تتصاعد المناشدات الدولية منذ بداية حرب الإبادة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والمستمرة حتى اليوم، لإدخال المساعدات الإغاثية لسكان القطاع المحاصرين، عبر معبر رفح، المتنفس الوحيد لسكان غزة بعدما باتوا على مشارف كارثة إنسانية فاضحة، اضطر بسببها الغزيون لتناول طعام الحيوانات والأكل العفن منتهي الصلاحية.
ولم تحرك تلك المناشدات المستمرة طيلة 5 أشهر كاملة، ولا مقاطع الفيديو المصورة التي تكشف حجم المأساة التي يعيشها أهل غزة، أي ساكن لدى دول الجوار، فضلًا عن المجتمع الدولي الذي جلس على مقاعد المتفرجين، يتابع على الهواء مباشرة، فيلم الإبادة الوحشي الذي خلف أكثر من 30 ألف شهيد وما يزيد على 100 ألف مصاب وتشريد قرابة مليون ونصف مواطن.
وبعد سقوط آلاف الأطفال والنساء جوعًا وخوفًا، وأمام الرأي العام العالمي – ليس العربي لا سمح الله – المنتفض ضد تلك المجازر، وفي ظل تبادل الاتهامات بين القاهرة وتل أبيب بشأن المسؤولية عن إغلاق معبر رفح رغم الكارثة الإنسانية الواقعة على بعد أمتار قليلة من الحدود المصرية، فوجئ الجميع بموجة من عمليات الإنزال الجوي لإدخال المساعدات للقطاع، مصحوبة باستعراض إعلامي صاخب.
البداية كانت مع المملكة الأردنية، ثم لحقت بها مصر وقطر وفرنسا والإمارات، وصولًا إلى الولايات المتحدة التي أعلنت هي الأخرى عن جسر جوي لإرسال المساعدات إلى غزة، جنبًا إلى جنب مع الصواريخ والقاذفات التي ترسلها إلى “إسرائيل” لمساعدتها في قتل أطفال ونساء القطاع.
بطبيعة الحال لا يمكن لأي من البلدان التي قامت بإنزالات جوية لمساعدة غزة أن تقدم على تلك الخطوة دون التنسيق مع حكومة الاحتلال، والحصول على “الإذن” بدخول الأجواء الفلسطينية، فضلًا عن تفتيش تلك الطائرات أو على الأقل تقديم تفصيل دقيق عن محتواها وضرورة الحصول على الموافقة عليها، ورغم أهمية تلك الخطوة في تقديم ولو القليل لسكان غزة المحاصرين جوعًا وعطشًا، فإن هناك تساؤلًا يفرض نفسه: لماذا توافق حكومة الاحتلال على إدخال المساعدات جوًا وتعرقلها برًا عن طريق معبر رفح رغم أنه الأسهل والأسرع والأكثر فعاليةً؟
فشل عربي وأمريكي
الرسالة الأولى التي يود الاحتلال أن يبعث بها من خلال الموافقة على عملية الإنزال الجوي للمساعدات تأكيده على السيطرة على المشهد بصفة كاملة، وأنه لا شيء يدخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وغير المحتلة، برًا أو بحرًا أو جوًا، إلا بأوامره.
حتى معبر رفح المتنفس الوحيد لسكان غزة والواقع تحت الإدارة المصرية – بشهادة “إسرائيل” نفسها – والذي كان يعول عليه في السابق لإحداث التوازن في القوى بين المقاومة والاحتلال، يحاول الكيان المحتل التأكيد على أن سيطرة القاهرة عليه شكلية في المقام الأول، أما السيطرة الفعلية فهي للإسرائيليين.
تغطية صحفية: الصحفي محمود أبو سلامة من شمال غزة: الإنزالات الجوية لا تسد حاجة حي صغير في غزة… الأوجب هو فتح المعابر وإدخال الشاحنات المتكدسة pic.twitter.com/snLshDFcfc
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) March 2, 2024
ينبثق عن الرسالة ذاتها التأكيد على عدم الرضوخ للإملاءات والضغوط الخارجية، فلا انصاعت تل أبيب لضغوط القاهرة التي أجُبرت على استخدام عمليات الإنزال الجوي لإدخال مساعدات لغزة رغم وجود معبر رفح البري الذي لا يفصله عن المحاصرين في القطاع إلا أقل من 100 متر فقط.
أيضًا عدم الرضوخ للأمريكان وهو ما كشفه تقرير لصحيفة “بوليتيكو” أشار إلى أن قرار الرئيس جو بايدن إسقاط المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة جوًا يفضح حدود النهج الأمريكي تجاه “إسرائيل”، وأن بايدن فشل في إقناع رئيس وزراء الاحتلال ببذل المزيد من أجل معاناة الفلسطينيين، وهو ما يعني رضوخًا مباشرًا له، فيما نقلت الصحيفة عن منسق المساعدات الإنسانية السابق في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ديف هاردن قوله: “إننا نبدو ضعفاء بنسبة 100%”، لافتًا إلى أن مسؤولي إدارة بايدن يفعلون ذلك فقط ليشعروا بالرضا عن أنفسهم، على حد قوله.
استعراض إعلامي
حين تُظهر دولة الاحتلال مقاطع إنزال الطائرات القادمة من عدة دول وهي تنزل مساعداتها لسكان غزة، فهي تريد بذلك أن تغسل سمعتها أمام الرأي العام العالمي وتحاول إيهام الشارع الحقوقي والسياسي الدولي بأنها لا تمانع في إدخال المساعدات للمحاصرين في القطاع.
وبتلك الصورة المنقوصة والتي تحتاج إلى قراءات وتفسيرات عدة تحقق تل أبيب هدفين أساسيين، الأول: تجميل صورتها أمام العالم كدولة تلتزم بالمعايير الإنسانية في حروبها، والثاني: التأكيد على أنها غير مسؤولة عن عرقلة المساعدات عبر معبر رفح، وهي بذلك تؤكد على اتهاماتها السابقة بشأن مسؤولية مصر عن المعبر، وإلا فلماذا تسمح بإدخالها عبر الجسور الجوية إن كان هدفها رفض إدخالها من الأساس.
كما أن قبول الدول العربية الأربعة لتقديم المساعدات عبر الإنزال الجوي وليس معبر رفح كما يفترض أن يكون وكما جرت عليه العادة، تأكيد إسرائيلي للعالم على عدم تأثر اتفاقيات التطبيع المبرمة مع الدول العربية بالحرب على غزة رغم المناشدات المستمرة لاستخدام تلك الاتفاقيات كورقة ضغط ضد الاحتلال، كذلك نفي التعويل على مسألة عزل “إسرائيل” إقليميًا كأحد الخيارات المطروحة للضغط على الاحتلال جراء انتهاكاته الوحشية بحق الشعب الفلسطيني.
مسؤول سابق بالأونروا: الإنزالات الجوية الأمريكية مجرد عرض على شاشات التلفاز #الجزيرة_مباشر #غزة #غزة_لحظة_بلحظة pic.twitter.com/auX1Yul99C
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) March 2, 2024
حصار قطاع غزة
الدافع والرسالة الأهم من وراء إستراتيجية الاحتلال في تقديم المساعدات عبر عمليات الإنزال الجوي، التشديد على إبقاء قطاع غزة تحت الحصار، والتحكم بمصير سكانه البالغ عددهم أكثر من مليوني مواطن، مما يُنهي تدريجيًا مقومات الحياة في القطاع ويدفع السكان نحو التهجير الطوعي، وذلك من خلال عدة أدوات:
– إبقاء معبر رفح، نافذة القطاع الوحيدة على العالم الخارجي، مغلقًا، والاستعاضة عنه في إدخال المساعدات جوًا باتباع أوامر الاحتلال وتحت عينه ورقابته.
– تجميد عمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) بشكل ميداني، وإخراجها عن المشهد تدريجيًا، تمهيدًا لإنهاء عملها في القطاع كما يخطط الاحتلال.
– تجفيف منابع تسليح المقاومة والتضييق عليها، فنوعية المساعدات المقدمة جوًا بطبيعة الحال ليس فيها أي مواد يمكن للمقاومة توظيفها لخدمة عملياتها ضد الاحتلال، بمعنى خلوها الكامل من الوقود والمواد المعدنية التي يمكن إعادة تدويرها في صناعة السلاح كما حدث في السابق، كنوع من التضييق على حماس وإضعاف نفوذها داخليًا.
كي الوعي الفلسطيني
رغم آلة التدمير التي لم تتوقف طيلة قرابة 150 يومًا والتي حولت قطاع غزة إلى مدينة أشباح تزكم روائح الموت فيها أنوف كل من يمر عليها، برًا أو جوًا أو بحرًا، فإن صدمة ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي لم تزل تسيطر على عقول الإسرائيليين، قيادة وشعبًا.
وبعد مرور خمسة أشهر كاملة من الحرب ما زال الغزيون وأنصار القضية الفلسطينية في الداخل والخارج يتفاخرون بما أحدثه طوفان الأقصى من تشويه لصورة الاحتلال وقوته المزعومة، وهدمه لكل جدران الكبرياء والعزة والقوة التي أنفق الاحتلال على بنائها سنوات طويلة، فضلًا عن الزخم العالمي الذي لحق بالقضية الفلسطينية رغم المليارات التي أنفقت لأجل تهميشها وتسطيحها وإبعادها عن بؤرة اهتمام العالم.
وأمام تلك الصدمة والانهيارات التي أحدثتها يكثف الاحتلال – بكل ما لديه من قوة – جهوده المضنية لإزالة تأثير ما حدث في هذا اليوم، أو على الأقل التخفيف من وطأته، على مستوى الشارعين، الفلسطيني والإسرائيلي على حد سواء.
فعلى الجانب الإسرائيلي يحاول من خلال الإجرام الوحشي الممارس والانتهاكات التي تجاوزت كل الأعراف والقوانين، حيث قتل أكبر عدد من الفلسطينيين وتشريد الباقي واتباع سياسة الأرض المحروقة، البحث عن انتصار زائف يُرضي به الشارع الإسرائيلي الغاضب من إدارة المعركة حتى الآن، والذي سلط سهام نقده على المؤسسة السياسية والأمنية وحملها مسؤولية الطوفان.
وعلى الجانب الفلسطيني، فيسعى جاهدًا لكي الوعي إزاء ما حدث في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والعمل لأجل إزالة كل معلم من معالم النصر وأي رمزية من الممكن أن يكون الطوفان قد أحدثها، وذلك من خلال التنكيل بالعقل الجمعي الفلسطيني عبر القتل والتدمير والتجويع، وهي الإستراتيجية التي يأمل المحتل أن تؤلب الشارع الفلسطيني على المقاومة وتُنسيه الطوفان وما حققه من انتصارات للقضية الفلسطينية في ظل الثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون لأجل هذا النصر.
بات من الواضح في ضوء ما سبق أن المساعدات التي توافق “إسرائيل” على إدخالها جوًا ليس الهدف منها مساعدة الفلسطينيين كما يروج البعض، ولا هي انتصار يحسب للدول المشاركة في هذا الاستعراض، لكنها في المقام الأول خطة تخدم الأجندة الإسرائيلية بشكل أو بآخر.
لكن ليس معنى ذلك التقليل من شأن تلك الإستراتيجية، فكل محاولة مهما كانت دوافعها وحجمها لتقديم يد العون للمحاصرين في غزة، هي محاولة محمودة بلا شك، غير أن المطلوب هو البحث عن أدوات أخرى أكثر نجاعة وتأثيرًا ونزاهة لنصرة الفلسطينيين وإنقاذهم وعدم المتاجرة بهم لخدمة أجندة هنا أو هناك، خاصة بعدما باتت الصورة واضحة أمام الجميع.