رغم تأكيد منظمة “حظر الأسلحة الكيمائية” في أكثر من تقرير صادر عنها، مسؤولية النظام السوري عن تنفيذ هجمات بالأسلحة الكيمائية، بقي النظام بعيدًا عن المحاسبة.
وإلى جانب الدعم الروسي غير المحدود، اتبع النظام العديد من التكتيكات للتشويش على عمل فرق وبعثات التحقيق التابعة للمنظمة الأممية، خاصة بعد تشكيل الدول الأعضاء بمنظمة “حظر الأسلحة الكيميائية”، فريق التحقيق وتحديد المسؤولية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 لتحديد مرتكبي الهجمات الكيميائية في سوريا.
اختلاق طرف آخر
ومن أبرز هذه التكتيكات، محاولة إثبات امتلاك الأسلحة الكيماوية في سوريا من طرف آخر غيره، لذلك اختار النظام تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لهذه المهمة، حيث تؤكد معطيات حصل عليها “نون بوست” من مصادر ميدانية خاصة، أن النظام سلّم التنظيم بعض الذخائر السامة وطرق صناعتها، لاستخدامها ضد المعارضة، كما جرى في مدينة مارع في سبتمبر/أيلول 2015 حين استخدم “داعش” مادة خردل الكبريت كسلاح كيماوي ضد المعارضة السورية، وهو ما أكدته التحقيقات.
والهدف من ذلك، وفق المصادر ذاتها، أن استخدام أكثر من طرف لهذه الأسلحة المحرمة دوليًا، يساعد النظام بالضرورة على التهرب من مسؤولية استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا.
ولم يكتف النظام بتزويد “داعش” بذخائر سامة، بل عمد كذلك إلى اختلاق هجمات بالأسلحة الكيمائية، واتهام التنظيم بها، مثل الهجوم بالأسلحة الكيميائية الذي زعم النظام أن “داعش” نفذه في أواخر العام 2017، في مخيم اليرموك بضواحي دمشق الجنوبية.
لكن “بعثة تقصي الحقائق” التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، أكدت عدم توافر إشارة لاستخدام المواد الكيميائية في الموقع المذكور، وذلك بعد زيارات ميدانية لموقع الهجوم، وإجراء المقابلات مع شهود وضحايا للحادث المبلغ عنه، وبعد مراجعة وتحليل الصور وتسجيلات الفيديو والوثائق التي قدمها النظام السوري، قبل طلبه التحقيق في الحادثة.
وبعد ذلك، طالبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان بعدم الالتفات وإضاعة الجهد والموارد على ادعاءات نظام ثبت بشكل قاطع استخدامه المتكرر للأسلحة الكيميائية وقتل شعبه بها.
والهجوم المزعوم ليس الوحيد، فقد أبلغ النظام عن هجومين في ريف حماة، وعلى وجه التحديد في قرية خربة المصاصنة في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2017، غير أن بعثة تقصي الحقائق، نفت وجود أسباب معقولة تؤكد وقوع هذه الهجمات.
ولا يمكن بحال من الأحوال إخفاء حقيقة مسؤولية النظام عن عشرات الهجمات بالأسلحة الكيمائية، باعتراف منظمات الأمم المتحدة المعنية، فبحسب المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية، فإن هناك “أسبابًا معقولة” للاعتقاد بأن “القوات الجوية السورية” التابعة للنظام، كانت مسؤولة عن هجوم بالأسلحة الكيميائية وقع في دوما في 7 أبريل/نيسان 2018. كما أثبتت تحقيقات الجهات الدولية المعنية مسؤولية نظام الأسد عمّا لا يقل عن 12 هجومًا بالسلاح الكيماوي.
سياسة الإنكار
وعند الحديث عن الهجمات بالأسلحة الكيميائية، تبرز مجزرة الغوطة الشرقية ومعضمية الشام، في أغسطس/آب 2013، التي راح ضحيتها مئات القتلى معظمهم من الأطفال اختناقًا بغاز السارين، كان النظام قد نفذها عندما كانت تلك المناطق خارجة عن سيطرته.
لكن بعد المجزرة بساعات نفى النظام السوري وقوفه وراء الهجوم، واتهم المعارضة بالمسؤولية عنه، مدعيًا أن “اتهامه ما هو إلا محاولة لجر التدخل العسكري الخارجي إلى بلاده”، وادعى أنه “عثر على أسلحة كيميائية في أنفاق تحت سيطرة المعارضة المسلحة في ضاحية جوبر”.
غير أن محققين أمميين قالوا إن “الأسلحة الكيميائية التي استعملت في منطقة الغوطة خرجت من مخازن جيش النظام السوري”.
وعن ذلك، يقول مدير “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” نضال شيخاني، إن النظام اعتاد إنكار جرائمه، وهي سياسة اتبعها النظام منذ تسجيل أول هجوم بالأسلحة السامة في سوريا، ويضيف لـ”نون بوست”، أن الفرق الأممية استطاعت توثيق 14 حادثة هجوم كيماوي في سوريا منذ بدء عملها، 12 منها النظام يتحمل مسؤوليتها المباشرة.
اتهامات وأكاذيب
ودأب النظام السوري وروسيا على كيل الاتهامات للمعارضة بالتحضير لهجمات كيميائية، ومنها الاتهامات المتكررة الصادرة عن قاعدة “حميميم” الروسية في الساحل السوري.
وعلى سبيل المثال، ادعى نائب رئيس المركز الروسي للمصالحة الأدميرال فاديم كوليت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، أن مسلحين في منطقة خفض التصعيد بإدلب في سوريا يجهزون هجومًا جديدًا ضد القوات الروسية بمواد سامة.
ولم تكتف روسيا بهذه المزاعم، بل ذهبت أبعد من ذلك، باتهامها بريطانيا بالمشاركة في “فبركة” هجمات كيميائية في سوريا، وقال المتحدث باسم الوزارة إيغور كوناشينكوف في كلمة متلفزة “لدينا دليل يثبت أن بريطانيا ضالعة بشكل مباشر في تنظيم هذا الاستفزاز”، وذلك في أعقاب الهجوم الذي نفذه النظام في الغوطة عام 2018، قبيل انسحاب الفصائل المعارضة منها نحو الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة.
تكتيك آخر يتبعه نظام الأسد، وذلك عبر بناء سردية بديلة وترويجها عبر الدراما والمسلسلات التلفزيونية، إذ أوعز لصناع الدراما السورية بإنتاج مسلسلات تنطوي على سخرية من ضحايا هجمات الكيميائي والتهكم عليهم. كما رأينا في أحد حلقات المسلسل الكوميدي “كونتاك” الذي أدت دور البطولة فيه الممثلة أمل عرفة، وتعرضت على إثرها لانتقادات حادة بعد مشاركتها في السخرية من ضحايا الضربات الكيماوية، واتهام فريق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) باختلاق الهجوم، ما حملها على الاعتذار.
“فيتو” روسيا
وضمِن النظام من خلال امتلاك روسيا حق النقض “الفيتو” عدم اتخاد مجلس الأمن أي خطوة عقابية ضده، ما حمله على تنفيذ عشرات الهجمات بالأسلحة المحرمة.
وفي هذا الجانب يشير نضال شيخاني إلى اعتماد النظام على دعم روسيا للتهرب من العقاب الذي يستوجبه استخدام الأسلحة الكيمائية، ويقول: “وثقنا في المركز 260 هجومًا بالكيماوي في سوريا منذ اندلاع الثورة، 12 حادثة جرى توثيق مسؤولية النظام عنها دوليًا، لكن رغم ذلك تمنع روسيا اتخاذ أي إجراء عقابي ضد النظام”.
ومع ذلك، فإن الهجمات الكيماوية لن تمر دون حساب كما يؤكد شيخاني، الذي أشار إلى أن كل تقارير فرق التحقيق تذهب باتجاه “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة – سوريا (IIIM)”، التي بدورها مهمتها الاتصال بمدعين عامين لديهم الصلاحيات لمقاضاة النظام، بعد ترتيب التقارير حسب المعايير الدولية.
لكن، للآن لم نشهد أي تحركات قضائية دولية ضد النظام السوري، يرد شيخاني “نشهد الآن دعاوى فردية في بعض المحاكم مثل ألمانيا في موضوع هجمات كيميائية في سوريا، خاصة أن الأخيرة ليست عضوًا في محكمة الجنايات الدولية”.
من جانب آخر يكشف شيخاني عن توجه دولي لتشكيل محكمة خاصة بالهجمات الكيميائية في سوريا، نتيجة القناعة لدى بعض الدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بمسؤولية النظام السوري عن الهجمات الكيميائية، رغم كل الأكاذيب والحيل من جانب نظام الأسد.
بالخلاصة، يمكن اعتبار ملف جرائم الأسلحة المحرمة في سوريا من الملفات المسكوت عنها حاليًّا، لكن مع ذلك لا يمكن إغلاقه كما يحاول النظام، من خلال تشتيت الأنظار وتحميل المسؤولية لأطراف أخرى.