تتزايد في الوقت الحاليّ الضغوط السياسية التي تمارسها قوى الإطار التنسيقي بالضد من أربيل، وذلك عبر دعمها لسلسة من القرارات الصادرة من المحكمة الاتحادية العليا، كان آخرها القرار الصادر عن المحكمة نهاية الشهر الماضي، الخاص بمعاشات ورواتب موظفي وواردات الإقليم، وهو ما اعتبرته سلطات إقليم كردستان استمرارًا للخطوات للتصعيدية من بغداد لتقويض الحكم الذاتي للإقليم، فمسارات الصدام بين بغداد وأربيل بدأت مع الأيام الأولى لتشكيل حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، ولم تكن هذه الصدامات سياسية فحسب، بل عسكرية في بعض الأحيان.
ورغم بيانات التنديد التي صدرت عن سلطات إقليم كردستان بعد القرارات الأخيرة للمحكمة الاتحادية، فإن حكومة الإقليم لم تتوقف عند هذا الحد، بل بدأت بالبحث عن تموضع إستراتيجي جديد بالضد من بغداد، وذلك يتضح من طبيعة التحركات السياسية التي بدأ يقوم بها مسؤولو الإقليم، حيال العديد من القوى الإقليمية والدولية، من أجل فرض مزيد من الضغوط على بغداد، وتحديدًا قوى الإطار التنسيقي، للتوقف عن الإجراءات التصعيدية ضد الإقليم.
تحركات دبلوماسية وتصريحات سياسية
تمثلت أولى خطوات رد فعل إقليم كردستان، عبر الزيارة التي قام بها رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني إلى واشنطن الأسبوع الماضي، من أجل إطلاع الإدارة الأمريكية على طبيعة العلاقة بين بغداد وأربيل، فضلًا عن حشد مزيد من الدعم الأمريكي للإقليم، فقيادة الإقليم تدرك أن العلاقة مع واشنطن أصابها الكثير من الفتور بعد استفتاء استقلال إقليم كردستان في 25 سبتمبر/أيلول 2017، إذ أظهرت تصريحات مسرور بارزاني من واشنطن، خلال لقائه مع عدد من المسؤولين الأمريكيين في الكونغرس والإدارة الأمريكية، عن حاجة الإقليم للدعم الأمريكي ضد بغداد، فضلًا عن تمسك الإقليم باستمرار الوجود الأمريكي في العراق.
أما التحرك الدبلوماسي الكردي الثاني، فجاء عبر زيارة رئيس إقليم كردستان نيجرفان بارزاني إلى تركيا للمشاركة في أعمال منتدى أنطاليا الدبلوماسي المنعقد حاليًا في مدينة أنطاليا التركية، حيث التقى بالعديد من زعماء العالم، لكن اللقاء الأبرز كان مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فقد مثل ظهور بارزاني إلى جانب أردوغان في بيان مشترك، رسالة دعم قوية للإقليم حيال بغداد، كما حرصت تركيا خلال الفترة الماضية على الحفاظ على مكانة أربيل ضمن السياسة العراقية، وتنظر أنقرة بأهمية كبيرة لبقاء أربيل بعيدة عن أي ضغوط سياسية، لحسابات إستراتيجية تتعلق بتوازنات القوى الإقليمية في العراق.
وفي سياق ما تقدم، حرص زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني على الدخول على خط الأزمة، نظرًا للوضع المعقد الذي يعيشه الإقليم اليوم، ففي لقاء مع إذاعة مونت كارلو الدولية في 27 فبراير/شباط الماضي، قال البارزاني إن حكومة السوداني تواجه عقبات في تطبيق بنود الاتفاق السياسي الذي سمح بالمشاركة في هذه الحكومة، متهمًا عدة أطراف بمحاولة عرقلة عمل الحكومة الفيدرالية.
وبالنسبة لقرارات المحكمة الاتحادية بخصوص رواتب موظفي إقليم كردستان وواردات الإقليم، أعرب بارزاني عن أسفه حيال القرارات الأخيرة التي اعتبرها منحازة ضد الإقليم، متهمًا المحكمة بتجاوز صلاحياتها الدستورية على حد تعبيره، وختم بارزاني لقائه بدق ناقوس الخطر حيال مستقبل العراق، إذا لم يتبن العراقيون مجددًا مبدأ المشاركة والتوافق والتوازن، دون التفرد بالسلطة من جماعات معينة، وهو ما قد يسير بالعراق نحو الهاوية.
أما وزير الخارجية العراقي الأسبق والقيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري، فقد أشار في لقاء له مع إذاعة مونت كارلو الدولية في 29 فبراير/شباط الماضي، إلى أن موضوع التحالف الدولي يطرح بشكل مسيس لتصفية حسابات داخلية، لا سيما أن هذه القوات موجودة بطلب من الحكومة العراقية، والعراق ما زال بحاجة إليها، لافتًا إلى عدم وجود حرج في بقائها، طالما أن العلاقة بين الجانبين منظمة ومقننة كما هو حال الوجود الأمريكي في باقي دول المنطقة، موضحًا أن الأمر لا يتعلق بالشأن العسكري فقط، بل يمتد إلى ملفات تتعلق بالاقتصاد والاستثمار وأمن المنطقة بشكل عام.
وأكد زيباري على دعم الإقليم لحكومة السوداني في بغداد، لكن هذا الدعم “غير مفتوح حتى النهاية”، فهناك اتفاقات موقعة يجب تنفيذها، دون الاكتفاء بإطلاق الوعود فقط، فالوقت ليس في صالح أي من الأطراف على حد تعبيره.
حسابات معقدة
يجد إقليم كردستان نفسه في ظل حسابات سياسية معقدة، وتحديدًا بين طهران وأنقرة وواشنطن، هذه الثلاثية فرضت على أربيل مراعاة التوازنات الحساسة بين هذه الأطراف، فمن جهة تنظر إيران إلى أربيل على أنها منطقة فراغ ما زالت لم تدخل ضمن دائرة النفوذ المباشر لها، رغم أنها تسيطر بصورة غير مباشرة على أغلب الجغرافيا المحيطة بها، عبر جماعات محلية وكيلة، أما تركيا فهي تنظر لعلاقاتها مع أربيل على أنها عنصر التوازن مع بغداد والضامن الإستراتيجي لدورها في نينوى كركوك، والأهم حاجز جغرافي يفصل الاتحاد الوطني الكردستاني عن قوات سوريا الديمقراطية، ومن ثم حزب العمال الكردستاني.
أما الولايات المتحدة فحساباتها مختلفة تمامًا، إذ لطالما مثلت أربيل حجر الزاوية في علاقاتها مع بغداد، لأسباب عدة منها طبيعة العلاقات الجيدة التي تربط مسؤولي الإقليم بالإدارات الأمريكية المتعاقبة، فضلًا عن نجاح الإقليم في ربط دوره بالدور الأمريكي في العراق، فمن النادر أن تلمس خلاف في وجهات النظر بين المسؤولين الأمريكيين والأكراد، حول المسائل الخلافية في العراق، وبالفعل أظهرت الخلافات الأخيرة بين بغداد وواشنطن بشأن مسألة إنهاء الوجود الأمريكي في العراق، تمايزًا واضحًا لأربيل عن موقف بغداد، وأعلنت أربيل صراحة تمسكها بالوجود الأمريكي في العراق، وإذا كان هناك خلاف حول بقائها في بغداد ومدن وأخرى، فيمكن نقل هذا الوجود إلى أربيل.
هذا الموقف الكردي، دفع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لإصدار بيان عقب لقائه بمسرور بارزاني، أكد فيه دعمه للتعاون البنّاء بين حكومة العراق وحكومة إقليم كردستان، وذلك بغرض تعزيز الاستقرار والازدهار الاقتصادي للشعب العراقي كله، وأوضح بيان للخارجية الأمريكية، أن المسؤولين الأمريكيين ناقشوا المشاركة الكردية في اللجنة العسكرية العليا العراقية – الأمريكية، والتي ستتيح الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية دائمة بين البلدين، بما في ذلك إقليم كردستان، وقال بلينكن: “إقليم كردستان سيستمر حجر زاوية للعلاقة الديناميكية الواسعة النطاق بين الولايات المتحدة والعراق”، ومن جانبه، أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان الدعم لأمن الإقليم، منددًا بالهجمات التي تشنها إيران وجماعات متحالفة معها على مواقع في أربيل.
إن التحدي الأكبر الذي يواجهه إقليم كردستان يتمثل في البحث عن كيفية يُعيد من خلالها التوازن في العلاقة مع بغداد، إذ نجحت بغداد وعبر سلسلة من الإجراءات القانونية والدستورية في إضعاف قدرة أربيل على المواجهة، وسحب أكثر أوراق اللعب التي كانت تناور بها سلطات الإقليم سابقًا، وتحديدًا الاستقلالية الاقتصادية والمالية، وهو ما دفع الإقليم مؤخرًا لموزانة ضعفه الداخلي عبر نسج تحالفات إقليمية ودولية، لكن تبقى مسألة نجاح مثل هذه التحالفات مرهونة بمستوى استجابة هذه القوى لها، خصوصًا أن علاقتها مع بغداد لا تقل أهمية عن علاقتها مع أربيل، بل قد تفوقها أهمية أحيانًا.