هذا ليس مقالاً في الجغرافيا الطبيعية ولكنه أقرب إلى السياسة منه إلى علوم الطبيعة، تونس منقسمة رغم وحدتها الجغرافية، فهناك تونس وهناك الساحل، ولفرط الانقسام بين ساكني الساحل وساكني تونس توشك أن تكون هذه الورقة تحريضية ولكن نعتمد على ذكاء قارئ مستعد للنقاش لا للعراك لنبسط أمامه جذور هذا الانقسام وآفاقه على مستقبل البلد. فنحن منذ سنوات ستة نطوف حول الأمر، نوشك أن نسميه ونخشى تهمة الانفصال والتحريض، ولكن محترفي الاتهام أولى أن ينتبهوا، فنحن لا نصدر عن موقف انفصالي ولكننا نسمي الداء باسمه عسى أن نهتدى لعلاجه.
بعض التاريخ والجغرافيا رغم ذلك
منطقة الساحل التونسي ليست منطقة السواحل الطبيعية الممتدة من طبرقة شمالاً إلى بن قردان جنوبًا، بل المصطلح يعني منطقة تضم كل من محافظات سوسة والمنستير والمهدية، وعندما يقول التونسي ذهبت إلى الساحل فهو يعني إحدى المحافظات الثلاثة وإن كانت المهدية تبدو كالطحال الملتصق بالمعدة دون أن يكون منها حقيقة.
عرفت منطقة الساحل الاستقرار الديموغرافي قبل غيرها ربما لغياب بنية قبلية تجمع السكان، وأبدع ساكنوها في العمل الزراعي والصناعات التحويلية منذ القرن التاسع عشر أو ربما قبل ذلك، فلفظ الساحل كان مردافًا لزراعة الزيتون وصناعة الصابون والملابس، واستقرار السكان مبكرًا طور التعليم منذ العهد الاستعماري فالمدرسة ابنة الاستقرار (في زمن مواز كان باقي السكان مترحلين أو يشتغلون بالزراعات الموسمية والرعي المترحل). نتيجة التعليم المبكر انعكس على العمل السياسي والاقتصادي، فكان الساحل منطلق العمل الحزبي الذي شق به بورقيبة عصا الطاعة عن حزب المحافظين في العاصمة الذي ضم نخب الحضر قبل غيرهم منذ 1920، وبذلك صار الساحل نقطة ارتكاز سياسي واقتصادي جعلت دوره السياسي يتعاظم بعد الاستقلال.
عندما يعلن الرئيس توسيع ملعب كرة القدم في سوسة يستشعر بقية التونسيين ممن ليس لهم ملاعب كل الغبن التاريخي الذي تركه الإرث البورقيبي
عمل بورقيبة على الاستفادة من أصوله الساحلية، فاعتمد على أبناء الجهة في إدارة الدولة المستقلة، وزاد ذلك من قوة رجال الساحل الذين تحولوا إلى طبقة سياسية متنفذة ومنها تناسلت طبقة مالية اعتمدت خاصة على زرع الصناعات التحويلية بالمنطقة (النسيج) وقطاع الخدمات (السياحة)، فتضافر دور السياسة والمال ليحول الساحل إلى قطب نام وجاذب لليد العاملة وللهجرة الداخلية.
السياسة صنعت المال ثم صار المال يصنع السياسة حتى انتهينا إلى زيارة رئيس الدولة الأخيرة يوم 5 من أكتوبر إلى سوسة ورفدها بمشاريع تنموية جديدة في زمن يبدو فيه الرئيس محتاجًا إلى قوة مالية وسياسية يواجه بها حزب النهضة المنظم على غير القاعدة الجهوية، قبل أن يتعطف بإعلان موعد الانتخابات البلدية المؤجل إلى أجل غير مسمى.
التقسيم إلى ساحل دواخل أثمر نزعة جهوية وشعورًا بالغبن العام
عندما يعلن الرئيس توسيع ملعب كرة القدم في سوسة يستشعر بقية التونسيين ممن ليس لهم ملاعب كل الغبن التاريخي الذي تركه الإرث البورقيبي وزاد فعمقه بن علي القادم بدوره من مدينة حمام سوسة المرفهة، ينتظر الناس خارج الساحل عطف الدولة وأن يتوجه الإنفاق العام إليهم خاصة بعد أن تم إقرار مبدأ الميز الإيجابي في الدستور. لكن الرئيس يذهب إلى الساحل ويضع حجر الأساس لمشاريع ترفيهية واقتصادية جديدة ستتحول بدورها إلى وسيلة جذب سكانية بما توفره من عمل، وكل نزوح سكاني نحو الساحل ينعكس تفقيرًا بشريًا واقتصاديًا في الداخل (المؤشرات الديمغرافية لتعداد 2014 كانت نذيرًا صارخًا بذلك).
ينطلق الحديث العاطفي ضد الساحل (برمته) ويشرع سكان الساحل في الدفاع عن منطقتهم بأن فيها أيضًا جيوب فقر ومناطق ظل، وينحرف الحديث عن مساره السياسي إلى نوع من الشتيمة الجاهلة يكشف في جانب منه رغم بذاءته مقدار الغبن والقهر الذي يعيشه بقية سكان البلاد مقارنة خاصة بمدينتي سوسة والمنستير.
ذهب السياسي والمفكر زهير إسماعيل إلى أن هذه الزيارة لا تعدو كونها استثارة لولاء جهة الساحل ليدخل بها رئيس الدولة معاركه الانتخابية الحاسمة.
نحن إذًا نعيش الميراث البورقيبي البغيض الذي حكم تونس معتمدًا فقط على ولاءات المنطقة البشرية والمالية، يمكن العودة إلى كتاب الأستاذ منير الشرفي: وزارء بورقيبة الذي قدم فيه الأرقام الكافية على تمتع منطقة صغيرة بحكم كل البلد لفترة طويلة حتى صارت من النكت المتداولة أن تونس منقسمة بين منطقة تنتج الوزارء وأخرى تنتج الخادمات وهي منطقة الشمال الغربي أو بعض قراها المفقرة، وفي هذا السياق يمكن قراءة زيارة رئيس الدولة إلى الساحل قبل الموعد الانتخابي القادم وربما تمهيد الانتخابات الكبرى لسنة 2019 منذ الآن.
الجهة ضد الدولة مرة أخرى
ذهب السياسي والمفكر زهير إسماعيل إلى أن هذه الزيارة لا تعدو كونها استثارة لولاء جهة الساحل ليدخل بها رئيس الدولة معاركه الانتخابية الحاسمة، ففي مواجهة حزب النهضة لم يجد الرئيس حزبه قويًا، لقد تفكك حزب النداء وتشرذم ويبدو أن ابن الرئيس أصغر بكثير من مهمة إعادة نفخ الحياة في جسم الحزب الميت.
وأحد أسباب موت الحزب أن قيادته ليست من الساحل، بل طبقة الساحل السياسية مقصاة من الصف الأول ويشعر السواحلية السياسيون ومالكو الثروات الكبرى أن الحزب لا يمثلهم والرئيس لا يعود إليهم، بل يتحداهم بتقديم ابنه (الغبي) على جميع الطبقة السياسية الساحلية ممولة الحزب من حر مالها، فلكل شيء ثمن وعلى الرئيس أن يدفع، وقد ذهب إلى سوسة ليدفع ويقبض.
سيدفع مشاريع اقتصادية من المال العام (دستوريًا ليس للرئيس صلاحية المشاركة في العمل الاقتصادي) وسيقبض نصرة ساحلية، لكنه سيدفع أكثر، حيث سيعيد طبقة رجال الساحل إلى السلطة مقابل ضمان مستقبل عائلته السياسي وضمان خروجه السياسي موقرًا، ولكن الأمر الأهم تجميع قوة الساحل المالية والبشرية لمواجهة حزب النهضة. فالمعضلة المسكوت عنها أن الطبقة السياسية كلها صارت تخشى فقدان السلطة في أول موعد انتخابي رغم ما يقال عن تراجع حزب النهضة جماهيريًا نتيجة تحمله كلفة المشاركة في حكومة فاشلة، لكن الذين يهتمون بتراجع حزب النهضة يغفلون تراجع جميع الطبقة السياسية وفشلها، فالفشل جماعي وخاصة فشل النداء.
الساحل التونسي – شاء ذلك فقراؤه أو أبوا – جهة حكمت دون وجه حق وتريد استعادة السلطة بالأسلوب الأقل مدنية بل بالأسلوب المعادي للمدنية
تبين إذًا أنه لا بد من عصبية قوية وليس أقوى في الساحة الآن من عصبية السواحلية المالية خاصة والبشرية بالضرورة، ذهب الرئيس إلى الساحل يستجدي ويهب في آن واحد، يهب وعودًا ومشاريع ويستجدي نصرة سياسية وقد وجدهما، إذ التف حوله جميع أغنياء الساحل ورجال السياسة التجمعيين منهم وورثة الزعيم الذي أعاد إحياءه بعد غبن بن علي له.
انتخابات بطعم الجهوية
هذا ما ينتظرنا إذًا بعد الزيارة، ستنحل عقدة الانتخابات البلدية أولاً، وربما يعلن الأجل قريبًا بعد إعادة تشكيل الهيئة، ولكن هل تكون الجهة علامة على مدنية الدولة التي يزعم الرئيس توزيعها على الأحزاب وخاصة حزب النهضة؟ أي مواجهة حزب غير جهوي بعصبية جهوية يكشف طبيعة الدولة التونسية بعد ويكشف طبيعة تفكير طبقتها السياسية الحاكمة وريثة الدولة الجهوية التي لم تتطور ولم تعرف أن الثورة قامت ضد قاعدة السلطة الجهوية لتتجاوزها أملاً في قاعدة مدنية تحول الدولة من جهة حاكمة ومناطق محرومة إلى دولة مدنية تميز إيجابيًا بين فقرائها وأغنياها حتى يرسى حد أدنى من العدل.
الساحل التونسي – شاء ذلك فقراؤه أو أبوا – جهة حكمت من دون وجه حق وتريد استعادة السلطة بالأسلوب الأقل مدنية بل بالأسلوب المعادي للمدنية، وقد اتفق في هذا حضر العاصمة وأغنياء الساحل لأول مرة منذ قرن، وهو اتفاق مدمر للديمقراطية واحتمالات التغيير ولا غرابة، فالرئيس أكبر علامة حية على رفض التغيير في تونس.