“ممثلو الدول التي تعادي الحقوق الثقافية وحرية التعبير لا يجب أن يديروا اليونسكو”، تحت هذا العنوان أصدرت عدد من المنظمات الحقوقية المصرية بيانًا استنكرت فيه ترشيح السفيرة مشيرة خطاب لمنصب مدير عام المنظمة الدولية للعلوم والثقافة “اليونسكو” خلفًا لمديرة المنظمة الحالية إيرينا بوكوفا، في الانتخابات المقرر انعقادها بعد غد الإثنين الـ9 من أكتوبر 2017 بمقر المنظمة في باريس.
البيان الموقع من 6 منظمات والذي حصل “نون بوست” على نسخة منه، استبعد فوز المرشحة المصرية بهذا اللقب، في ظل ازدواجية المعايير التي تخاطب بها القاهرة المهتمين بالشأن الثقافي دوليًا، ما بين الشعارات المرفوعة والحقيقة على أرض الواقع، ففي الوقت الذي تقدم فيه القاهرة ممثلة لها لقيادة المنظمة الأكبر في العالم في دعم الثقافة وحرية التعبير، يعاني رحم التنوير والثقافة والحريات في مصر من إجهاض شبه متكرر، كاد أن يصل بها إلى مرحلة العقم.
تناقض يضعف الفرص
البيان أشار إلى أن “منصب مدير منظمة اليونسكو مسؤولية ضخمة، تتطلب قيمًا وتاريخًا يجب أن يتحلى به المرشح، وليس منصبًا يكافأ به المستبدون ومن يدعمونهم”، وهو ما يجعل فرص المرشحة المصرية قد تكون “الأبعد عمليًا عن شغل هذا المنصب، كممثلة لدولة معادية لحرية التعبير وحرية استخدام الإنترنت، تفرض الرقابة على الصحف وتحبس عشرات الصحفيين والعاملين بالمجال الإعلامي، وتحجب مئات المواقع بقرارات بوليسية ودونما حتى قرار قضائي يضفي غطاءً قانونيًا لهذا التعدي على حرية الإعلام والتعبير”.
المنظمات الموقعة على هذا البيان وهي الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، مركز النديم لمناهضة التعذيب، مركز أندلس لدراسات التسامح، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، نظرة للدراسات النسوية، عبروا عن أسفهم لعدم دعم مشيرة خطاب في معركتها نحو قيادة المنظمة الدولية، لما بدر عنها مما أسموه “الصمت المتواطئ” تجاه إغلاق سلسلة مكتبات الكرامة العامة والبالغة 6 أفرع بالأحياء الشعبية المصرية والتي أنشأها الحقوقي المصري جمال عيد، بقيمة جائزة دولية كان قد حصل عليها، وزارتها السفيرة المرشحة وأبدت إعجابها الشديد بالفكرة ودورها في إثراء المناخ الثقافي في مثل هذه المناطق.
“إن المنظمات الموقعة كانت تتمنى أن يأتي بيانها اليوم دعمًا لمرشحة مصرية جديرة بالمنصب،كممثلة عن دولة داعمة لحرية الفكر والتعبير، تفتح قنوات التعاون مع المجتمع المدني لوضع وتنفيذ خطط للارتقاء بالتعليم والثقافة كسبيل لمواجهة التطرف والعنف، إلا أننا وبكل الأسف نرى أن منصب كهذا يجب أن يذهب لمن يستحقه، من يؤمن ويدافع عن الثقافة وحرية التعبير”، وهكذا اختتمت المنظمات الحقوقية الستة بيانها في إشارة واضحة لرفض الازدواجية المصرية في التعاطي مع مفاهيم الثقافة والحريات.
منصب مدير منظمة اليونسكو مسؤولية ضخمة، تتطلب قيمًا وتاريخًا يجب أن يتحلى به المرشح، وليس منصبًا يُكافأ به المستبدون ومن يدعمونهم
عداء للثقافة وخنق الحريات
الأوساط المصرية خلال السنوات الأخيرة شهدت ولا تزال موجة عاتية من إجراءات استعداء الثقافة ومناهضة الحريات وخنق الإبداع والرأي بشتى صوره، وهو ما تسبب في تراجع مؤشرات الحريات الإعلامية والثقافية في مصر بشكل غير مسبوق في تاريخها، مما أثر بشكل كبير على صورتها أمام الرأي العام العالمي.
كراهية الثقافة
خلال عام واحد فقط أغلقت السلطات الأمنية في مصر ثلاث مكتبات رئيسية تتجاوز فروعها الـ60 فرعًا، في سابقة هي الأولى من نوعها خلال العقود الأخيرة، مما تسبب في الكثير من الإدانات الحقوقية المصرية والعالمية.
ففي الفترة من ديسمبر 2016 وحتى سبتمبر 2017 تم إغلاق مكتبات الكرامة تلتها ألف ثم البلد مؤخرًا، مما دفع الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان بوصف هذه الخطوة بأنها “انتهاك بوليسي غير مسبوق في مسار الثقافة المصرية”.
434 موقعًا إلكترونيًا حجبتهم السلطات المصرية في الفترة من 24 من مايو وحتى 1 من أكتوبر 2017، هذا بالإضافة إلى حجب مجموعة من المواقع التي تقدم خدمة VPN الخاصة بفك هذا الحجب
الشبكة في بيان لها تعليقًا على ما حدث أشارت إلى أن “استهداف مكتبة البلد بعد أقل من شهر من التحفظ على أموال مكتبة ألف، وفروعها على مستوى الجمهورية، وإخضاعها لإدارة الدولة، وقبلها مكتبات الكرامة العامة بالأحياء الشعبية، التي أغلقتها السلطة في مصر بشكل بوليسي دونما قضية أو قرار في ديسمبر 2016، هو استمرار للحملة التي بدأتها السلطة في أغسطس 2014 بمنع احتفالية الفن ميدان التي كانت تقام في ميدان عابدين لمدة ثلاث سنوات، ثم مداهمة وإغلاق جاليري تاون هاوس ومسرح روابط في يناير 2016”.
مبررات الأمن حينها لإجراءات الغلق سيقت كونها مخالفة إدارية تستوجب العقاب، وعدم الحصول على تراخيص رسمية لإنشاء تلك المكتبات، وهو ما قوبل باستنكار شديد من قبل العديد من الأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، ممن رأوا أن الأمر لو هكذا لكان من السهل التفاهم بشأنه والتوصل إلى نقطة اتفاق بدلاً من الغلق، أما وكان الغلق هو القرار الأول والأخير فهو ينم عن نية مبيتة نحو تجفيف منابر الثقافة والمعرفة في هذا البلد.
في أثناء مداهمة الأمن لسلسة مكتبات ألف وغلقها
خنق الحريات الإعلامية
في تقرير صادر عن مرصد “صحفيون ضد التعذيب”، كشف عن وقوع نحو 1095 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في أثناء تأدية عملهم، خلال عام ونصف فقط، من يناير 2016 وحتى مايو 2017، وهو ما تم توثيقه بالفعل غير الانتهاكات الأخرى التي أشار إليها التقرير دون توثيق.
التقرير رصد 513 انتهاكًا في الفترة من 3 من مايو 2016، إلى 3 من مايو 2017، منهم 203 حالات انتهاك منع من التغطية الصحفية، و65 حالة تعدي بالقول أو التهديد، و59 حالة تعدي بالضرب أو إحداث إصابة، و33 حالة فرض غرامة مالية، إضافة إلى 37 حالة اتهام عبر بلاغ للنيابة، وحكمين بالحبس، وحالتين إتلاف أو حرق معدات صحفية، فضلًا عن 21 واقعة قبض واتهام واحدة، إلى جانب حالة احتجاز دون وجه حق.
خلال عام واحد فقط أغلقت السلطات الأمنية في مصر ثلاث مكتبات رئيسية تتجاوز فروعها الـ60 فرعًا
أما في النصف الأول من عام 2016 فقد رصد التقرير 582 انتهاكًا، منها 195 واقعة منع التغطية الصحفية بنسبة ثلث الانتهاكات، ثم تلتها تعدٍ بالقول أو التهديد بعدد 74 حالة، وتعدٍ بالضرب أو إحداث إصابة بعدد 73، و57 حالة احتجاز غير قانوني، ثم 51 حالة تقاضي بتقديم بلاغات ومحاضر.
وأضاف التقرير أن من ضمن الانتهاكات استيقاف وتفتيش بعدد 32 حالة، ثم 228 حالة قبض وإحالة للنيابة، ثم 18 حالة من الاستيلاء على معدات صحفية، و12 حالة لكل من أحكام قضائية بالحبس وفرض غرامة مالية، و11 حالة منع إذاعة أو بث محتوى إعلامي، و4 حالات لكل من إجراء إداري تأديبي، وإتلاف أو حرق معدات صحفية، وإخلاء سبيل مالية، وتعدٍ بالضرب داخل مكان احتجاز، يليهم مرتان تم فيهما اقتحام مؤسسات صحفية، وأخيرًا حالة واحدة لمنع من دخول البلاد
كما رصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير ما يقرب من 434 موقعًا إلكترونيًا حجبتهم السلطات المصرية في الفترة من 24 من مايو وحتى 1 من أكتوبر 2017، هذا بالإضافة إلى حجب مجموعة من المواقع التي تقدم خدمة VPN الخاصة بفك هذا الحجب، وهي الممارسة التي يمكن أن تُنبئ بنية الحكومة في استمرار الحجب وتصفية المحتوى الذي يستطيع المستخدمون المصريون الوصول إليه.
1095 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في أثناء تأدية عملهم، خلال عام ونصف فقط، من يناير 2016 وحتى مايو 2017
وفي ظل تلك التوجهات المعادية للحريات الإعلامية احتلت مصر المرتبة الأولى عالميًا كأكبر مصدر لعدد عناوين بروتوكول الإنترنت المستخدمة في هجمات حجب المواقع الإلكترونية، خلال الربع الثاني من 2017، حيث كشف التقرير ربع السنوي لشركة “أكاماي” الأمريكية للخدمات السحابية عن حالة الإنترنت أن هجمات حجب المواقع الإلكترونية ارتفعت بنسبة 28% خلال الربع الثاني من 2017 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، بعد أن شهدت انخفاضًا خلال التسعة أشهر السابقة، وذكر أن مصر صدر منها خلال الربع الثاني 44 ألفًا و198 من عناوين بروتوكول الإنترنت تمثل ما نسبته 32% من الإجمالي العالمي، لتحتل به صدارة القائمة.
تناقض القاهرة في توجهاتها الثقافية ما بين الشعارات والأفعال يعكس صورة سيئة ومشوهة لمصر خارجيًا، فضلاً عما يمكن أن يؤثر به على حظوظها في تقلد ممثليها مناصب دولية
تضييق الحريات الشخصية
تتباين أرقام وإحصائيات المعتقلين في مصر بسبب أرائهم السياسية سواء بالتعبير عنها عبر منصات الإعلام بأشكالها المختلفة أو المشاركين في تظاهرات ضد النظام، فما بين 40 ألف معتقل بحسب منظمة العفو الدولية في الفترة من يوليو 2013 إلى مايو 2014، إلى 37 ألف بحسب تقرير صادر عن “ويكي ثورة”، إلى 11 ألف حتى 2015 بحسب تقارير غير رسمية، وصولاً إلى عدم تجاوز العدد لحاجز الـ8 آلاف حسبما نقل الكاتب الصحفي حمدي رزق، عن رئيس الوزراء وقتها، إبراهيم محلب.
وبصرف النظر عن الرقم الحقيقي لمعتقلي الرأي في مصر، سواء كانوا 40 ألف أو 8 فقط، إلا أن الرقم في أدناه يعد وصمة عار في جبين الملف الحقوقي المصري، وهو ما تسبب في تعدد جبهات القصف من قبل المنظمات الحقوقية الإقليمية والدولية للحكومة المصرية وتوجهاتها نحو إسكات الأصوات كافة التي تغرد أو تفكر في التغريد خارج السرب الذي حدده النظام الحاكم.
1095 انتهاكًا ضد الصحفيين والإعلاميين في عام ونصف
تشويه صورة مصر خارجيًا
الشيزوفرينيا الواضحة في تعاطي النظام المصري مع قضية الثقافة، ما بين الكبت والتضييق داخليًا والسعي للحصول على منصب دولي خارجيًا، أثارت حالة من السخرية لدى العديد من الأدباء والمثقفين، وهو ما كشفه “نون بوست” في تقرير له.
التقرير كشف أن تناقض القاهرة في توجهاتها الثقافية ما بين الشعارات والأفعال يعكس صورة سيئة ومشوهة لمصر خارجيًا، فضلاً عما يمكن أن يؤثر به على حظوظها في تقلد ممثليها مناصب دولية كمدير لليونسكو وغيرها من المناصب التي تتطلب أن يكون المرشح ذوي خلفية تنويرية تحررية، قادم من مناخ يشجع على الحريات الثقافية والمعرفية ويحارب التضييق ويحطم القيود كافة التي تعوق شعاع النور والعلم أن يتسلل إلى ثنايا المجتمع بأكمله.
ومن الملفت للنظر في الانتخابات المقرر إجراؤها بعد غد الإثنين على منصب مدير عام اليونسكو وجود أربعة مرشحين عرب من بين الثمانية المنافسين، تقلصوا إلى ثلاثة بعد انسحاب مرشح العراق صالح الحسناوي، وزير الصحة السابق، وهم المصرية مشيرة خطاب، اللبناني فيرا الخوري لاكويه، القطري حمد بن عبد العزيز الكواري، هذا بالإضافة إلى الفرنسية أودري ازولاي، الصيني كيان تانغ، الأذربيجاني بولاد بلبل اوغلو، وأخيرًا الفيتنامي بام سان تشاو.
بصرف النظر عن الرقم الحقيقي لمعتقلي الرأي في مصر، سواء كانوا 40 ألف أو 8 فقط، إلا أن الرقم في أدناه يعد وصمة عار في جبين الملف الحقوقي المصر
ومن المقرر أن يتم اختيار المرشح الفائز على مرحلتين، يحصل في الأولى على موافقة المجلس التنفيذي لليونسكو في أكتوبر الحالي، ثم يحصل في الثانية على موافقة المؤتمر العام للمنظمة نوفمبر المقبل، وتبلغ مدة الولاية الرسمية للمنصب 4 سنوات يجوز بعدها الترشح لولاية ثانية وأخيرة.
ويعد ترشيح مصر لممثلة لها كمدير لليونسكو هو الثالث من نوعه في تاريخها، حيث فشلت في الحصول على هذا المنصب مرتين سابقتين: الأولى مع الدكتور إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية عام 1999، وفاروق حسني وزير الثقافة الأسبق عام 2009.
وهكذا تدخل المرشحة المصرية سباق الانتخابات نحو كرسي أكبر منظمة داعمة للثقافة في العالم وهي مثقلة بإرث ثقافي مشوه نتيجة إجراءات التكميم والغلق وتضييق الخناق على الحريات الثقافة والإعلامية والشخصية، مما قد يضعف فرص الفوز لديها في الوقت الذي يبحث فيه العالم عن شخصية تتناسب وحجم هذا المنصب، فمدير منظمة اليونسكو مسؤولية ضخمة، تتطلب قيمًا وتاريخًا يجب أن يتحلى به المرشح، وليس منصبًا يُكافأ به المستبدون ومن يدعمونهم.