لا تزال أصداء المجزرة المدوية التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الفلسطينيين قرب دوار النابلسي، شمال قطاع غزة، الخميس 29 فبراير/شباط 2024 وارتقى فيها 112 فلسطينيًا وجرح نحو 800 آخرين، تخدش قلب العالم، كونها سبة جديدة في جبين الإنسانية المهدرة على أعتاب الاحتلال المدعوم من القوى الدولية وسط خذلان عربي فاضح كالعادة.
الجريمة التي عُرفت بـ”مجزرة الطحين” واستهدفت تجمعًا من الفلسطينيين كانوا بانتظار الحصول على مساعدات تملأ ولو حيزًا ضئيلًا من أمعائهم الخاوية على مدار أيام في ظل حرب التجويع المفروضة عليهم، تعد انتهاكًا جديدًا صارخًا يضاف إلى سجل الاحتلال المشين من الانتهاكات الوحشية العنصرية التي يرتكبها بحق شعب أعزل محاصر من كل الجهات في الوقت الذي يتابع فيها الجميع حرب الإبادة تلك من مقاعد المتفرجين دون أن يحرك أحد ساكنًا.
جريمة بهذا الحجم كان يمكنها أن تكون نقطة تحول في مسار الحرب الدائرة منذ قرابة 5 أشهر، ومحطة مفصلية في طريق وأدها وإسدال الستار عليها بعدما وصلت إلى هذا المستوى غير المسبوق من الوحشية والإجرام، غير أن ردود الفعل – لا سيما العربية – جاءت كالعادة مخزية وفاضحة لعنصرية المجتمع الدولي وازدواجيته التي باتت تزكم أنوف العدالة والإنسانية.
رواية إسرائيلية مشكوك فيها
بعد ساعات قليلة من تصدير تلك المجزرة إعلاميًا خرج المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري لينفي كالعادة مسؤولية جيش كيانه المحتل عن إطلاق النار على الفلسطينيين الذين كانوا بانتظار قوافل المساعدات، زاعمًا أن عمليات الوفاة جاءت نتيجة التدافع والتزاحم على القافلة، وأن الجنود الإسرائيليين اضطروا للرد بشكل محدود حين شعروا بالتهديد جراء تدافع وهرولة الفلسطينيين باتجاههم، على حد قوله.
لم تُقنع تلك الرواية المزيفة بطبيعة الحال معظم المتابعين، حتى داخل الدول الحليفة للاحتلال، فقد شكك تحقيق لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، في تلك السردية غير المنطقية، متهمًا جيش الاحتلال بإدخال تعديلات واضحة على المواد المصورة التي تم بثها لتبرير ساحته من تلك الجريمة.
تحقيق صحفي يشكك في رواية الجيش الإسرائيلي حول "مجزرة الطحين" في غزة pic.twitter.com/CyPolgNRku
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) March 2, 2024
وكشف التحقيق أن الصور التي تم بثها لحركة تدافع الفلسطينيين واتجاه تحركاتهم وهم على بعد 500 متر فقط من دبابتين إسرائيليين كانتا بالقرب من المكان، تشير إلى أن الرصاص الذي أطلق عليهم قادمًا من ناحية المركبتين، وهو ما يفند المزاعم التي ساقها جنرالات الاحتلال.
وقد وثق المرصد الأورومتوسطي في تقرير له أربعة أدلة تؤكد ارتكاب الاحتلال لتلك المجزرة:
أولها: العلامات والإصابات على أجساد الضحايا والتي تعود لأعيرة نارية وليس لتدافع أو دهس كما يروج جيش الاحتلال.
ثانيها: صوت الرصاص الواضح من شهود العيان والمقاطع الصوتية التي وثقت الجريمة، فمصدرها المدرعات الإسرائيلية المتمركزة باتجاه البحر على بعد نصف ميل فقط من دوار النابلسي. ثالثها: بصمة صوت الرصاص والتي تتبع لسلاح آلي من عيار “5.56” المستخدم من جيش الاحتلال.
الأخير: الفيديو الذي نشره جيش الاحتلال حول الحادث والذي يدينه أكثر مما يبرئه، حيث يظهر كثيرًا من الفلسطينيين يهربون بعيدًا عن شاحنات المساعدات، حتى من هم بعيد عنها بمسافات كبيرة، ما يعني أن مصدر الخطر ليس تلك الشاحنات أو التدافع لكن بسبب قصف يتعرضون له من مسافات قريبة.
غياب الرواية العربية كالعادة
يلعب الاحتلال منذ بداية الحرب على وتر الترويج لسرديته المضللة، أحادية الحضور، مستعينًا بما لديه من جيش إعلامي، محلي ودولي هائل، وذلك للقفز على جرائم الإبادة التي يرتكبها وتبرئة ساحته من أي اتهامات من الممكن أن تضعه تحت طائلة الاستهداف القانوني الدولي.
يساعده على ذلك غياب الرواية العربية وانتفاء حضورها بشكل شبه كامل، وهو ما يجعل الاحتلال يغرد وحيدًا في ملعب لا يوجد به لاعبون غيره، وهو ما يمنحه الأريحية في تقديم وتصدير أي سرديات من أي نوع، بصرف النظر عن مدى مصداقيتها، بل وصل الأمر إلى قلب الطاولة بالكلية، وتحميل الجانب الفلسطيني في أغلب تلك المجازر مسؤولية ما حدث، وفي النهاية تجد الرواية العربية نفسه في قفص الاتهام تدافع عن نفسها أمام تلك الاتهامات في مشهد مثير للحسرة قبل السخرية.
وجرب الاحتلال تلك الإستراتيجية في أكثر من مجزرة سابقة، كان يمكن أن تهز أركان المشهد بأكمله إذا ما تم توظيفها بشكل موضوعي، على رأسها مجزرة المستشفى الأهلي المعمداني في حي الزيتون جنوب غزة، والتي وقعت في ساعات الليل الأولى من يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأسفرت عن ارتقاء أكثر من 500 فلسطيني في غضون أقل من ساعة، حيث تناثرت أشلاء الضحايا المتفحمة للنساء والأطفال وكبار السن في مشهد أصاب الجميع بصدمة كبيرة.
توقع المراقبون أن تكون تلك المجزرة علامة فاصلة في مسار الحرب، غير أن ردود الفعل العربية والدولية وقتها جاءت عكس مستوى التوقعات، وبدلًا من إدانة الاحتلال واستهدافه، إذ به يلقي الكرة في ملعب الفلسطينيين، متهمًا المقاومة بارتكابها عن طريق الخطأ، فيما تم تمرير تلك السردية المزيفة بشكل أو بآخر حتى بلغت مستوى التصديق لدى بعض القوى الحليفة للاحتلال.
بعد "مجزرة الطحين" والرواية الإسرائيلية بشأن سقوط الشهداء دهساً.. هل ستُطمس هذه القضية مثلما طُمست قضايا أخرى جرى فيها الحديث عن تحقيق؟#حرب_غزة #غزة_ماذا_بعد؟ pic.twitter.com/ZItdQnjwEc
— قناة الجزيرة (@AJArabic) March 1, 2024
تعثر المفاوضات.. نتنياهو المستفيد الأبرز
من المتوقع أن تُسفر تلك المجزرة عن تعثر المفاوضات بشان إبرام صفقة تبادل للأسري بين الفلسطينيين وحكومة الاحتلال، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي كان قد قال في تصريحات سابقة له إن وقف إطلاق النار سيبدأ الاثنين المقبل 4 مارس/آذار الحاليّ، لكن في تعليقه على حادثة دوار النابلسي قال “ربما لا يكون يوم الاثنين”.
وكانت تسريبات عدة من مصادر مطلعة تشير إلى وصول المفاوضات بشأن صفقة بين حماس وحكومة الاحتلال قبيل رمضان بلغت مستويات متقدمة، رغم تباين وجهات النظر إزاء عدد من النقاط، فيما تداولت بعض وسائل الإعلام مسودات أولية بشأن بنود تلك الصفقة التي كان يتوقع أن تدخل حيز التنفيذ خلال الأسبوعين الحاليين.
وأحدثت تلك المفاوضات انقسامات حادة داخل حكومة الاحتلال، بين فريق رافض لأي صفقات من هذا النوع، ومصمم على ضرورة استمرار الحرب حتى تحقيق أهدافها، وهو الفريق الذي يمثله نتنياهو ووزراء يمينه المتطرف، سموتيرتش وبن غفير، وفريق آخر أكثر دبلوماسية يمثله غانتس وأيزنكوت.
ومن ثم فإن تعثر المفاوضات يصب بلا شك في صالح الفريق المناوئ للدبلوماسية والحلول السياسية، وهي النتيجة المتوقع أن تحققها مجزرة الطحين، ما يشير بأصابع الاتهام بشكل مباشر إلى نتنياهو وفريقه المتطرف الذي لا يجد حرجًا على الإطلاق في توسعة دائرة الصدام وإشعال الموقف بأي طريقة لإبقاء الحرب والإطاحة بأي مسار للتفاوض، الأمر الذي تكرر أكثر من مرة مع كل اقتراب لإبرام صفقة محتملة.
تغير مسار الحرب.. لكن بشروط
ردود فعل غاضبة شهدتها تلك المجزرة، فأعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، عن صدمته مما حدث، لافتًا إلى أن الأمر يتطلب تحقيقًا مستقلًا وفعالًا، وهو الشعور ذاته الذي وصفه منسق الإغاثة الإنسانية التابعة للأمم المتحدة مارتن غريفيث، الذي قال: “حتى بعد نحو 5 أشهر من الأعمال العدائية الوحشية، لا تزال هناك صدمات جديدة بغزة”.
أما المفوض الأوروبي للسياسة الخارجية جوزيب بوريل، فكشف أن حرمان الناس من المعونة الغذائية يشكل انتهاكًا خطيرًا للقانون الدولي الإنساني، مضيفًا في تغريدة له على منصة “إكس” “أشعر بالهلع من التقارير عن مذبحة أخرى بين المدنيين في غزة الذين هم في حاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية”، مضيفًا أن سقوط القتلى “غير مقبول على الإطلاق”.
فيم عبرت دول عدة مثل كندا وفرنسا وغيرها من القوى عن إدانتها الكاملة لتلك المجزرة، مؤكدة على حق الشعب الفلسطيني في الحصول على المساعدات الكافية دون استهداف لحياته، ومطالبين بضرورة فتح تحقيق موسع في تلك الحادثة للوقوف على ملابساتها في ظل تعدد السرديات بشأنها.
ويمكن البناء على حالة الصدمة تلك الناجمة عن المجزرة، من أجل بناء موقف عربي إسلامي موحد لدعم غزة، يضع الاحتلال في مرمى الاستهداف القانوني الدولي، من خلال قيام الكيانات الإقليمية التي تمثل الصوت العربي والمسلم بدورها في هذا الأمر، وعلى رأسها الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي ورابطة العالم الإسلامي، ومنظمة التعاون الإسلامي.
عن تداعيات "مجزرة دوار النابلسي"؛ كتبت صحفية إسرائيلية..
كتبت سيما كدمون في "يديعوت" تقول:
"من المشكوك فيه أن ينجح تحقيق الجيش الإسرائيلي في تعتيم الصورة التي وصلت أمس من غزة (..) هذه الصورة، التي تم بثّها منذ الأمس في جميع أنحاء العالم، هي التي ستبقى في الذاكرة، عنوانها: مئات…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) March 1, 2024
ويمكن لتلك الكيانات مجتمعة التي تمثل عشرات الدول ومئات الملايين من البشر ولديها من أوراق الضغط ما يمكنها من تحريك المياه الراكدة في مستنقع المجتمع الدولي المتجمد، إذا توافرت لديها الإرادة أن تجعل من تلك المجزرة نقطة مفصلية في مسار الحرب وتغيير الدفة بشكل كبير.
وذلك من خلال مسارين أساسيين، الأول: الدفع نحو إدخال المساعدات الإنسانية – غير المشروط – لكل مناطق القطاع تحت رعاية عربية إسلامية دولية، من خلال معبر رفح وعبر الإنزالات الجوية، وتحميل الاحتلال مسؤولية سلامة تلك المساعدات بداية من إدخالها وحتى استلام الفلسطينيين لها.
الثاني: تحريك الدعاوى القضائية أمام المحاكم الدولية لمحاسبة الاحتلال على تلك الجرائم، أسوة بما فعلته جنوب إفريقيا ونيكاراغوا وغيرها من بلدان العالم من غير العرب والمسلمين، ورغم ضعف احتمالات الخروج بقرارات إلزامية تدين الاحتلال جراء تلك الدعاوى، في ظل الضغوط الممارسة من حلفاء “إسرائيل”، فإنها في طبيعتها تشكل ضغطًا دوليًا على الكيان وتفضح جرائمه على مرأى ومسمع من العالم، وهو التأثير الذي لا يقل عن إدانته بشكل مباشر وعلني.
ورغم صمت العرب المخزي عن عشرات المجازر التي ارتكبها الاحتلال على مدار أشهر الحرب الخمسة، التي أسقطت أكثر من 30 ألف شهيد و100 ألف مصاب، وشردت أكثر من مليون ونصف غزيّ، فإن مجزرة الطحين المروّعة تمثّل مناسبة جديدة للخلاص من عار التواطؤ والخذلان، ودعوة لنصرة غزة الجريحة ودعم الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرب تجويع وإبادة على الهواء مباشرة، فهل يفوتها كما فوت غيرها؟
يبقى الأمر مرتبطًا برابط الإرادة، فهل تملك البلدان العربية إرادة إدانة “إسرائيل” وملاحقتها دوليًا، ولو حتى من باب الانتصار للإنسانية؟ سؤال ربما أجابت عنه الأنظمة العربية منذ بداية الحرب، حيث الخذلان والتواطؤ الفاضح، لكن البعض ما زال يراهن على ما تبقى لدى العرب من بقايا مروءة وحمية، فهل يكسب هؤلاء الرهان أم كالعادة تكون الخسارة سمت المرحلة؟