ترجمة وتحرير نون بوست
قد تكون “نيويورك تايمز” أكثر صحيفة يومية مرموقة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. وقد حصدت تقاريرها 132 جائزة بوليتزر، بدءًا بواحدة حصلت عليها في سنة 1918 لتغطيتها للحرب العالمية الأولى، وثلاث جوائز أخرى فازت بها السنة الماضية فقط.
وبينما بات من الشائع على نحو متزايد أن لا يفخر مستهلكو الأخبار بكونهم يقرؤون أو يشاهدون التقارير غير المتحيّزة بل بأنهم يطّلعون على المصادر من “كلا الجانبين”، يمكن أن تشعر أن صحيفة نيويورك تايمز تبدو من بقايا عصر ضائع عندما كان الحياد مقدّسًا. أُطلق على الصحيفة تاريخيًا لقب “السيدة الرمادية” بسبب تقاليد طباعة منشوراتها بالأبيض والأسود فقط – ولم تبدأ دمج الصور الملونة حتى التسعينيات – وذلك إلى حد ما بسبب روح معينة من الحذر الصحفي والبخل.
وكما أشارت منى شلبي، وهي واحدة من المراسلين الحائزين على جائزة بوليتزر مع الصحيفة السنة الماضية، فإن إحدى المجالات التي يصعب فيها التوفيق بين تلك السمعة والواقع هي تغطية نيويورك تايمز لـ “إسرائيل” وفلسطين. وقبل أن تذهب شلبي إلى حفل بوليتزر في تشرين الثاني/ نوفمبر، نشرت رسمًا بيانيًا على حسابها على إنستغرام يشير إلى نقطة مدمرة.
مع أن عدد القتلى الفلسطينيين يتجاوز عدد القتلى الإسرائيليين – إذ تشير التقديرات الحالية إلى أن عدد المدنيين الإسرائيليين الذين قتلوا في 7 تشرين الأول/ أكتوبر بالمئات، في حين قُتل عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين خلال الأشهر العديدة من الانتقام الوحشي الإسرائيلي – خصصت نيويورك تايمز باستمرار المزيد من التغطية للوفيات الإسرائيلية. وفي الواقع، يُظهر الرسم البياني أن الهوة زادت بالفعل في الوقت الذي كانت فيه الوفيات الفلسطينية ترتفع بشكل كبير.
في الآونة الأخيرة، كشف الجدل الدائر حول الصحافية المستقلة في صحيفة نيويورك تايمز، أنات شوارتز، مدى عمق قبح هذا التحيز. فعلى الرغم من عدم امتلاكها أي خبرة صحفية حقيقية، إلا أن شوارتز كانت عضوًا في فريق صغير من المراسلين المكلّفين بتغطية إحدى أكثر القصص حساسية وأهمية التي تناولتها نيويورك تايمز منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة: الادعاءات بأن حماس استخدمت بشكل منهجي الاعتداء الجنسي كسلاح حرب أثناء هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. وقد ثبُت أن التفاصيل الرئيسية لهذه القصة مشكوكٌ فيها منذ ذلك الحين، وتبيّن أن شوارتز أبعد ما يكون عن أن تكون صُحفيّة محايدة.
قبل أن تصبح مخرجة سينمائية – وبشكل مفاجئ جدًا في السنة الماضية، صحفية مستقلة لصحيفة نيويورك تايمز – خدمت شوارتز في قسم الاستخبارات في سلاح الجو الإسرائيلي. كما أن وجهات نظرها الخاصة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، التي أصبحت مسألة معروفة للعامة، ترجّح كفّة عنصرية الإبادة الجماعية.
آنات شوارتز ونيويورك تايمز
ظهر عنوان شوارتز، إلى جانب ابن أخيها آدم سيلا والمراسل الرئيسي جيفري جيتلمان، في قصة إخبارية بعنوان “صرخات بلا كلمات: كيف استخدمت حماس العنف الجنسي كسلاح في 7 تشرين الأول/ أكتوبر”. حظي المقال بإشادة خاصة من قبل المحرر التنفيذي لنيويورك تايمز جو كان، الذي نقل في رسالة بالبريد الإلكتروني إلى غرفة الأخبار أن “فريق” جيتلمان وشوارتز وسيلا تعامل مع قصة “مسيّسة وحساسة للغاية” بـ “حذر وتفصيل”.
لكن منذ ذلك الحين، تعرّضت القصة لانتقادات بسبب عدم دقتها الواضحة. وعلى وجه الخصوص، تم تخصيص حوالي ثلث التقرير لحادثة مركزية واحدة: الاغتصاب المزعوم لغال عبدوش التي قُتلت في 7 تشرين الأول/ أكتوبر وأصبحت تُعرف باسم “المرأة ذات الرداء الأسود” لظهور جثتها في مقطع فيديو وهي ملقاة على الأرض وجسدها مكشوف جزئيًا. ولا يظهر في الفيديو أي اعتداء جنسي، مع أن بعض المراقبين فسّروه على أنه إشارة إلى احتمال حدوثه.
يلقي تقرير لاحق نشرته موندويس ظلالًا من الشك على كل عنصر تقريبا من هذه القصة ورد فيه ما يلي: “لا يوجد حاليًا أي أثر للفيديو على الإنترنت على الرغم من ادعاء نيويورك تايمز بأنه ‘انتشر بسرعة كبيرة’. كما أن الصحافة الإسرائيلية، رغم نقلها مئات القصص عن ضحايا السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، إلا أنها لم تذكر قط “المرأة ذات الرداء الأسود” ولو مرة واحدة قبل قصة 28 كانون الأول/ ديسمبر. ولا يبدو أن الفيديو أصبح في الواقع رمزًا منتشرًا على نطاق واسع كما تزعم نيويورك تايمز. لكن بغض النظر عن ذلك، في غضون يوم واحد من نشر التقرير بدأت الحقائق التي قوّضت قصة نيويورك تايمز الظهور”.
على وجه الخصوص، عارض والدا عبدوش وإخوتها بقوّة فكرة وجود أي دليل على تعرض غال للاغتصاب – وأعربوا عن اشمئزازهم من سلوك مراسلي نيويورك تايمز. ولم يفسّروا الفيديو بنفس الطريقة بل قالوا إنهم لم يكونوا ليتعاونوا مع المراسلين لو علموا أنهم سيركّزون على هذا الادعاء.
الادعاء المحدّد الذي قدّمته شوارتز والمؤلّفون المشاركون لتقرير “صرخات بلا كلمات” مفاده أن “الهجمات ضدّ النساء لم تكن أحداثًا معزولة بل كانت جزءًا من نمط أوسع”. وهذا ادعاء خطير للغاية ينطوي على مخاطر عالية جدًا. وكان يجدر بمؤسسة صحفية أخلاقيّة التعامل مع القصة بحذر والتحقّق بدقة من كل التفاصيل.
إن المخاطر كبيرة لأن الرواية الإسرائيلية حول أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التي تضمنت التركيز الشديد على الاعتداء الجنسي، استُخدمت لتبرير الفظائع المرتكبة في غزة على نطاق واسع. وفي وقت كتابة هذا التقرير، كان 1.9 مليون من إجمالي سكان غزة البالغ 2.3 مليون نسمة قد نزحوا من منازلهم، ويهددهم شبح المجاعة. كان سعي جيش الدفاع الإسرائيلي لتدمير البنية التحتية المدنية في القطاع ممنهجًا للغاية، لدرجة أن آخر جامعة قائمة في غزة دُمرت في عملية هدم خاضعة للرقابة. وقُتل عشرات الآلاف من المدنيين، من بينهم أكثر من 12 ألف طفل. وفي تطوّر محبط ولكنه غير مفاجئ، تكشف أدلة موثوقة أن الفظائع الإسرائيلية شملت العنف الجنسي، وهذه ليست المرة الأولى.
بسبب خطورة الجرائم الجنسية، والمبرر الأخلاقي الذي تمنحه في كثير من الأحيان لأعداء مرتكبي الجرائم، من المهم للغاية أن تكون هناك معايير واضحة ومتّسقة للأدلة. ما الذي يتطلبه – أو بالأحرى ما الذي يجب أن يتطلبه – إعلان صحيفة مثل نيويورك تايمز أن الاعتداءات الجنسية من قبل أفراد من الجيش الإسرائيلي “ليست حوادث معزولة وإنما جزءًا من نمط أوسع؟”.
هل من الممكن أن نتخيّل قيام نيويورك تايمز بإسناد قصة تطرح مثل هذا الادعاء إلى فريق من ثلاثة مراسلين، أحدهم كان عضوًا سابقًا في حماس ويفتقر إلى الخبرة الصحفية ولم يتخل أبدًا عن ماضيه، والآخر ابن أخ عضو سابق في حماس؟ إذا حدث ذلك بطريقة أو بأخرى هل يمكنك أن تتخيل نشر القصة دون التحقق من الادعاءات الأساسية، حتى مع النفي القطعي لوالدي وأشقاء الضحية الرئيسية المزعومة وقوع الاغتصاب؟
إذا كان بإمكانك إطلاق العنان لمخيلتك، أضف تفاصيل أخرى. تخيّل أن عضو حماس السابق قد “وضع إعجابا” مؤخرًا على أحد منشورات مواقع التواصل الاجتماعي التي تدعو إلى القتل الجماعي للإسرائيليين – وأنه فعل ذلك قبل ظهور عنوانه لأول مرة في صحيفة نيويورك تايمز.
في الواقع، إن أحدث تطوّر في ملحمة شوارتز هو أنه تم اكتشاف أنها وضعت إعجابًا على منشور بشع يصف الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية” ويدعو إلى “تحويل غزة إلى مسلخ بشري” وذلك قبل ظهور تقريرها في صحيفة نيويورك تايمز. كما دعا المنشور “إسرائيل” إلى التخلي عن فكرة “التناسب” لصالح “الرد غير المتناسب”، وشجّع الجيش الإسرائيلي على “انتهاك أي قاعدة” ضرورية لضمان النصر.
لماذا يطحن تشومسكي أسنانه غضبًا؟
من الواضح أن شوارتز هي أحد أعراض مشكلة أكبر بكثير تتعلق بتغطية صحيفة نيويورك تايمز للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والدليل على كيفية حدوث ذلك يأتي من نظرة فاحصة على المحرر التنفيذي المذكور أعلاه.
حسب ما أفاد به رايان غريم ودانييل بوغوسلاف من موقع “ذي إنترسبت”، فإن والد كان، ليو كان، هو منذ فترة طويلة عضو في مجلس إدارة لجنة الدقة في إعداد التقارير والتحليلات المتعلقة بالشرق الأوسط (كاميرا)، التي سعَت إلى فرض الالتزام بالخط المؤيد لـ”إسرائيل” في التغطيات الإعلامية من خلال “تشويه سمعة الصحفيين الذين لا تتفق مع عملهم وشن حملات مقاطعة ضد المؤسسات الإخبارية التي تعتقد أنها لا تستجيب باحترام كافٍ لطلباتها”.
ووفقًا للملف التعريفي الذي نشرته صحيفة نيويورك تايمز عن جو كان عندما أصبح المحرر التنفيذي للصحيفة في سنة 2022، فإن الأب والابن في كثير من الأحيان “يقومان بفحص التغطية الصحفية معًا”. وبينما تنفي صحيفة نيويورك تايمز أن يكون للجنة الدقة أي تأثير خاص على تقاريرها، يشير غريم وبوغسلاف إلى أن “سجل الصحيفة في الإذعان لطلبات اللجنة المستمرة” يعتبر “مدهشًا على النقيض من مقاومتها التاريخية لتصحيح قصصها”.
كما لاحظ صحفيا “ذي إنترسبت” أن هذه ليست العلاقة العائلية الوحيدة التي تثير تساؤلات جدية حول قدرة الصحيفة على تغطية الشأن الإسرائيلي الفلسطيني بطريقة تتناسب مع هالة النزاهة الصحفية الباهظة، ذلك أنه “على مدى العشرين سنة الماضية، تطوّع أبناء ثلاثة مراسلين لصحيفة نيويورك تايمز في جيش الدفاع الإسرائيلي بينما كان الآباء يغطون القضايا المتعلقة بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني”.
لكن تحت هذه الطبقات السطحية من التحيّز ضد الفلسطينيين، قد تكون هناك قضية أعمق وأبسط. وكما جادل نعوم تشومسكي والراحل إدوارد هيرمان في كتاب “صناعة التوافق”، فإن أحد التحيزات المحددة لوسائل الإعلام الرئيسية بشكل عام – التي كانت مجلة نيويورك تتبناها قبل وقت طويل من بداية تضارب المصالح الدراماتيكي الأخير – كان الاحترام العميق والتقارب الأيديولوجي مع دولة الأمن القومي الأمريكي.
كان هذا صحيحًا في تغطية حرب فيتنام عندما كان الرئيسان ليندون جونسون وريتشارد نيكسون يقصفان ذلك البلد لسحق ثورة الفلاحين. كان هذا صحيحًا بالنسبة لحرب العراق عندما نشرت صحيفة نيويورك تايمز دون أي انتقاد أكاذيب إدارة جورج دبليو بوش حول “أسلحة الدمار الشامل”. ولا ينبغي لنا أن نتفاجأ عندما نكتشف أن هذا صحيح أيضا فيما يتعلق بغزة حيث يتم تنفيذ المذابح الجماعية وتهجير المدنيين بأموال وأسلحة أمريكية.
ألهمت هذه الديناميكية قصة كلاسيكية عن زيارة تشومسكي لطبيب الأسنان. وكما روى غور فيدال وكريستوفر هيتشنز، قال طبيب الأسنان لتشومسكي: “أسنانك بخير ولكن عليك أن تتوقف عن طحنها”. فاعترض تشومسكي قائلاً إنه لا يطحن أسنانه، لكن أكد له طبيب الأسنان أنه فعل ذلك والدليل على ذلك حقيقة أن مينا أسنانه قد تآكلت. كانت زوجة تشومسكي حاضرة وأكدت بدورها لطبيب الأسنان أن نعوم لم يكن يطحن أسنانه ليلاً أثناء نومه. لكن في وقت لاحق اكتشف الزوجان ذلك، إذ كان نعوم يطحن أسنانه عندما كانت زوجته خارج الغرفة – وذلك بينما كان يشرب قهوته الصباحية “ويقرأ صحيفة نيويورك تايمز”.
المصدر: جاكوبين