قبل فترة كتب صديق تونسي عزيز، طلبًا ساخرًا بخصوص اللهجة المصرية في التحدث بالإنجليزية يطالب بضمها إلى لهجات الإنجليزية الأمريكية والإنجليزية البريطانية، سخر كثير من الأصدقاء وكنت واحدًا ممن سخروا، فالمصريون أنفسهم يسخرون من لهجتهم حين التحدث بالإنجليزية كثيرًا.
هذا الموضوع رغم بساطته، دفعني للتفكير: لو صديق مصري مثلًا كتب عن اللهجة الخليجية في التحدث بالإنجليزية، أو لهجة الأصدقاء في السودان وسخر منهم، لتحول الأمر إلى نظرة عنصرية وسباب وشتائم، لكن حينما يتعلق الأمر بالسخرية من مصر وشعبها، تصمت كل أحاديث العنصرية.
صديق مصري، كتب ذات مرة ساخرًا من الجيش السوداني وقدراته، فإذا بكل الأصدقاء السودانيين في حالة نفير عام على صفحته للرد على هذه الادعاءات الكاذبة متهمينه بالعنصرية والكراهية والنظرة العدائية للسودان والسودانين.
صديق مصري أيضًا كتب، بسخرية، هجومًا على المنتجات التركية في قطر في بداية الحصار، فإذا بأحد الأتراك الناطقين بالعربية، ينهال عليه بالسباب ويتهمه بالعمى رغم أن الأمر ساخرًا ولا حاجة لكل هذا الهراء.
يواجه المصريون في دول الخليج على سبيل المثال عنصرية شديدة، لكن قلما تجد مواد وأخبار عن هذه العنصرية، وسريعًا نسى الخلايجة أن من علمهم في المدارس هم المدرسون المصريون، ولولاهم ما كانوا ليتعلموا العلوم الأساسية في الدول التي كانت حينها “ناشئة”.
الأمة المصرية حاليًا مأزومة نتيجة القمع والقتل والعسكرة، لكن استعلاء باقي المقيمين داخل حدود ما يعرف بالوطن العربي على مصر، استعلاء تافه لا قيمة له
الحقيقة أننا نواجه أشكالًا كثيرة من العنصرية، نتيجة السينما والدراما التي صدرت لغيرنا من العرب، أننا متسولون ولصوص وشاربو مخدرات وبناتنا بائعات هوى للخلايجة القادمين من بلاد النفط، ولكننا نواجه هذه الأمور بسخرية مقابلة، نسخر حتى من الإفيه الساخر منا، في الخليج ينادون المصريين بالـ”الطعمية” لأنها واحدة من أكلاتنا الشعبية، ويعتبرونها إهانةً لنا، يا لغبائهم!
أخبركم بشيء ربما لم تسمعوا به من قبل، في السعودية ينادون المصريين أحيانًا بـ”علي عوض”، وقصة هذا النداء غاية في الغرابة، حيث كان علي عوض بائع متجول يذهب للحجاز وينقل المنتجات من مصر إلى هناك في أثناء فترة حكم الأسرة العلوية، يعني أن الرجل كان تاجرًا يجلب البضائع لبدو الحجاز، ثم أصبحت هذه سبّة للمصريين، وأصبح التاجر أو البائع الجائل المرتحل سبّة للمصريين، ويوصفون بأنهم عربجية!
الحقيقة، أن الأمة المصرية حاليًا مأزومة نتيجة القمع والقتل والعسكرة، لكن استعلاء باقي المقيمين داخل حدود ما يعرف بالوطن العربي على مصر، استعلاء تافه لا قيمة له، فلا حاجة لنا للتذكير أن مصر أقدم حضارات العالم وأوائل الشعوب التي عرفت الاستقرار وأوائل الدول التي عرفت الحكم المركزي والدولة الوطنية المعروفة الحدود والملامح، يحارب مواطنوها من أجل أرضهم وينتصرون ويعقدون اتفاقيات سلام منذ آلاف السنين.
إن نبرة الهجوم على الشعب المصري ووصفه بالخنوع والخضوع، والرواية التافهة القائلة “أرضها ذهب ونساؤها لعب ورجالها مع من غلب وأهلها تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا”، هي مقولة أعتقد أنها يمكن أن تنطبق على أي شعب في العالم إلا الشعب المصري.
والحقيقة أن المصريين قاموا على مر تاريخهم الحديث، بثورات وانتفاضات، ربما لم تحدث في أي دولة عربية في منطقتنا، بداية من ثورة عرابي الوطنية مرورًا بثورة سعد زغلول ثم حركة يوليو ثم إجلاء الاحتلال ثم مواجهة الهينة، ثم انتفاضة الخبز حتى غليان الشارع المصري منذ عام ٢٠٠٥ لغاية ثورة يناير، وحتى الـ30 من يونيو رغم ما يشوبها من شوائب من دعمٍ خفي لأجهزة الدولة أو دعم قوى خارجية، فلا أحد يُنكر أن هناك الملايين من الشعب المصري نزلت إلى الشوارع ترفض حكم جماعة الإخوان المسلمين.
عانينا – كشعب ووطن – من التجهيل عمدًا والإفقار عمدًا والتهميش عمدًا، لكننا لم نكن يومًا خاضعين ولا خانعين
إن هذا الشعب حين أتيحت له الفرصة للتعبير عن رأيه دون قمع أو قتل، وقف بالساعات في طوابير الاقتراع ليختار برلمانًا ورئيسًا دون تزويرٍ أو تلفيق، هؤلاء العجائز الذين تتهمونهم بالجهل والخنوع والذل، هم الذين احتفيتم بصورهم في لجان الاقتراع بعد الثورة.
هذا هو الشعب الذي ظل في الشوارع 18 يومًا ليُسقط مبارك ويكلل مساعيكم بالنجاح، ولا داعي هنا للحديث عن الذي قدمتوه للشعب مقابل هذا، حيث لم تقدموا لهم سوى “اللاشيء”، أهملتموه خلف ظهوركم وجعلتوه يستدعي العساكر هربًا منكم ومن جهلكم وتهميشكم له وها هو اليوم مأزوم من جديد.
عانينا – كشعب ووطن – من التجهيل عمدًا والإفقار عمدًا والتهميش عمدًا، لكننا لم نكن يومًا خاضعين ولا خانعين، لكن هذه طبيعة البشر في ظل قمعٍ وقتل وسجن، يهرب البعض ويتخذ البعض موقفًا سلبيًا حتى يأمن على نفسه ومن يحُب فكيف يُلام الشعب إذًا على خوفه على حياته!
إننا، ونحن أمة مأزومة تعيش حاضرًا كئيبًا بائسًا، لا يمكننا القبول في أي لحظةٍ من اللحظات بخطاب التهميش أو التقليل من شأننا وشأن أمتنا المصرية غير أن بؤسنا يكمن في أن من يتحكم في مصير أمتنا هم أولاد زايد وسعود، فوقتما كان يشق قطار السكك الحديد دلتا مصر لم تكن لهذه الدول على الخريطة مكان، فإن الأمة الضاربة بأصولها في جذور التاريخ تمرض ولا تموت.
نهاجم ونسب ونلعن مصر أحيانًا من ضيقنا وحزننا عليها، نحزن لأنها ليست كما نريد وكما تستحق، ولكننا في النهاية نتعامل معها بمنطق الأم مع أبنائها “أدعي على ابني وأكره اللي يقول آمين”.