جاء القرار الذي انتظره السودانيون كثيرًا خلال السنوات الماضية برفع العقوبات بعد امتدادها لأكثر من 20 عامًا، حيث أشارت وزارة الخارجية الأمريكية أمس الجمعة أنه سيتم رفع جزء من العقوبات الاقتصادية والتجارية الأمريكية المفروضة على السودان، ولكن سيبقى السودان على لائحة “الدول الراعية للإرهاب” مع بقاء إجراءات عقابية موجهة ضد الخرطوم، حسب ما ذكره مسؤولون أمريكيون، وذلك رغم تحقيق النظام السوداني تقدمًا فيما يخص وقف ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل.
وقد رحب السودان رسميًا بقرار الرئيس الأمريكي ترامب رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على السودان، ووصف بيان للخارجية القرار بأنه إيجابي، واعتبره تطورًا مهمًا في تاريخ العلاقات السودانية الأمريكية.
العقوبات سترفع الأسبوع المقبل
من المقرر أن ترفع العقوبات ابتداءً من الأسبوع المقبل في 12 من أكتوبر/تشرين الأول الحالي بحسب بيان للمتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، وبرر مسؤولون رفع العقوبات تقديرًا لإجراءات حكومة السودان الإيجابية في خمسة مسارات رئيسية، ومن بين تلك المسارات المتفق عليها بين الطرفين تعاون السودان مع واشنطن في مكافحة “الإرهاب”، والمساهمة في تحقيق السلام بجنوب السودان، إلى جانب ما يتعلق بالشق الإنساني عبر إيصال المساعدات للمتضررين من النزاعات المسلحة بالسودان.
إنهاء العقوبات جاء بفضل وقف الأعمال العدائية في دارفور وشرق الخرطوم والنيل الأزرق من قبل نظام عمر البشير، إضافة إلى تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى مناطق نزاعات سابقة، وإيقاف محاولات زعزعة الاستقرار في جنوب السودان، الذي نال استقلاله في يوليو/تموز 2011.
تبلغ نسبة المصانع المتوقفة بالسودان 40% من إجمالي مصانع البلاد المقدرة بنحو 6 آلاف و660 مصنعًا
من جهتها رحبت وزارة الخارجية السودانية برفع العقوبات، مجددة التزام الحكومة بتحمل مسؤولياتها في حفظ السلم والأمن الدوليين، كما طالب السودان الإدارة الأمريكية بالعمل على تحريك أجندة أخرى أبرزها إلغاء دعوى المحكمة الجنائية الدولية الموجهة ضد مسؤولين بالبلاد، على رأسهم الرئيس السوداني عمر البشير، فضلاً عن حذف اسم السودان من قائمة الدول الراعية لـ”الإرهاب”، ورأت فيها ضرورة لخلق علاقات طبيعية بين البلدين.
يُذكر أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة على البيت الأبيض كانت قد فرضت سلسلة عقوبات اقتصادية على السودان، صدرت إما بأوامر تنفيذية من الرئيس أو بتشريعات من الكونغرس الأمريكي، وهدفت إلى الضغط على السودان وحكومته المتهمة برعاية “الإرهاب”.
وكانت إدارة الرئيس بيل كلينتون فرضت في3 نوفمبر/تشرين الثاني من العام 1997، عقوبات مالية وتجارية على السودان، تم بموجبها تجميد الأصول المالية السودانية، ومنع تصدير التكنولوجيا الأمريكية له، وألزمت الشركات الأمريكية، والمواطنين الأمريكيين، بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع هذا البلد، فيما أدرجت واشنطن السودان على قوائم “الإرهاب” لديها وذلك ردًا على استضافته زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في عام 1991، قبل أن يغادر الخرطوم في عام 1996، تحت وطأة ضغوط أمريكية على السودان.
رفع الحظر الاقتصادي سيسهل المعاملات المصرفية مع العالم الخارجي وتيسير انسياب وزيادة موارد النقد الأجنبي والاستثمارات الأجنبية، وتخفيض كلفة التمويل والمعاملات الخارجية، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد السوداني.
وفي عهد إدارة الرئيس بوش الابن اعتبرت في 13 من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2006 أن سياسات حكومة السودان تهدد أمن وسلام وسياسة أمريكا، خاصة سياسة السودان في مجال النفط. ومن ثم أعلنت إدارة الرئيس أوباما السابقة في فبراير/شباط من العام 2015 عن تخفيف العقوبات على السودان، بما يسمح للشركات الأمريكية بتصدير أجهزة اتصالات شخصية، وبرمجيات تتيح للسودانيين الاتصال بالإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
ولكن في نوفمبر/تشرين الثاني 2016 أعلنت إدارة أوباما تمديد العقوبات لمدة عام على الخرطوم، غير أنها أشارت إلى إمكان رفعها في حال حقق هذا البلد الإفريقي تقدمًا، وهو ما تحقق في 13 من يناير/كانون الثاني من العام الحالي، إذ أعلن البيت الأبيض رفعًا جزئيًا لبعض العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم، نتيجة للتقدم الذي أحرزه السودان على عدة أصعدة، لكن الإدارة الأمريكية أبقت السودان على لائحة الدول الداعمة لـ”الإرهاب”.
ماذا سيستفد السودان من رفع العقوبات؟
شلت العقوبات الأمريكية المفروضة على السودان خلال العقود الماضية الاقتصاد السوداني عن إنجاز أي تقدم، إذ يعيش نحو 50% من السودانيين تحت خط الفقر حسب بيانات الأمم المتحدة وهو ما يعادل 15 مليون سوداني، وتحتضن الخرطوم وحدها أكثر من رُبع فقراء البلاد، ويعاني 70% من السودانيين من صعوبات في الحصول على حاجياتهم الأساسية مثل الماء والغذاء والتعليم والعلاج والدواء، وتشير الإحصاءات أن الخدمات الصحية لا تغطي سوى 40% من السودانيين.
ومع رفع العقوبات بشكل جزئي، سيسمح هذا بانتعاشة ولو محدودة للاقتصاد السوداني، بالأخص أن رفع العقوبات تتضمن في جانب منها إنهاء تجميد أصول حكومية سودانية، كما تشمل البنوك الدولية التي سيتاح لها لأول مرة من إجراء التحويلات المالية كافة مع السودان، ويمكن للمواطنين والشركات الأمريكية إجراء تحويلات مالية مع نظرائهم في السودان. حيث كانت العقوبات قد حرمت الجهاز المصرفي السوداني من إجراء تحويلات مالية عبر البنوك الأجنبية، وفرضت غرامات مالية على البنوك المخالفة.
رفع العقوبات الجزئي سيسمح بدمج الاقتصاد السوداني وجهازها المصرفي في الاقتصاد العالمي وهو ما سيسمح بتدفق النقد والاستثمارات الأجنبية للبلاد
وسيتكمن المواطنون والشركات الأمريكية من البدء بعمليات التصدير والاستيراد من وإلى السودان، الأمر الذي كان ممنوعًا بموجب العقوبات، كما سيتم رفع كل الحظر المفروض على الممتلكات والمصالح بموجب العقوبات، والسماح بالمعاملات التجارية الممنوعة مسبقًا بين الولايات المتحدة والسودان كافة، كما لن يكون ممنوعًا على المواطنين الأمريكيين تسهيل التحويلات المالية بين السودان ودول ثالثة، إلى الحد الذي كان محظورًا من قبل.
وفيما يخص الصناعة النفطية في البلاد سيتم السماح بالتحويلات المالية المتعلقة بهذه الصناعات والتي كانت محظورة سابقًا، بما فيها خدمات الحقول النفطية، وخطوط النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية.
لا يعني رفع الحظر إزالة اسم السودان من لائحة الدول الراعية لـ”الإرهاب” لدى وزارة الخارجية الأمريكية، كما أن لائحة العقوبات المفروضة من قبل مجلس الأمن الدولي على صلة بالنزاع في دارفور ستبقى نافذة، وهذا الحظر يمنع أساسًا توريد الأسلحة والمواد ذات الصلة إلى الأطراف الضالعة في النزاع في دارفور.
يرى مراقبون أن القرار الأمريكي برفع العقوبات الاقتصادية عن البلاد، مع إبقاء السودان ضمن لائحة “الإرهاب”، لن يسهم بأثر كبير على الاقتصاد السوداني، فبقاء السودان على لائحة “الإرهاب” من شأنه أن يضع عراقيل وقيودًا بما يخص المساعدات الأمريكية وملفات التصدير والاستيراد وحركة الأموال، باعتبار أن القوانين المتصلة بـ”الإرهاب” تعد الأكثر تشددًا مقارنة بقوانين الحظر الاقتصادي، حيث إنها تفرض رقابة على المصارف ومسار الأموال.
يعيش نحو 50% من السودانيين تحت خط الفقر، ما يعادل 15 مليون سوداني
كما أن البلاد لن تستفيد من المبادرات القائمة بالإعفاء من الديون وكذلك ستبقى التحويلات المالية والمصرفية تخضع للمراقبة وفقًا لقاون الدول الراعية لـ”الإرهاب”، مع ذلك يشير البعض أن رفع العقوبات الجزئي سيسمح بدمج الاقتصاد السوداني وجهازها المصرفي في الاقتصاد العالمي وهو ما سيسمح بتدفق النقد والاستثمارات الأجنبية للبلاد.
وفي تصريحات لوزير الدولة بوزارة الاستثمار السودانية أسامة فيصل، لوكالة “الأناضول” قال فيها إن السودان يأمل بتدفق عدد كبير من الشركات الأمريكية للاستثمار في السودان بعد قرار رفع العقوبات الأمريكية، وقال فيصل: “شركات أمريكية راغبة في فتح أسواق بالسودان، مارست ضغوطًا على الإدارة الأمريكية من أجل رفع العقوبات الاقتصادية عن بلادنا”.
وأشار الوزير إلى أهمية حدوث شراكات استراتيجية بين الاستثمارات الأجنبية والقطاع الخاص السوداني بالفترة المقبلة. كما ذكر محافظ بنك السودان المركزي حازم عبد القادر، في بيان له أمس الجمعة، إنّ “رفع الحظر الاقتصادي سيسهل المعاملات المصرفية مع العالم الخارجي”، وأضاف أن تسهيل المعاملات سيؤمّنه “تيسير انسياب وزيادة موارد النقد الأجنبي والاستثمارات الأجنبية، وتخفيض كلفة التمويل والمعاملات الخارجية، بما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد السوداني”. واعتبر قائد قوات الدعم السريع في السودان الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) رفع العقوبات الأمريكية عن بلاده حافزًا لقواته لمكافحة الاتجار بالبشر والهجرة غير النظامية.
بقاء السودان على لائحة “الإرهاب” من شأنه أن يضع عراقيل وقيودًا بما يخص المساعدات الأمريكية وملفات التصدير والاستيراد وحركة الأموال
ومن جهتها أعلنت وزارة الصناعة السودانية، أن “عددًا كبيرًا” من المصانع المتوقفة ستعود إلى دائرة الإنتاج، وقال الوزير عبدو داؤود، إنّ قرار الإدارة الأمريكية “سيسمح بإعادة تشغيل عدد كبير من المصانع المتوقفة، والتي كانت تستخدم التقنية الأمريكية قبل فرض العقوبات على الخرطوم قبل 20 عامًا، فوفق بيانات رسمية، تبلغ نسبة المصانع المتوقفة بالسودان 40% من إجمالي مصانع البلاد المقدرة بنحو 6 آلاف و660 مصنعًا.
وكانت الشهور القليلة الماضية شهدت زيارة نحو 150 شركة أمريكية للبلاد فضلاً عن إيداع شركات أمريكية لمبلغ 7.5 مليارات دولار لدى بنك السودان لبداية أعمالها في السودان، أعلن مسؤول في شركة “إنتر كونتنينتال” المعنية بالاستثمارات الخليجية الأمريكية في السودان، أسامة نبيل صبحي، عن رغبة شركات أمريكية للاستثمار في السودان بما قيمته 20 مليار دولار في عدد من القطاعات، بينها قطاع النفط والتعدين والزراعة والصناعة والذهب.
ويبقى أن يقترن رفع العقوبات الأمريكية بخطوات جدية من قبل الحكومة السودانية للعمل على تهيئة بيئة جاذبة للاستثمارات الأجنبية للاستفادة منها في تنمية الاقتصاد في القطاعات كافة وانتشال البلاد من الفقر والبطالة التي وقعت فيه خلال العقود الماضية.