ينطلق كتاب علي عزت بيجوفتش من عدة منطلقات أساسية، أولها أن هناك ثلاث رؤى عن العالم ولا مكان لغيرها: الديني، والمادي، والإسلامي؛ فالمادية ترى العالم باعتباره مادة محضة، وهي فلسفة تنكر التطلعات الروحية للإنسان، والاشتراكية مثال جيد على ذلك، والرؤية الدينية المجردة أو الروحية والتي تعتبر الدين محض تجربة شخصية، لا تذهب أبعد من العلاقة الشخصية مع الله عز وجل، والمسيحية مثال جيد على ذلك، وأي حل يغلب جانبًا من الطبيعة الإنسانية على الجانب الآخر، يؤدي إلى الصراع الداخلي، فالحياة كما يقول: “مزدوجة، وقد أصبح من المستحيل عمليًّا أن يحيى الإنسان حياة واحدة منذ اللحظة التي توقف فيها أن يكون نباتًا أو حيوانًا”.
والرؤية الثالثة هي الرؤية الإسلامية، والتي تعترف بالثنائيات وتحاول تجاوزها من خلال الروح والمادة، فالدين هنا قادر على أن يكون متوافقًا مع فطرة الإنسان التي خلقه الله عليها،
الإنسان كائن مزدوج الجسد والروح، والجسد هو حامل الروح فقط، تطور هذا الحامل في الحقيقة، وله إذن تاريخ، والروح لا تملك مثل ذلك، فالله أطلقها بلمساته، الجانب الأول عن الإنسان هو موضوع العلوم، والثاني هو موضوع الدين والفن والأخلاق.
ولذلك هناك رؤيتان وحقيقتان عن الإنسان، في الغرب يمثلها (داروين ومايكل أنجلو)، ويمكن التفريق بين إنسان داروين وبين إنسان ميكال أنجلو، فإنسان داروين يمثل جانب الحضارة، ومايكل أنجلو يمثل جانب الثقافة، وبيجوفتش يحاول فض الاشتباك والتفريق بين مصطلحين مهمين: مصطلح الحضارة ومصطلح الثقافة، فالحضارة تنتمي لمجال العلوم والتقنية، والثقافة الدين والفن.
كيف أعيش ولماذا أعيش؟
كل سؤال يطرح رؤية مختلفة عن الآخرى؛ فسؤال كيف أعيش يبحث عن الجانب الحضاري المادي من حياة الإنسان، وسؤال لماذا أعيش يبحث عن سؤال الهدف من الحياة، وهو بذلك يمثل نوعًا من أنواع حفريات الذات.
ينتقل بيجوفتش ليبحث في الفرق بين اليوتوبيا والدراما، وبيجوفتش وهو يفكك أي ملاحقة للفردوس بالأرضي، يُعلي من قيمة فعل مكابدة الحياة، أو ما يسميه بالدراما، وهو بذلك يحاول أن يفهم قيمة الأدب؛ فأحد القيم الأساسية للأدب هو تعبيره عن حياة الإنسان، وما يعتليه من لحظات فرح وحزن، والتفريق بين اليوتوبيا والدراما يتبعه التفريق بين المسيح والكنيسة؛ فالمسيح هو جوهر الدين النقي، لحظة البداية دون شوائب أو بدع البشر، لحظة التوحيد، يتبعه تاريخ دنيوي للكنيسة من الهرم الأكليركي، والسلطة المدنية المتسلطة، بل حتى تاريخ طويل من الإقطاع للكنيسة، هذا الأمر يذكرنا بفصل المفتش الأكبر من رواية “الأخوة كرامزوف” لدستويفسكي، التي يناقش فيها الكاهن المسيح في سؤال جوهري: لماذا عدت؟ إن عودة المسيح هي هدم لتاريخ الكنيسة.
وبيجوفتش يستعير عبارة هيجل عن جوهر أو حقيقة الروح وهي الحرية، وينظم بيجوفتش فهمه لتاريخ الفن، باعتباره تعبيرًا عن الديني، فهيجل يقول إن الفن بأكثر تأثيراته ألقًا يشير إلى ذلك الإلهي والروحاني معًا.
لكن هل حضور تاريخ ثقافي عريق، أو امتداد روحاني عميق، قد يمنع من الإرث الحضاري المادي؟ هيجل يطرح تلك الإشكالية الخاصة بتاريخ الهند، فالإنتاج الروحي العميق للهند منعها حضور التاريخ!
يستمر بيجوفتش في تأمله للخلفية التي ينطلق منها عدة مصطلحات، مثل مصطلح البحث والتأمل؛ فالبحث يتجه لما هو خارجي، والتأمل لما هو داخلي، وهو يقتبس عبارة هيسه في لعبة الكريّات الزجاجية باعتبار التأمل طهارة الروح أو كلقاء النفس والروح، وهو بذلك استمرار للتفريق بين داروين ومايكل أنجلو، داروين الذي يمثل إرث العلوم الطبيعية، ومايكل أنجلو الذي يمثل لحظة من لحظات تاريخ الثقافة والفن واللذين يقومان على جوهر ديني كما سبق وذكرنا.
العالم بعين هيرمان هيسه وغابة نيرودا
“الأيام الصيفية الدافئة.. اشتعلت مثل راية ملتهبة.. وخيل إليّ كأن الجبال تصرخ فاغرة من الألم.. والطريق الطويل يعذبها النهار الصيفي والبيوت الصفراء اللامعة تحلم.. والصفصاف الأبيض المعدني الصامت وشبه الميت أرخى أجنحته الثقيلة على طول الجدول الذاوي، وعلى المرج الأخضر.. والشجرة القديمة الضخمة كأنها عاشقة لصورتها في المرآة، وتعرشت على الصفصاف الأخضر الغامق وقيمة فوقه قبة غامضة.. كل المخلوقات كانت تقف بصلافة من خوف أو حزن على العشب المليء بالأزهار”.
ولدينا مذكرات الشاعر التشيلي بابلو نيرودا التي يفتتحها بفقرة أخاذة، يفتتح المذكرات بعبارة:
“تحت حميم البراكين، إزاء القمم الثلجية العاصفة، بين البحيرات الكبيرة، الغابة التشيلية المتشابكة الساكنة الشذية، تغوص الأقدام في أوراق الشجر الميتة. لقد خشخش غصن هش؛ ثمة عصفور يعبر من الدغل العابر، يرفرف، يتوقف بين غصون الشجر الظليلة، ثم من مخبئة يصفر مثل مزمار صغير، ويسري عبر أنفي حتى مسارب روحي شذى الغار البري”.
وهنا يمكن أن نفهم طرح بيجوفتش بأن هناك صورة شاعرية مشخصنة للعالم، مع إصرار ببث الحياة في الأشياء الميتة، وهذا الأمر يختلف عن رؤية العلم للأشياء.
أثينا وروما أو الروح والعقل والثقافة والحضارة
يقرأ بيجوفتش بعض العصور التاريخية ليطبق عليها رؤيته، فيفرق بين لحظة اليونان والرومان، وينسب لكل منهم انتماء للحضاري وآخر للثقافي، فروح روما هي روح المدينة الإجرامية رابطة الرفاق، والأعمال الفنية جلبها الرومان من بلاد اليونان، بل جلبوا العديد من اليونانيين وجعلوهم مربين لأبنائهم، وكذلك يمكن الحديث عن الفراغ الإيماني في روما.
بعد ذلك حلت المسيحية، وتم بناء كنيسة بطرس على أرض روما، وتطورت الديانة المسيحية بالشكل الذي جعلها تنتج الإنسان الإلهي المسيحي الذي يرفع الإنسان لمرتبة الرب، مع شعور بالإثم لا يغادر الإنسان، في الدين الإسلامي يتم إعلاء قيمة الإنسان بسجود الملائكة لآدم، مع إثبات السمو المطلق لله عز وجل، فبينما أعلنت المسيحية الإنسان أعلن الإسلام الله.
الصوفية والإسلام أو ما لقيصر لقيصر وما لله لله
يقرأ بيجوفتش تطور ظهور الصوفية كتعبير عن الانفصال بين الدين والدولة، ووجود شكل روحاني يشبه روحانية الكنيسة من إعلاء قيمة الإنسان، مع تجاهل للتاريخ الأرضي الواقعي، وهو بهذا يفسر انتشار الصوفية كدين جماهيري.
لدينا ملاحظة لافتة تستحق النظر، وهي: النبي محمد وواجب النجاح، فإن ما يميز محمدًا صلى الله عليه وسلم كرسول إسلامي أنه لم يكن له الحق في السقوط، وبغير ذلك لا يكون رسولاً للإسلام والمسلمين، ويلاحظ بالنسبة لكتاب السيرة الغربيين أن فكرة نضالية الرسول منفرة، كان أولئك محاصرين بالحكايات الحزينة عن السقوط والتعليق على الصليب حتى أصبحت فكرة النجاح بذاتها كريهة.
وهو ما يفسر لنا أنه قبل وفاة النبي بشهر أرسل حملة عسكرية، وهكذا استمرار المنحنى التاريخي الواقعي الذي لا يتوقف مع اكتمال الرسالة الروحية، بل يسير بالتوازي معها.
التاريخ الثقافي يستطيع أن يكون خارج الزمن المتتابع، الذي نقيس به عمر الحضارات، فأسطورة جلجامش حوالي 400م، تناقش أفكار المصير الإنساني والموت، وهي على كل حال مثيرة وعميقة، مثل تلك التي لدى شكسبير وجوته والشعر العربي. الثقافة هنا تقع خارج التاريخ، وهنا يمكن تشبيه الزمن الثقافي بالزمن الدائري، والزمن الحضاري بالزمن المستقيم.
النتيجة الرئيسة للحضارة كانت تحويل العالم إلى سوق، ونجحت في هذا الأمر بشكل كبير، سوق منظم ومرتب، كانت تلك رسالتها، وهذه الرسالة كما يبدو لا علاقة لها كثيرًا بالثقافة.
سؤال الحضارة والثقافة يجعل بيجوفتش يتوقف للسؤال عن ماهية الثقافة، إن لم تكن محاولة لترويض الحيوان المسمى إنسانًا؟
قضية الحرية
يركز علي عزت بيجوفتش على قضية الحرية؛ ليقوّض بها نظرية التطور البيولوجي لدى داروين، وهي مقدرة الإنسان على الاختيار، فقضية الخلق هي في الحقيقة قضية الحرية الإنسانية، فإذا قبلنا فكرة أن الإنسان لا حرية له، وأن جميع أفعاله محددة سابقًا، إما بقوى مادية داخلة أو خارجة، لا تكون الألوهية ضرورية في هذه الحالة لتفسير الكون وفهمه، ولكننا إذا سلمنا بحرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، فإننا بذلك نعترف بوجود الله إما ضمنًا وإما صراحة، فالحرية لا يمكن أن توجد إلا بفعل الخلق، فالله لا ينتج ولا يشيد.. إن الله يخلق.
قضية الأخلاق
بعد أن أكّد بيجوفتش على قضية حرية الاختيار المستمدة من الفعل الرباني خلق الإنسان، يناقش قضية الأخلاق، وهو بذلك يفرق بين الموقف المادي من الأخلاق والموقف الإنساني، والأخلاق المادية هي النفعية المادية، ومن ثم يكون الانغماس في كثير من النشاطات المادية للإنسان (التي تحقق الربح المادي له) مثل الفن الداعر أو ما يعرف بالجرائم المقننة، وهو يسأل عن إمكانية العقل في أن يولد منظومات أخلاقية؟ ويجيب بالنفي؛ فالعقل لا يستطيع أن يصدر حكمًا قيميًّا عندما تكون القضية استحسانًا أو استهجانًا أخلاقيًّا، لكن عندما نتفحص الأمر نجد أن في الإنسان شيئًا ما يرفض هذا النموذج المادي، وأن الأخلاق الحقيقية ضد الطبيعة المادة، والتفريق بين فكرة التضحية وهي فكرة أخلاقية، وبين فكرة المصلحة وهي فكرة براجماتية تقوم على النفع المادي، فالأخلاق الحقيقية ليست مربحة.
ثم يحاول بيجوفتش تفكيك مفهوم التقدم بالتصور الغربي، والذي يتعرض لاختبار قاس عندما تتم قراءة تاريخ الإنسان البدائي الذي يكبل نفسه بالطقوس والالتزام الخلقي، فهل هذا يعني تطور الحيوان وتخلف الإنسان؟
ويعرج على فكرة المساواة، والتي يرى أن تحققها لا يحدث إلا بوجود مظلة إيمانية، فبحضور الدين يمكن افتراض مساواة بين البشر، باعتبار البشر جميعًا مخلوقات من عند الله. أما النظم الدينية والأخلاقية التي لا تعترف بالخلود فهي لا تعترف بالمساواة، وبيجوفتش يفرق بين المساواة والتشابه.
القرآن والأنجيل أو المسجد والكنيسة
بإجراء مقارنة بين قاموس المصطلحات المستخدمة في الإنجيل والقرآن، نجد أن كلمات الإنجيل تدور حول الجانب الروحي من حياة الإنسان، بينما في القرآن نجد المصطلحات ذاتها، قد صيغت على صورة هذا العالم وصيغت بلغته، وقد اكتسبت واقعية وتحديدًا. ثم يعقد مقارنة بين المسجد والكنيسة؛ فالكنيسة هي بيت الرب، أما المسجد فهو بيت الناس، وفي الكنيسة يسود جو من الصوفية، وفي المسجد يسود جو العقلانية والتفكر. المسجد وسط المدينة قريب من بؤرة النشاط والحيوية، أما معمار الكنيسة فيميل إلى الانعزال والصمت والظلام والارتفاع، والتعالي عما حولها، فعندما يدخل الناس كاتدرائية قوطية يتركون هموم الدنيا خارجها، أما عندما يدخلون المسجد فإنهم يناقشون شؤون دنياهم بعد الفراغ من صلاتهم.
وهو ما تطور لدى المسلمين إلى وجود المدرسة الدينية داخل المسجد بتنوعاته المذهبية، باعتباره بيئة للاجتهاد البشري، وليس القول المقدس المتوقف عند مذهب بعينه، ففي مساجد القاهرة تجد المسجد بأروقته على عدد المذاهب الأربعة، كل رواق به مذهب فقهي معتبر، ومبدأ العصمة البابوية يختلف عن مفهوم الإجماع في الفقه الإسلامي، فبين عصمة فرد واحد البابا وبين إجماع الأمة يكمن فرق بين المسيحية والإسلام.
والإسلام بهذا هو حالة البحث عن التوازن الدائم بين الجواني والبراني، هذا هو هدف الإسلام، وهو واجبه التاريخي المقدر له في المستقبل، ووحدة الإسلام انشطرت على تغليب أي جزء من أجزائه الدنيوي أو الصوفي، وهذه الثنائية هي التي يؤكد عليها بيجوفتش في الكتاب.
خاتمة الأمل أو التسليم لله
في الأوضاع “الحدية” يبذل الإنسان جهده لتحسين العالم، ومع ذلك فسوف يظل هناك أطفال يموتون بطريقة مأساوية، مجاعات وحروب، وتدافع بين الناس، وما حيلة الإنسان إلا التقليل من كم المعاناة في هذا العالم، ومع ذلك سيظل الظلم والألم مستمرين. العالم ليس يوتوبيا تكنولوجية، يمكن فهم كل شيء فيه، سيظل الخير والشر.
ومواجهة الإنسان لهذا الأمر تتراوح بين التمرد والعدمية، وبين التسليم لله والاعتراف بالقدر، والصمود والصبر، والتسليم لله هو قوة الأمل؛ فالطريق إلى الله يفتح نور التكافل بين البشر بعضهم بعضًا، والإسلام الذي هو تسليم لله يستمد قوته من لحظة الوعي الباطنية، ومن قوة النفس في مواجهة محن الزمان، ومن التهيؤ لاحتمال كل ما يأتي به الوجود من أحداث.. حقيقة التسليم لله أنه استسلام لله، والاسم: إسلام.