إن أهم الحجج التي تم تسويقها كمبرر لإقصاء الرئيس محمد مرسي بالقوة هي وجود الانقسام والاستقطاب الحاد في مصر الناشئ عن رفض الشراكة والتوافق. ذلك ما كان يقولوه معارضو مرسي خلال عام من رئاسته.واليوم، ما من شك في أن الانقسام في ازدياد والاستقطاب في اتساع، ولا يوجد ما يؤشر على تحقيق الشراكة والتوافق بعد ان انقلب العسكر وجاء بخصوم مرسي ليحلوا محله.
هناك الكثير من الأدلة على ان الشراكة والتوافق لا نصيب لها لا في ثقافة ولا في اهتمامات الحكام الجدد، وإلالكانوا على الأقل أشركوا القوى الاسلامية التي وافقت على خطة المستقبل ممثلة بمصر القوية وحزب النور في الإجراءات اللاحقة للانقلاب ابتداء من الاعلان الدستوري وتشكيل الحكومة إلى غيرها من الاجراءات. ولكننا شاهدنا كيف كان حزب النور وحزب مصر القوية باستمرار آخر من يعلم!! وإذا ما صدر عنهم نقد أو أبدواملاحظات، فلا يسمع لهم أحد من الانقلابيين. أدركنا الآن لماذا لم نر بوادر لحصول المصالحة وتحقيق الشراكة والتوافق في مصر، وبتنا نعرف من الذي يتصلب في المواقف ويتسبب في بقاء الانقسام والاستقطاب الحاد.
ولم يكن الشباب أحسن حظا، هؤلاء الذين حضروا في 30 يونيو كأصحاب فعل ثوري كالعادة، إلا أنهم ما لبثوا أن عادوا إلى بيوتهم وقد غيبوا عن مواقع اتخاذ القرار، كالعادة. ومن وقع عليهم الاختيار من شباب الثورةفي مصر من قبل الانقلابيين لإشراكهم في العملية الانتقالية الجديدة لا يتجاوزون اصابع اليد. وهؤلاء ينحصردورهم فقط بالظهور امام العدسات وفي التصريحات الإعلامية ومقابلة الزائرين الدوليين، بينما احتفظ شيوخالانقلاب بالسيطرة الكاملة على مراكز القرار الرسمي في الرئاسة والحكومة وفي كل شيء. فمتى سيتحررشباب الربيع من حالة التناقض الكبيرة هذه، ويتوقفون عن التحول من ابطال يصنعون الثورات بعلم إلىكومبارس يؤيدون المستبدين الجدد بدون علم؟
كنت في البداية قد أعربت عن موقف مؤيد لحركة 30 يونيو، إلا أنني غيرت موقفي بعد انقلاب العسكر، ليسعلى الرئيس المنتخب مرسي فحسب بل وكذلك على كل مكتسبات وقيم ثورة 25 يناير العظيمة، وقد راعني قتل المتظاهرين وسجن واختطاف واخفاء الآلاف من المعارضين للانقلاب، وإغلاق القنوات الفضائية والقضاء علىالتعدد الإعلامي والسياسي في مصر، مما جعلها بلون واحد وخطاب واحد هو المسموح به وما عداه فعقابه الموت أو الإخفاء أو السجن أو الإغلاق.
ولأن لدى السلطات الانقلابية في مصر شيئا يخفونه ولا يريدون لأحد أن يطلع عليه، ولا أن ينقل للعالم ما ارتكب ويرتكب من فظائع وانتهاكات في مصر بعد الانقلاب، وهي انتهاكات طالت الحقوق والحريات وقيمومكتسبات ثورة يناير، فقد منعت من قبل سلطات الانقلاب من دخول مصر. وأنا الآن أجدني معنية بتحذيرالعالم من نظام استبدادي بوليسي متكامل يشيد بنيانه في مصر يوماً بعد يوم، وأدعوا جميع المصريين ومعهم أحرار العالم إلى الحفاظ على مكتسبات وقيم ثورة 25 يناير، وأهمها القيم المتعلقة بالحقوق والحريات العامة، فقد كفلت ثورة 25 يناير حرية تعبير مطلقة، وحرية تظاهر واعتصامات مطلقة، وحرية تجمع وتنظيم مطلقة. وكلهذه الحريات يتم تقويضها الآن بعد 30 يونيو.
ليس من الموضوعية ولا من الأنصاف تحميل محمد مرسي مسؤولية الفشل في تحقيق الرخاء الاقتصادي خلال عام من رئاسته التي جاءت بعد ثورة ورثت تركة هائلة من الفشل والانهيارعن النظام السابق. وما كان يجوز تسويق ذلك شعبيا كمبرر للإنقلاب عليه. لقد بات واضحا كيف علمت معظم سلطات الدولة في مواجهته.فالقضاء والجيش واجهزة الامن ومعظم الحكومة كلها كانت تعمل بشكل متناسق لاختلاق الأزمات ولاعاقة الرئيس وافشاله.
يقاس نجاح الرؤساء والحكومات بمدى احترامهم للحقوق المدنية والسياسية للمواطنين، اكثر مما يقاس بالرخاءالاقتصادي، فالرخاء الاقتصادي في معظمه يأتي نتيجة لإطلاق الحريات المدنية والسياسية، مما يمكن الشعب الحر العامل من إنجازه. وعليه فإن كان الرئيس محمد مرسي قد احترم الحقوق والحريات المدنية والسياسيةللمواطنين وكفلها لمعارضيه قبل مؤيديه اثناء رئاسته فقد نجح في الاختبار الصعب. مما يعلمه المراقبون أنالمعارضين كانوا خلال عام من حكم مرسي في بحبوحة من الحريات والحقوق تكاد تكون مطلقة مقارنة بما آل إليه حال الاخوان وشركائهم من مؤيدي محمد مرسي اليوم حيث اعتـُقل المئات من مؤيديه وقادة حزبه وقـتل العشرات وجـُرح المئات في مسيرات سلمية تحتج على الانقلاب، وتعرضت العديد من مقرات حزبه للحريق وتماغلاق عشرات القنوات الفضائية الرافضة للانقلاب، أن يحدث اليوم لمحمد مرسي ومؤيديه كل تلك الانتهاكاتبعد أن كانت الحريات مطلقة ومكفولة لمعارضيه قبل مؤيديه فإن نجاحه الكبير لا يقف عند حد، والفشل العظيملقادة المرحلة الانتقالية الجديدة المفروضين بالقوة والقهر هو الآخر بلا حدود.
من محاسن الانقلاب في مصر أنه اثبت اكذوبة أخونة الدولة، فكل الوزراء في الوزارات السيادية بمن فيهم الدفاع والداخلية والخارجية وغيرهم من الوزراء وشاغلي الوظائف العليا جدا في الدولة هم قادة الانقلاب وهم الذين عينهم مرسي في كل مفاصل الدولة. هؤلاء جميعا هم خصوم للرئيس ولحزبه ولجماعته في السلطةالقضائية والتنفيذية والحكومة والجيش. ولن نجافي الحقيقة حين نقول إن مصر اليوم تنتقل من اكذوبة اخونةالحكومة الى حقيقة عسكرة الدولة.
تنتاب المشاعر السلبية كثيرين من الاخوان المسلمين وشركائهم ممن صوتوا لصالح د. محمد مرسي، فهميقولون عن الانقلابيين انهم لا يريدون ان يقصوننا من رئاسة الدولة فحسب، بل من الحياة السياسية بأسرهاحاضراً ومستقبلاً. يقول لي أنصار مرسي: “لم نعتد على مسيرات المعارضة ابدا، لم نعتقل قياديا واحدا، لمنغلق الصحف، وبقيت القنوات الفضائية تمارس نشاطها بحرية مطلقة. انهم يباركون قلتنا في الشوراع وسجنواختطاف المئات واعتقال القيادات واغلاق قنواتنا الفضائية وصحفنا مع اننا جزء اصيل من هذا الشعب الذيمنحنا معظم اصواته. فأين هي الشراكة التي تطالبين بها؟ إن هؤلاء الانقلابيين إقصائيون وليس بإمكانك انتضمني لنا شيئاً، هم لا يريدوننا، انهم يقصوننا من الحقوق الأساسية، ويستهدفون وجودنا الانساني، كل ذلك في ظل تآمر وصمت ومباركة اقليمية ودولية.”
لقد لمست ذلك الاستياء بنفسي. فحين أنصحهم بامتصاص الضربة والعودة الى صناديق الاقتراع ، وأشير عليهم بأن يستعدوا لجولة اخرى، تكون اغلب الردود استفهامات ساخرة ومحبطة. يقولون: “وما الذي سيضمن لنا انهم لن ينقلبوا مرة أخرى كما انقلبوا على مجلس الشعب الذي انتخبناه، وبعده على مجلس الشورى والرئيس والدستور؟ ألم نذهب خمس مرات الى صناديق الاقتراع خلال عامين وفي كل مرة نعود الى البيت، وكأن شيئاً لم يكن؟”
مشاعر القهر لا تتوقف عند حد. وقد بت اخشى أن تتعزز مشاعر الكفر بالديمقراطية في مصر اكثر مما تترسخديمقراطيتها الناشئة المغدور بها.
بات لزاماً على كل شخص يقول إنه يدافع عن قيم الديمقراطية وحق الناس فى اختيار حكامهم أن يعلن بوضوحرفضه للانقلاب وللممارسات القمعية ومصادرة الحريات وانتهاكات أبسط حقوق الانسان في مصر.
هناك ثقة راسخة لدى جميع شعوب الربيع العربي التي ترقب المشهد وتبدي مخاوفها الاكيدة من تأثير تداعياته على كل اقطار الربيع وعلى مستقبل الربيع ان البيان العسكري للجيش هو صاحب الارادة الغالبة لا بيان لجنةالانتخابات لاعلان اسماء الفائزين عقب اكمال فرز الاصوات.
لقد نسفت تداعيات الانقلاب العسكري في مصر قواعد ديمقراطيتها الناشئة مما يقوض الثقة بالتداول السلمي للسلطة وصناديق الاقتراع، كما تهدد بنسف السلم الاجتماعي والاستقرار في مصر، وتتجه بها نحومجهول بالغ الخطورة إن لم يتم وقف تلك التداعيات وعمل المعالجات اللازمة فورا.
من مخاطر هذا الانقلاب فقدان المجتمع لإيمانه بالعملية الديمقراطية الأمر الذي سيعطى الجماعات الارهابيةفرصة الانتعاش مره أخرى. ينبغي عدم السماح بانتشار الشعور بالاحباط من الديمقراطية، فمآلات ذلك مخيفةللغاية.
كما أن اضعاف جماعات الاسلام السياسي يعني بالضرورة تقوية جماعات العنف، ولا أقول هذا من باب التحريض، بل هكذا هي المعادلة للأسف.
لكن غير أتباع جماعات القاعدة الإخوان المسلمين بقبولهم بالعملية الديمقراطية. فهؤلاء يرون الحل في صناديق الذخيرة لا في صناديق الاقتراع. الانقلابيون يعززون الارهابيين ويقدمون لهم خدمة جليلة بقدر ما يقطعونالطريق امام التغيير السلمي. لكن الحشود السلمية في رابعة العدوية وكافة الميادين ستسقط الاستبدادوالارهاب في آن. كونوا على ثقة من ذلك.
يحسب للإخوان المسلمين وشركائهم أنهم وبرغم ماتعرضوا له من قهر وقتل وقمع وسجن وإقصاء إلا أنهمحافظوا على سلمية احتجاجاتهم وحفظوا مصر من الحرب الأهلية والاقتتال الداخلي. لن نكون جديريم بالاحترام إن لم نعترف لهم بذلك.
مصر في حاجة ماسة لتوافق سياسي وشراكة جادة تزيل حالة الاستقطاب وتضع حدا للانقسام الحاد، لكنأي تسوية تقوم على القهر والغلبة والإكراه لن تكون ذات جدوى ولن يكتب لها النجاح. الرئيس محمد مرسي ومؤيدوه لديهم ورقة الشرعية الدستورية والديمقراطية المغدور بها من قبل الانقلابيين وليسوا مضطرين لأن يمنحوا الشرعية للانقلاب دون ثمن عادل وكاف ومنصف.
اي مبادرة للحل في مصر يجب أن تكفل الشراكة والتوافق الواسعين على اساس من الرضى والقناعة والحوار،وبحيث تضيف الى الفائزين بالانتخابات من لم يحالفهم الحظ ومن حازوا على اصوات اقل. لكن أي حل لا يعزز ثقة الجمهور بصناديق الاقتراع ولا يخفف مشاعر القهر والغلبة لدى مناصري محمد مرسي بسببالانقلاب وما رافقه من قمع وقتل واعتقال وإخفاء قسري فلن يكتب لها النجاح.
مترجم من الجارديان