لم تكن الأزمة الخليجية حدثًا عابرًا في سلسلة الأحداث المتراكمة التي عصفت بالشرق الملتهب بُعيد انطلاق قطار الربيع العربي مطلع العام 2011، بل كانت محطة رئيسية لإعادة تصنيف الواقع الخليجي خصوصًا أنه ظهر اليوم على حقيقته، وكأن غبار التكتم على البيئة والمجتمع بدأ ينجلي أمام الأحداث المتسارعة.
بدأت فصول الأزمة الخليجية عقب الاختراق الشهير لموقع وكالة الأنباء القطرية والتي تقول السلطات هناك إنها حرّفت تصريحات أمير قطر تميم بن حمد عن علاقاته بالجيران الخليجيين ومواقفه من إيران والواقع الإقليمي، لم تمضِ أيام قليلة حتى ظهر المشهد على حقيقته الجلية، إذ يجتمع قادة السعودية والإمارات ومصر والبحرين ليعلنوا بدء الحصار على شقيقتهم العربية، إنها البداية لفصل جديد من تقسيم المقسم وتصنيف المصنف، فإما أن تكونوا في محور الحصار أو أنكم ضمن محور الإرهاب القطري وحليفه التركي.
وبعيدًا عن كل ما حدث ويحدث تبرز ملامح الأزمة على صعيد آخر وهي تركيبة المجتمع الخليجي المتناقض في الشكل والمضمون، p>فمن يعرف المجتمعات الخليجية يدرك أن الأنظمة الحاكمة استطاعت لسبعة عقود من تطويع الدين واستخدامه في بقاء السلطة عبر مؤسسات دينية حولت المجتمع إلى مجتمع يساق للدين سوقًا في إطار تيار المذهب الواحد “السلفي” والذي استفادت من وجوده السلطة لتضمن الحفاظ على تركيبة البلاد وشكل الحكم ومضمون عقول مشايخ الأنظمة التي باتت الركيزة الأساسية في تركيز الاستبداد السياسي وغياب الحريات العامة.
ليس صحيحًا أن الدين في بلادنا يفرض سطوته على السلطة لأن الدين نفسه أصبح طوع بنان السلطة وفي إرادتها واستخدامها، ولو أرادت السلطة إيقافه لأوقفته بقرار، لكنها أحيانًا تخلق له مساحات تكون مساحات “صراعية” لتستفيد منه بشكل مباشر، فالسلطة في الخليج سكتت لعقود طويلة عن الحروب المركبة بين المؤسسات الدينية الرسمية والتيارات الليبرالية وتيارات الإسلام السياسي، حتى ينقسم المجتمع انقساما جذريًا وينشغل بنفسه بعيدًا عن المطالبة بالحرية والمشاركة السياسية بأي شكل من الأشكال.
لذلك فإن الحديث المكرر من بعض النخب المثقفة أن الدين يتدخل في كل شيء هو ضرب من الخيال وتجنٍ واضح على الواقع، فالدين يتدخل عندما تسمح له السلطة أن يتدخل، والمشكلة في الأساس ليست مع الدين ورجالاته، المشكلة الرئيسية مع من سمح له أن يتدخل ويمارس دورًا ليس دوره الحقيقي.
لقد استطاعت اليوم الأنظمة العربية عمومًا والخليجية خصوصًا أن تجمع تناقضات الليبرالية والعلمانية في مركب واحد مع سلفية السلطة وصوفيتها بعد عقود من الصراع والدماء
وهنا أيضًا يبرز بوضوح واقع التيارات الليبرالية والعلمانية في دول الحصار على أنها تيارات لم تفهم المعنى الحقيقي للعلمانية والليبرالية السياسية، وهي ما زالت تدور في فلك العلمانية الاجتماعية والدعوة إلى التحرر الاجتماعي.
والفرق شاسع بينهما، فالمدرسة الليبرالية ترتكز بالمفهوم العام على السياسة والاقتصاد وفي مادته الأولى على الحريات السياسية والمشاركة الديمقراطية، فمثلًا دولة الإمارات العربية يتغنى مثقفو ومنظرو بعض شاشات وفضائيات السلطة على أنها مثال يحتذى به في ممارسة العلمانية في الشرق الأوسط، في حين أن علمانية الإمارات اجتماعية تتيح للمواطن ممارسة حريته الاجتماعية، ولكنها تمنعه وتردعه من المطالبة بالحريات السياسية وممارسة حقه الديمقراطي في النهضة والبناء.
وللمفارقة فإن نخب الليبرالية العربية التي تتغنى بالحريات الاجتماعية وتنبذ تطرف رجال الدين وسطحية تفكيرهم في علوم الحياة، قد تجد اليوم ما يجمعهما في آن واحد “نبذ الحريات السياسية والدفاع عن الممارسات الاستبدادية للسلطة” الأول بعبارات دينية مزركشة وأحاديث نبوية موضوعة وضعيفة وشعارات حرمة الخروج على ولي الأمر، والثاني من منطلق الحفاظ على المكتسبات واستقرار الأمن ومكافحة الإرهاب.
التشابه بين المؤسسات الدينية الرسمية في الخليج والتيارات العلمانية والليبرالية كبير جدًا في المضامين والمسارات.
ومثالنا على ذلك حملة الاعتقالات السعودية لمفكرين ودعاة وناشطين في المجال الاقتصادي والسياسي، تجد أن علماء السلطة ومنظري التيار الليبرالي باركوا وشجعوا وأثنوا في آن معًا على الاعتقالات في إطار الحفاظ على الاستقرار وتطهير البلاد من “رجس الإخوان” كما وصفها البعض.
نعم، لقد استطاعت اليوم الأنظمة العربية عمومًا والخليجية خصوصًا أن تجمع تناقضات الليبرالية والعلمانية في مركب واحد مع سلفية السلطة وصوفيتها بعد عقود من الصراع والدماء وإنفاق المال على إنتاج مخزون ثقافي وعلمي، لقد صنعت لهم مركبًا يسير في المحيط، ويؤسس لاستبداد سياسي أكبر من الذي نعيش، ويرسي مفهوم جر الشعوب لبيت الطاعة بعدما حاولت الإفلات من قيود الطغيان، حتى الحلم سيصبح ممنوعًا كما بات الصمت أيضًا، على الشعوب وفق سياسة السفينة الجديدة أن تحلم فقط برضى الحاكم ومباركته لبقائك خارج الزنازين.
وصدق الدكتور جمال خاشقجي في توصيفه الدقيق لواقع أمتنا عندما قال: “وكأن قدرنا ألا نعتدل ولا نتوسط إما سلفية تُكفّر أو وطنية تخون”.