمشق” (صـ158).
واتسعت المواجهة ونُفذت العمليات بشكل مستمر، وبعض الهجمات الأكثر جرأة وقعت في العاصمة نفسها وشارك فيها الشربجي، بجانب محاولتين لاغتيال حافظ الأسد، لكن اللافت أن الطليعة بدأت تتحول من تنظيم يعتمد على حرب عصابات طويلة الأمد يقوم بها عناصر سريون وقليلو العدد إلى حرب شبه مفتوحة ومكشوفة في أحيان كثيرة.
فرغم استهداف الطليعة بحلول نهاية عام 1979 مراكز الشرطة وميليشيات حزب البعث ومرافق الأجهزة الأمنية وشعب التجنيد في حماة وحلب بجانب كبار ممثلي النظام، مثل رئيس المخابرات في حلب، تدريجيًا أصبح أيضًا الأطباء وبعض أساتذة الجامعات ورجال الدين الذين وقفوا إلى جانب النظام في دائرة الاستهداف.
بجانب مطالبة الأعداد الكبيرة التي انضمت حديثًا إلى الطليعة القيام بعمليات ينتقمون فيها لأهلهم الذين تعرضوا للإذلال والموت من عناصر النظام.
واللافت كذلك أن تنظيم الطليعة وسع بشكل كبير من أهدافه، إذ تضامن مع أفغانستان، وقتل الكثير من المستشارين العسكريين السوفيت، وفجر مقرات الخبراء الروس، وفي الواقع كان الروس بسوريا يساندون حافظ الأسد وقدموا له دعمًا كبيرًا.
كتب الشربجي: “قررت الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين أن تعلن عن بدء المعركة ضد المصالح والأهداف الروسية في سوريا، وتطبيقًا لهذا القرار قام الإخوة المجاهدون في حلب وحماة بتنفيذ عدة عمليات ضد الخبراء الروس وضد أهداف روسية وحاولت السلطة التكتم على هذه العمليات” (صـ151).
لم تنقطع عمليات الطليعة خلال العامين 1980 -1981، لكن قرب نهاية 1980 بدأت الانتفاضة الشعبية تنكمش، إذ ضرب النظام الاحتجاجات الشعبية بقوة، وسرعان ما شكل عددًا من الميليشيات الجديدة الموالية له بدعم من القوات شبه العسكرية التابعة لحزب البعث، وتم إرسال وحدات الجيش النظامي إلى جانب وحدات القوات الخاصة وغيرها من القوات لتمشيط المدن وإجراء عمليات تفتيش واسعة النطاق، وبالفعل بدأ العد التنازلي للعمل المسلح منذ عام 1981، ودخل تنظيم الطليعة في مرحلة عصيبة.
الطلاق البائن
في أثناء تنقل عبد الستار الزعيم بين المحافظات الثلاثة (دمشق ـ حماة ـ حلب) من أجل تنسيق العمل، شاهده أحد المخبرين وهو يركب الحافلة في حماة متجهًا إلى دمشق، وأبلغ السلطة، وعلى الفور قامت قوة عسكرية كبيرة من عناصر المخابرات تساندها بعض الدبابات التابعة للفرقة الثالثة التي يترأسها شفيق فياض، بنصب كمين في منطقة القطيفة على الطريق إلى دمشق.
وحين وصلت الحافلة التي تقل عبد الستار، أحس الأخير بأن الأمور ليست اعتيادية، وعرف أنه مستهدف عندما اقترب منه اثنان من عناصر السلطة في محاولة لاعتقاله، لكنه أشهر مسدسه وتبادل إطلاق النار وقتل إثر ذلك عام 1979.
كتب الشربجي: “الأخ عبد الستار قد خرج جيلًا قياديًا كاملًا يستطيع أن يتابع الطريق بنفس القوة التي بدأها القائد الشهيد، لذلك لم يكن لاستشهاده رحمه الله أي تأثير” (صـ136).
كان عبد الستار مخضرمًا ومرنًا في تعامله مع جماعة الإخوان رغم أن علاقته معها كانت إشكالية وغير واضحة في أحيان كثيرة، وبعد مقتله، تم تعيين عدنان عقلة زعيمًا للطليعة المقاتلة، ومن المرجح أنه استولى على التنظيم في انقلاب داخلي بعد وفاة عبد الستار، وحدثت اتصالات عدة بين الإخوان والزعيم الجديد أواخر عام 1980 من أجل تنسيق العمل والدعم.
في ذلك الوقت، كانت الطليعة تعاني من صعوبات عدة، أهمها تأمين المال اللازم لمواصلة العمل المسلح، فميزانية التنظيم كانت تعتمد بالأساس على الاشتراكات الشهرية التي يدفعها الأعضاء، بينما كان الإخوان يريدون تحديد ولاء الطليعة من مبايعة الإخوان خارج سوريا، وقد كثرت المراسلات وجرت بشأن هذا الأمر مناقشات مطولة.
أصر تنظيم الطليعة على استقلاله، ووضع شرطًا تعجيزيًا بأنه لن يعطي البيعة لجماعة منقسمة وبعيدة عن الميدان، وكانت قيادة الطليعة في دمشق على نفس رأي رفاقهم في حماة وحلب
لكن في نفس الوقت حددت الطليعة العلاقة بأنها علاقة أخوة وتعاون، وأن البيعة لا بد أن تتحقق في النهاية حين تتحقق وحدة الإخوان، ولا مانع في أن يتحدث الإخوان باسم الطليعة ويجمعوا التبرعات المالية لمساعدتها، وانتهى الأمر على أن يدار الجهد العسكري بقيادة الطليعة، بينما يقود الإخوان الجهد السياسي والإعلامي.
كتب الشربجي: “أخبرني الأخ عدنان عقلة برغبة الأخوة خارج سوريا للالتقاء معه من أجل حل الخلافات العالقة، وتمت الموافقة من قبلنا ومن قبل الإخوة في حماة على تكليف الأخ عدنان عقلة أمير الطليعة المقاتلة في حلب بصلاحيات كاملة للتفاوض مع الإخوة خارج سوريا لإنهاء الخلافات الحاصلة” (صـ307).
لكن سرعان ما جرت عدة مناقشات ساخنة بشأن قيادة العمل العسكري، كانت نقطة الخلاف الأساسية التي رسخت القطيعة التامة بعد ذلك، هي من الذي يحق له الانفراد بقيادة المواجهة العسكرية، القيادة الميدانية، أم القيادة الفارة في الخارج والبعيدة كل البعد عن الوضع على الأرض، نوقشت هذه المسألة بتوسع كبير، انتهت برفض الإخوان للفصل بين القيادة السياسية والعسكرية. وتلخص رسالة الشربجي التي أرسلها إلى الإخوان الكثير مما حصل في تلك الحقبة، ومما جاء فيها:
“إننا لم نسمع منكم إلا الكلام، فبكم رجل دعمتم معركتنا؟ وبكم قاعدة؟ وكم طنًا من الديناميت قدمتم؟ وهل تقبلون أن ندعوا الشباب ونربيهم ونعدهم للجهاد، ونؤمن لهم السلاح، وندفعهم لحب الاستشهاد، ونؤمن لهم القواعد إن لوحقوا، ونخطط وننفذ العمليات، ونجمع الأموال من الناس، ونتحمل الضغط الأمني الهائل، ونقتل ونستشهد، ثم تكونون أنتم القيادة، وهل سمعتم بمثل هذه القيادة في التاريخ؟” (صـ33).
رغم أن الطليعة كانت بالفعل حريصة على دفن الخلاف وعدم إظهاره للعلن، لم يدم شهر العسل طويلًا بين الإخوان والطليعة، وبدأت الخصومات والخلافات بينهما تزداد أكثر، ولم تسمح الأولى لعدنان عقلة بالانضمام إلى القيادة العليا، ثم نأى الأخير بنفسه لاحقًا عن قيادة الإخوان احتجاجًا.
وكثرت الخلافات بداية من الدعم المالي مقابل البيعة وهو الخلاف الأساسي، بجانب خلافات أخرى بشأن ما إذا كان ينبغي للمعارضة الإسلامية أن تشكل تحالفًا واسعًا مع الأحزاب العلمانية وتشارك في محادثات مع النظام لحل الصراع سياسيًا، وهو ما رفضته الطليعة بشدة، ووضعت 3 شروط صارمة للتحالف مع الإخوان (عدم التخلي عن الجهاد، وعدم مفاوضة النظام، وعدم التحالف مع الأحزاب العلمانية)، لكن سرعان ما انتهى الجدل بإصدار الطليعة بيان شديد اللهجة، قالت فيه: “إننا نرفض ما يسمى بالجبهة الوطنية لأن شرع الله يرفضها”.
وبعد فترة 9 أشهر من المفاوضات غير الناجحة لتحقيق قيادة موحدة مرة أخرى في أواخر 1981، انفصلت الطليعة عن الإخوان، وهو الانقسام الذي أصبح رسميًا في أبريل/نيسان 1982 بعد مذبحة حماة. وجدير بالذكر أن كلا الجانبين أنكر علاقته بالآخر بعد ذلك.
في الواقع، كان الخلاف بين رؤية الطليعة والإخوان لإطار المعركة شاسعًا، لذا دائمًا ما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، ولم يستجب الإخوان لدعم الطليعة التي كانت تمر بضائقة مالية شديدة. وبدلًا من ذلك، قطع الإخوان الأموال التي كانوا يرسلونها إلى الطليعة، وشكلوا في بداية الثمانينيات تنظيمًا مسلحًا في دمشق وبعض المدن الأخرى، وزجوا بمجموعات كبيرة من الخارج إلى دمشق، دون تنسيق مع الطليعة الذين لديهم الخبرة العملية.
بحسب رواية الشربجي، كان دخول الإخوان على خط المواجهة هو بداية المشكلات التي شغلتهم عن قضيتهم الأولى، فقد أربك الإخوان خططهم، وكادوا أن يقضوا عليهم، فهم برأيه لم يكونوا في الصورة الحقيقية على أرض الواقع، واستعجالهم وعدم قراءتهم بدقة وموضوعية معطيات الواقع، كلف الكثير من الأرواح رغم أنهم مدعومون بالمال والسلاح.
لذا أرسل الشربجي عدة رسائل إلى قيادة الإخوان يبين لهم خطورة الوضع وخصوصًا كثرة أعدادهم بدمشق والجيوب العسكرية التي بنتها الجماعة، وما اعتبرته الطليعة فوضى وعدم وجود رؤية إستراتيجية أو خطة واضحة، وبالفعل، تمكن النظام من جر الإخوان إلى مواجهة مكشوفة، وخلال شهرين، دمر النظام تنظيم الإخوان المسلح.
ويرى الشربجي أن نزول كوادر الإخوان من الخارج إلى الداخل وتحركهم عسكريًا، لم يورطهم في صراعات وانقسامات فحسب، بل ضرب العمود الفقري للطليعة إثر تمكن النظام من مداهمة العديد من قواعد الأخوان، الأمر الذي كاد أن يقضي على الطليعة المقاتلة في دمشق رغم أنه أكثر فروع الطليعة حذرًا، إذ عرفت أجهزة الأمن الكثير عن أساليب وخيوط الطليعة المقاتلة، وتعرضوا بالفعل للاستنزاف والانكشاف بسبب قلة خبرة كوادر الإخوان بالعمل الحركي والعسكري السري.
وأيضًا بسبب وجود عدد كبير من الكوادر التي تعرف بعضها في التنظيمين واعتقال العديد من كوادر الإخوان، أدى إلى كشف هرمية الطليعة التي بدأت تتلقى الضربات من كل الجهات وباتوا بحاجة إلى أماكن جديدة لحماية الأعضاء. وعلى حد تعبير الشربجي: “فقد سبب تنظيم الإخوان العسكري في دمشق مآسي كبيرة ودون أن يقدموا أي فائدة تذكر للعمل الجهادي”.
كتب الشربجي منتقدًا إدارة الهيكل الدعوي السلمي للإخوان للعمل العسكري: “قيادة التنظيم المسلح تختلف جذريًا عن قيادة التنظيمات الفكرية، ولن يتمكن من إعطائها حقها إلا إخوة عركتهم التجارب والمحن ولم يغيبوا عن تطورها لحظة واحدة من الزمن”(صـ217).
نتيجة لهذا الوضع، اتفق الشربجي مع قيادة الطليعة بإيقاف الأعمال القتالية لمدة معينة من أجل إعداد العدة للمرحلة القادمة، لكن كانت اللحظات القادمة حياة أو موت بالنسبة للجميع، كان النظام قد جمع ما يكفي من المعلومات واستعد جيدًا. وفي المقابل ذهب عدنان عقلة مرة أخرى إلي الإخوان في محاولة أخيرة لإنقاذ الموقف والحشد للمواجهة الكبرى، لكن لم ينجح في مسعاه، فذهب إلى العراقيين، ووعدوه بتقديم الدعم، لكن فجأة أداروا ظهورهم له.
بالنهاية واجهت حماة مصيرها، ووقعت المجزرة التي لم يتوقع أحد أن تبلغ هذا الحد، وعلى إثرها قررت الطليعة بدمشق تنفيذ عملية وزارة الإعلام انتقامًا من المجزرة ولكسر التعتيم.
كتب الشربجي: “أما في حماة فبعد محاولات متكررة لجر الإخوة إلى معركة مكشوفة، تمكنت السلطة من جر الإخوة إلى هذه المعركة وحصلت على إثرها مجزرة حماة عام 1982” (صـ160).
وحسب رواية الشوربجي، فبعد مجزرة حماة 1982، اتصل إخوان الخارج به وعرضوا عليه التمويل المالي مقابل أن تنفذ الطليعة بعض العمليات في أي مكان بدمشق، بحيث يكون لتفجيرها صدى إعلامي يساعد الجماعة في تحسين موقفها خلال مفاوضاتها مع النظام، لكن الشربجي أحس بإهانة وأرسل إلى الإخوان رسالة مطولة تدل على الحسرة والمرارة التي شعر بها من معاملة الإخوان، واتهمهم باستغلال الطليعة من أجل لعب أوراقهم السياسية وقد جاء فيها:
“إن الأموال لم ولن تحركنا في يوم من الأيام، وأنتم تعلمون كيف كانت بدايات عملنا بعد اعتقال الشيخ مروان عام 1974، يوم بدأنا بقتل رؤوس النظام، ولم يكن لدينا ثمن الطعام أو المكان الذي نأوي إليه.. أما الآن، وبعد أن توقفنا لإصلاح أخطاء الماضي والإعداد لمعركة فيها أدنى نوع من التكافؤ مع النظام، وقفتم موقف المتفرج ولم تقدموا واحدًا بالمئة مما طلبناه، بل أصبحنا نحن القاعدين عن الجهاد وأنتم المجاهدين الذين يعيبون علينا قعودنا وأود أن أسأل: هل يُعامل العلماء الأفغانيون المقيمون في باكستان مجاهديهم في الداخل هكذا ويعتبرونهم مرتزقة؟” (صـ30-42).
الرماد اﻷخير.. الطليعة المقاتلة في دمشق
خلال السنوات التي تلت مذبحة حماة 1982 ثم تصفية عدنان عقلة، خرج قطاع الطليعة بحلب وحماة من دائرة الصراع بسبب تفكك التنظيم في المدينتين، ولم يعد في الساحة أحد إلا النظام، خاصة بعد الأثمان الفادحة التي صدمت الجميع، مع ذلك، ظل فرع الطليعة بدمشق ملتزمًا بالقضية، وحاول الشربجي إعادة بناء شبكات المقاتلين، وقاد جميع خلايا التنظيم.
عدنان عقلة
لكن عمليًا كانت الطليعة بدمشق تعيش في عزلة تامة، مجرد جماعة صغيرة تعيش وتتحرك في السر دون القدرة على تنفيذ عمليات كبيرة مثل السابق، وعانت من نقص الأموال لمواصلة العمل العسكري، خصوصًا بعد فقد الدعم الذي كانوا يتلقونه من الفرع الرئيسي بحماة على إثر المجزرة الرهيبة التي ارتكبها النظام.
ويوضح الشربجي أنه أمام هذه المعطيات أوقف عمليات التنظيم من أجل امتصاص الضغط الأمني الهائل، وحاول القيام بعملية ترميم واسعة للتنظيم وإعادة تقييم ما حصل في المراحل السابقة، بجانب الإعداد لتنفيذ خطة لقتل كل من أصدروا الأوامر لاستباحة حماة.
لكن في كل الأحوال فشلت محاولات الطليعة المتكررة لإحياء التنظيم العسكري مرة أخرى، ربما لضعف إمكانيات التنظيم المادية، وتفرق كوادر التنظيم في مسارات مختلفة، منهم من انضم للإخوان بالخارج، ومنهم من ذهب للجهاد في أفغانستان – وإن كانوا قلة -، ومنهم من تابع مع عدنان عقلة واعتقل معه في سلسلة كمائن منظمة على الحدود.
أما من تبقى من الطليعة بقيادة الشربجي في دمشق، فقد ظلوا على موقفهم، ويجادل الشربجي بأنهم بعد مجزرة حماة 1982 كانوا أكثر قوة من السابق، لكن أثر عليهم قلة الدعم، بجانب أن الظروف المحلية والإقليمية جعلت النظام أكثر تماسكًا، فلم يعد إسقاط الأسد مطروحًا، لذا رأت الطليعة عدم فتح معركة جديدة مع النظام ما لم يتم تأمين مستلزماتها.
في الواقع، عاش تنظيم الطليعة بدمشق مرحلة كمون ومراقبة واشتباكات طفيفة، لكنها على حد تعبير الشربجي اتسمت بكسر عظام بينهم وبين النظام الذي ظل يستهدف كوادرهم ويلاحقهم
ثم علمت المخابرات بمكان الشربجي، وحاصرته فيه يوم 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1988، واشتبك مع دورية تابعة للأمن العسكري وقُتل بأحد شوارع دمشق بعد أن أمضى تقريبًا كل شبابه مع الطليعة التي انضم لها وهو في الـ19 من عمره، وقتل بعد 13 عامًا من انضمامه إليها.
كتب الشربجي: “إني والله لم أفكر يومًا في منصب أو كرسي ولن أغادر سوريا نهائيًا إن شاء الله، وليس لي غاية إلا نصر الإسلام والاستشهاد في سبيل الله، ولي قدوة حسنة بالمجاهد أحمد بن عرفان الشهيد، فقد كانت حياته شبيهة بحياة سيدي الشيخ مروان رحمه الله، فلم يتخل عن الجهاد، بل استشهد في ساحة المعركة رغم كل النكسات التي تعرض لها، والتي جعلت حياته سلسلة من المآسي” (صـ43).
وبعد الشربجي تولى القيادة عاطف القهوجي الذي قتل عام 1990، لكن دخل التنظيم في فترة طويلة من الانغلاق ودون تنفيذ أي عمليات لها تأثير على النظام، ثم دخل في مفاوضات طويلة مع الأجهزة الأمنية السورية، وعلى إثرها، حصلت تسوية بين النظام والطليعة وخرجت آخر مجموعة من دمشق أواخر 1997، وعندها قال ضابط المخابرات والمسؤول الأمني عن العملية، هشام بختيار بعد أن سب وشتم: “الآن ارتحنا وارتاحوا”، لكن في عام 2012 عاد اسم الطليعة المقاتلة ومروان حديد مجددًا، وقتل بختيار إثر تفجير مبنى الأمن القومي بوسط دمشق الذي تبنته المعارضة المسلحة.