ارتكزت مسيرة الحركات الإسلامية على ركائز لا يمكننا أن نتخيل تجديدًا حقيقًا في هذه الحركات من دونها، فنحن نسمع عن صراع أجيال، عن رغبة في تحديث الخطاب، عن أزمات سياسية، عن أزمة قدرات تنظيمية وإدارية، لكن الأمر في رأيي أكبر من هذا كله، وأنا هنا لا أكرر ما يقال عن انفصال الخطاب بين القيادة والصف بل عن القيادة ذاتها، أتحدث عن القيادة التي لا يمكنها أن تكون قيادة دون هذا الإبحار والتفتيش في بحور المعرفة عن إكسير الحياة الذي يبدي ويعيد تلك الأحلام فيجعل لذلك التاريخ ولذلك الجدل معنى أو حتى مسار يمكن أن يبنى عليه.
يمكن أن نتخيل حالة من الرفض للماضي والانقطاع عنه، لاعتبارات عدة قد نسميها عجزًا فكريًا أو أزمة تنظيمية أو حتى أزمة عقل، لكن لا أظن أن الأمر لا يعدو كونه رفضًا للتغيير وعدم قدرة على التكيف مع هذا الحجم الهائل من التغيرات التي يشهدها العالم سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا والتي هي في نهاية المطاف تعبير عن شيء واحد هو تبدل النموذج المعرفي.
افترض التيار الإصلاحي الإسلامي أن سقوط الخلافة بداية لحقبة جديدة، وكان هناك جدلاً كبيرًا بشأن مسألة الخلافة، وكثرت الافتراضات والنظريات، لكن الخلافة ظلت استراتيجية كبرى للإسلام السياسي خاصة في نماذجه الأولى
تفكيك مرتكزات الخطاب أمر صعب، لكن قد نلجأ هنا لتلمس هذه المرتكزات في عناوين: سقوط الخلافة العثمانية، نموذج الفرد والأسرة إلى الخلافة، الدين والسياسية وإمكانية الدولة الإسلامية، التغيير عبر السلطة الحاكمة ومفهوم الديمقراطية ، كل هذه القضايا التي سنناقشها في المقالات ستوصلنا لحقيقة أن الحركات الإسلامية بحاجة لنموذج معرفي جديد حتى يكتب لها الاستمرار في عالم يشهد تحولاَ عظيمًا في كل شيء. ليس بمجرد النقد والدعوة لاتباع النظم القائمة، وليس عن طريق تأكيد مفاهيم الحركات الإسلامية ومحاولة التوفيق بينها وبين المفاهيم السائدة، بل إن الأمر يتعدى كل ذلك بتقديم نموذج في هذه المرحلة التاريخية التي تشهد تبدلًا في كثير من المفاهيم، نموذج يمكن أن يخضع لنظرية المعرفة العلمية فيكتب له النجاح، في هذه السلسة سنبدأ عن المرتكز الأول وهو سقوط الخلافة.
افترض التيار الإصلاحي الإسلامي أن سقوط الخلافة بداية لحقبة جديدة، وكان هناك جدلاً كبيرًا بشأن مسألة الخلافة، وكثرت الافتراضات والنظريات، لكن الخلافة ظلت استراتيجية كبرى للإسلام السياسي خاصة في نماذجه الأولى، والفرضية التاريخية في ذلك تقول إن نهاية الدولة العثمانية شهدت موجه عنيفة شاركت فيها قوى خارجية وداخلية للانقضاض على ما سمي بالرجل المريض. وكانت حركة تركيا الفتاة تتويجًا لهذا الانقضاض من الداخل، وكان الأمر ظاهرًا في تركيا بالذات بإلغاء كل مكونات الثقافة الإسلامية من استبدال الحروف العربية باللاتينية وتبديل الأذان باللغة التركية والتحيز القومي لمكونات الدولة العثمانية والصراعات التي انتشرت بين الطورانية والعثمانية والعربية والكردية والأرمن والأشوريين. لكن فهم سقوط الخلافة كمرحلة حاسمة أخذ طريقين: سقوط الخلافة العثمانية في حد ذاتها، وفهم آخر لغياب دولة الخلافة الراشدة، ورغم أن الفهم الأول استمر لفترات طويلة نظرًا لظروف السقوط المرعبة والتي كانت أمرًا مدويًا مربكًا لكثيرين، فإن الفهم الثاني هو السائد ويتمثل في أمرين اثنين: العدل في الملك والوحدة الإسلامية.
لكن السؤال الذي طرحه الأمير أرسلان حدد المشكلة بوضوح: لماذا تخلف المسلمون وتقدم غيرهم؟ هذا التخلف أُرجع لغياب الخلافة الراشدة وللحياد عن الدين الصحيح الشامل الذي يشمل كل القضايا الحياتية بمافيها العلم والتقنية، إلخ، هذا يقتضي أمرين أن سقوط الخلافة العثمانية كان بسبب البعد عن العدالة الاجتماعية والدين الصحيح، ويقتضي أن تاريخ الأمة قد انحرف منذ مقتل سيدنا علي رضي الله عنه كما افترض مالك بن نبي رحمه الله. البعض يصف التاريخ الإسلامي على أنه موجات من الحروب والاقتتال، لكن سقوط الخلافة شكل مخيلة حقيقية تحلم بعود الخلافة الراشدة ومعها عودة التشريعات التي استبدلت في فترة سقوط الخلافة بالقوانين المدنية الأوروبية كما كتب عن ذلك السنهوري في مجلداته .
سقوط الأمم ونهاية الحضارات ترتبط بقدرة مؤسسات الدولة على التوافق مع المتغيرات العلمية والتقنية التي تحيط بها، هذا التوافق يرتبط بطبيعة مؤسسات تلك الحضارة
في الجانب المقابل هناك من يرى أن هذا الكلام الذي يصر على الخلافة والقيم الاجتماعية نوع من الرجعية والتخلف ونشأة مدرسة من الكتاب والمفكرين تدعو للحاق بالغرب بكل ما فيه من علوم ونظريات اجتماعية وتقنية وقيم وتنتاقضات، لأنها طريق مجربة وقد ظهر جليًا تفوقها على الخلافة العثمانية وأن هذا هو مقتضي التطور الاجتماعي، الطرف الثالث من يرى بالجمع بين الحسنيين بين الحضارة الإسلامية بقيمها وإيمانها وعلومها الروحانية والحضارة الغربية بعلومها الكونية وطبع الوجود الذي تريد الانسجام معه تمامًا كما بين سعيد النورسي .
لكن فلسفة التاريخ كشفت عن أمر آخر ربما لم يكن واضحًا في ذهن هؤلاء المصلحين، فإن سقوط الأمم يبدو – من خلال الكم الهائل من المعرفة المتوفرة – له نسق آخر قد يحل الإشكال بين المعرفة والسياسة، بين العوامل الخارجية والعوامل الداخلية، وقد يكون هذا داعيًا مهمًا للتيارات الإسلامية لمراجعة مرتكزاتها حتى تتسق بهذه المعرفة ولا تتأخر عنها. هذا الأمر بالطبع لا يلغي أهمية الشريعة ولا أهمية الدولة العثمانية ولا أهمية الدين، لا شيء من ذلك، بل إن الأمر يتعلق بفهم ما حدث للدولة العثمانية، ومن ثم تحديث تلك المعرفة التي صارت كنموذج سائد ينطلق منه الجميع دون مراجعة.
سقوط الأمم ونهاية الحضارات ترتبط بقدرة مؤسسات الدولة على التوافق مع المتغيرات العلمية والتقنية التي تحيط بها، هذا التوافق يرتبط بطبيعة مؤسسات تلك الحضارة، وغياب تلك المؤسسات القادرة على التكيف هو ما يجعل الحضارة في حالة من الركود والغفلة عن المستقبل ومن ثم تصبح أكثر عرضة للصدمات، كتب دارون اكيموجلو وجامس روبنسون كتابهم الشهير “لماذا تسقط الأمم؟” والذي عد ثورة في هذا المجال، وبين فيه التخلف المؤسسي الذي عاشته الخلافة العثمانية.
قبل أن نسهب في توضيح ذلك دعنا نسارع بالإجابة عن سؤال: كيف يمكن لهذه النظرة أن تحل هذا الإشكال؟ نعم هذه النظرة تبدو كإجابة صحيحة عن سؤال الأمير شكيب، فالحديث عن أن السبب في التخلف هو البعد عن الدين أو عدم فهم الإسلام أمر مهم لكنه لا يفسر سقوط الخلافة العثمانية، فلعل الإمام محمد عبده والأستاذ رشيد رضا كانا يعرفان أن الخلافة العثمانية لم تكن بالشكل النموذجي الذي يريدانه للخلافة. وهذا رأي بعض رجال الخلافة كما بين الكواكبي في نهاية كتابه “أم القرى”، فالخلافة العثمانية كانت نظامًا سياسيًا يعبر عن وحدة الأمة، نعم، لكنها لم تكن النموذج الصالح الذي يسعى له الدعاة، هذا لم يكن محل خلاف، لكن الذي عليه خلاف هو سبب سقوطها، لذا فما يقال عن الخلافة العثمانية يصح أن يقال عن الخلافة الأموية والعباسية والدولة السلجوقية والمملوكية فهذا أمر مضطرد. يقول ابن خلدون في مقدمته “فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان دينًا ثم انقلب عصبية وسيفًا وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى بني الرشيد وبعض ولده ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكًا بحتًا وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها…” 88
فغياب معنى الخلافة قديم، لذا يمكن اعتبار الحديث عن معاني الخلافة وليس عن رسمها، فإن رسمها لا يختلف كثيرًا عن الإمبراطوريات التي تحكم الكثير من الوحدات السياسية والدول والتي تحتاج إلى إدارة لامركزية وتفويض واسع وميزانيات أضخم وخطط استراتيجية أكبر، فالحديث المقصود عن معاني الخلافة والدولة العثمانية هي آخر خلافة إسلامية لكنها لم تخرج عن نسق غيرها الذي رأه ابن خلدون خارجًا عن معنى الرشد من بعد بدايات الدولة العباسية (هذا الأمر غير متفق عليه وهو تحديد المرحلة التي حصل فيها الانحدار)، فالبحث عن أسباب سقوطها (الدولة العثمانية ) بكونه خروجًا عن معاني الرشد في الخلافة قول فيه الكثير من العموم.
ما حدث في الدولة العثمانية كان انتقالًا من نظام سياسي لآخر، تمامًا كما تحول نظام الحكم من الخلافة إلى النظام الملكي
الفهم الآخر لذلك أن الخلافة رغم كل ما حدث بها من تدهور وانحدار في كل العصور لم يحدث أن أعلن أحد القول بانتهاء العمل بالخلافة كنظام سياسي وكذلك تعطيل العمل بالشريعة أو وجود تشريع مخالف للدين الإسلامي؟ ولو تجاوزنا أن تعطيل الشريعة لم يحدث إلا في الخلافة العثمانية – رغم أن ذلك غير صحيح والفصل الذي عقده الجويني في كتابه البرهان عن إمكانية ذهاب الإسلام وانتهاء آثاره هو سؤال واقعي طرحه الأصوليون لمعرفة في القرن الرابع الهجري وما كتاب الجويني الغياثى إلا نتاج لذلك الاحتمال -، فإن ما حدث في الدولة العثمانية كان انتقالًا من نظام سياسي لآخر، تمامًا كما تحول نظام الحكم من الخلافة إلى النظام الملكي، والفرق بينهما في المؤسسات التابعة لها (الصلاة والحسبة والسكة، إلخ). يقول ابن خلدون “ولما تبين أن الخلافة نيابة عن صاحب الشرع فصاحب الشرع متصرف في الأمرين، أما في الدين فبمقتضى الأحكام الشرعية الذي هو مأمور بتبليغها، وحمل الناس عليها، وأما سياسة الدنيا فبمقتضى رعايته لمصالحهم في العمران البشري”، ثم يبين أن هذا الانتقال أمر قدرى وليس أمرًا شرعيًا، يقول موضحًا الفرق بين الاثنين:
“اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية وليس وقوعه منها اختيارًا إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل، وأن الشرائع والديانات وكل أمر يحل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية”، ثم قال “ثم وجدنا الشارع قد ذمّ العصبية وندب إلى إطراحها وتركها فقال “إنّ الله أذهب عنكم عيبة (الفخر) الجاهلية وفخرها بآبائها …”، ثمّ أجاب عن هذا التعارض بقوله “وليس مراده – أي الشارع – فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عنها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعه”. ص 138
الخلافة كنظام حكم يمثل السلطة الحاكمة هو مما يندرج تحت الملك، أما حراسته للدين هو المطلوب وهذا هو الأمر الشرعي، المتمثل في الإمامة وضرورتها لحراسة الدين
وقد روى ابن سعد في طبقاته سؤال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه لسلمان “أملك أنا أم خليفة؟ فقال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهمًا أو أقل أو أكثر ثم وضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة فاستعبر عمر، وخرّج أيضًا عن عمر قال: والله ما أدري أخليفة أنا أم ملك؟ فإن كنت ملكًا فهذا أمر عظيم، قال قائل يا أمير المؤمنين إن بينهما فرقًا قال: ما هو؟ قال الخليفة لا يأخد إلا حقًا ولا يضعه إلا في حق، وأنت بحمد الله كذلك والملك يعسف الناس فيأحذ من هذا ويعطي هذا فسكت عمر، وهناك روايات كثيرة تدور حول هذا المعنى وفي القرآن الكريم التدليل على السلوك والممارسات كقرين لمراسم والسمات (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون).
هذا يعني أن هذا الانتقال من نظام لآخر أمر طبيعي لا يتعلق بالشرع، فالشرع يهتم بالقيم والممارسات هي التي تجعلنا نقترب من هذه القيم أو نبتعد وتبقي دلالات الأسماء دلالات لفظية للتمييز وليس الأمر الشرعي في التراتيب الإدارية والمراسم السلطانية، وكتب ابن القيم طافحة بالتمييز بين القضاء القدري والشرعي سواء في تهذيب مدارج السالكين أو في طريق الهجرتين أو شفاء العليل في منازل القدر والتنزيل فقوله تعالى مثلًا (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ….) هو قضاء قدري أما قوله (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) أمر شرعي. وهكذا فالخلافة كنظام حكم يمثل السلطة الحاكمة هو مما يندرج تحت الملك، أما حراسته للدين هو المطلوب وهذا هو الأمر الشرعي، المتمثل في الإمامة وضرورتها لحراسة الدين. والفرق الأبرز هو في آلية انتقال السلطة وهو موضع من المواضع القدرية كذلك، فليس في الأمر نص شرعي يحرم الملكية وإن كان (النظر والاختيار ) أقرب للشرع وهكذا سمي عمر بن عبد العزيز بالخليفة، وعلى ما تقدم فالانتقال من النظام الإمبراطوري الملكي إلى النظام جمهوري هو من الأمور الطبيعية القدرية التي حدثت في القرن العشرين لكن محاولة فصل الدين عن الدولة واستبدال الشرائع أمر شرعي وحدث مهم لكنه لا يفسر سقوط الدولة العثمانية.. لماذا؟
لقد قرأنا في كتاب “أم القرى” الكثير من المخالفات الشرعية للدولة العثمانية، وانتشار الجهل والخرافة، كما أن سعيد النورسي في كتبه شرح الكثير من تلك المخالفات، بل إن الإمام محمد عبده كان يرى أن سقوط الخلافة ربما يكون رحمة تبين للمسلمين أنهم ليسوا على شيء. بقي أمر واحد هو التشريعات والقوانين، فهذا الأمر هو الذي ساد بعد كتب سيد قطب من جعل مخالفة التشريع مما يرادف الدولة الإسلامية، لذا كان في ظلاله يبين معنى الحاكمية والتشريعات التي يجب أن تتطابق ليس مع الشرع فقط بل مع السنن الكونية وطبع الوجود حتى يستقيم الأمر، ولا تغتال الأمة الحوادث والمفاجآت.
هذه المخالفات لا يمكن أن تفسر سقوط الخلافة، فالضعف الذي لحق بالخلافة اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا لا يمكن أن يفسر بأن التشريعات المخالفة للشرع الحنيف قد جعلتهم يخسرون الحروب مثلًا، لا يوجد رابط بين الاثنين، أي أننا نعم نريد الشريعة لكن لا يمكن اعتبار الشريعة آله تفسيرية، فالقرآن عندما وصف سقوط الأمم تحدث عن الظلم والاستبداد والفاحشة والتظالم وهي أمور محرمة تعجل بسقوط الأمم لكن الأمور القدرية التي تتبع ذلك يمكن أن تأخذ مسارين، مسار غيبي يرتبط بإرادة الله وهذا ما نؤمن به ونمره كما جاء، ومسار آخر هو الذي أراد القرآن أن نتتبعه بالسير والبحث في الأرض والتاريخ وعبّر عن ذلك بالحديث عن السمع تارة في سياق السرد التاريخي والحديث عن النظر تارة أخرى في سياق البحث الميداني. فلم يكتف القرآن بكلماته الخالدة كمفسر لكل شيء (وهذا ما يقال عن القضايا العلمية)، لكن القرآن قد بين مجموعة سنن هي التي ينبغي أن نعول عليها في فهم التاريخ ويظل جمعها في سياق واحد هو جهد بشري.
نعود للخلافة العثمانية وسقوطها، فإن عدم قدرة مؤسساتها على فهم مجريات الأحداث ومتابعة التطور الكبير الذي حدث منذ القرن الخامس عشر جعل مؤسسات الدولة تتخلف عن غيرها، وجعلها تتحرك بمؤسسات مترهلة لم تستطع مقاومة التغيرات الكبرى التي شهدها العالم، ففي الفترة التي شهد العالم فيها ثورة صناعية كان العالم الإسلامي يعاني من ركود اقتصادي لا يحسن استغلال الموارد الطبيعية بل يستهلكها دون عائد إنتاجي (استخلاصي Extractive). فبعد فتح القسطنطنية عام 1453 والتوسع الذي تبع ذلك في الوطن العربي والبلقان خاصة بعد وفاة السلطان سليم الأول عام 1556 كان الأمر يصعب شيئًا فشيئا على الإمبراطورية، فصعب أمر تحصيل الضرائب ولم يسمح في المقابل للقطاع الخاص بالعمل بالطريقة التي يمكنها أن تساهم في ازدهار الاقتصاد، ولم تبن المؤسسات على المشاركة الواسعة من المجتمع المدني والقطاع الخاص.
بل كان الحرص على استمرار الحكم وتحصيل الضرائب من أجل الحروب، ومع الإصلاحات التي بدأت عام 1840 لم تقابل بالحماسة التي يقتضيها التطور الذي يشهده العالم، فالحاشية التي اعتادت علي العطايا والتي كانت تستفيد من قربها من السلطات الحاكمة كانت تقاوم هذه الإصلاحات مما منع مؤسسات الدولة من التطوير، فالتطوير يحتاج لمشاركة أطياف واسعة ويحتاج إلى فتح مجال للتجارة الخارجية والصناعة. كل ذلك يحدث عبر تشكيل مؤسسات تخرج الحاكم من الحكم المطلق والاستبداد وهذا استمر في الوقت الذي كانت التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يشكل المؤسسات الاقتصادية والسياسية والجتماعية والجامعات وسكك الحديد والخدمات المدنية والمستشفيات والمجتمعات العلمية والتطور القضائي في دول أوروبا، كل ذلك حدث في غفلة أو تلكؤ لأسباب سياسية أحاطت بالخلافة. (90)
الضعف المؤسسي يجمع بين الحرص على متابعة التطور العالمي والقيم المجتمعية الشرعية الدينية، فالمؤسسات هي تلك الهيئات الراسخة التي تتجاوز الأفراد في سلوكها
كل هذا لم يكن فقط في عدم اللحاق بالغرب ولا بالتخلي عن تعاليم الإسلام بل بعدم قدرة المصلحين على تأسيس مؤسسات الدولة أو عدم السماح لهم بالمشاركة، يقول المستشار طارق البشري:
“وفي نهاية الدولة العثمانية كانت الإصلاحات فيما يعرف بالتنظيمات الخيرية ومحاولات الدولة المركزية بناء مؤسسات الدولة كما فعل محمد علي في مصر إلا أن التيارات الفكرية الإصلاحية كانت في معزل عن هذه الإصلاحات وكانت قضية انهيار الدولة هي الشغل الشاغل لرجالات الدولة “، لقد ضمت روسيا تحت زعامة كاترين الثانية أراض وشعوبًا من الدولة العثمانية والفارسية منذ قرون تقريبًا, كما شهدت مصر مجيء نابليون ومحاولته استعمارها, وظهر إحساس بالخطر الداهم كان وراء إطلاق حركة إصلاح مؤسسي بقيادة رجال الدولة وهم – كما نعرف – يمتطون آلة الدولة التي تعمل باستمرار دون انتظار بروز أفكار ومفكرين…”.
هذا الضعف المؤسسي يجمع بين الحرص على متابعة التطور العالمي والقيم المجتمعية الشرعية الدينية فالمؤسسات هي تلك الهيئات الراسخة التي تتجاوز الأفراد في سلوكها، ومن ثم يجب أن ترتبط بقيم مؤسسية وثقافة منظمة لا تخضع لأهواء الناس ولا لسيطرة الحكام والأهم من ذلك أنها تخضع في تطويرها لرؤى مؤسساتية وأهداف خاصة بهذه المؤسسات، هذا التحليل يجمع بين الأمرين وكان من الممكن تكوين هذه المؤسسات التي أخذت من أوروبا الوقت الطويل جدًا وهو سر في ثبات هذه الدول ومن ثم قدرتها على التنمية ومواكبة التطور.
التفسير المرتبط بالثقافة أو الجهل أو بالعوامل الجغرافية “لسقوط الأمم” قد يساعد في فهم الأوضاع التي يعيشها العالم (تقدم بعض الدول وتخلف الأخرى) لكن تفسير هذا التقدم الذي يبدأ من إنجلترا في القرن الثامن عشر ويمتد لأمريكا اللاتينية وفقر إفريقيا والشرق الأوسط والفارق بين شرق أوروبا وغرب أوروبا، والنمو السريع الذي حدث في أوربا يمكن تفسيره أكثر عبر نظرية المؤسسات. هذا الأمر يجعلنا نفكر في مسألة التخلف عبر هذا النموذج التحليلي الذي يرتكز على أن تخلف المنطقة يمكن فهمه بطريقة تتلعق ببناء الدولة أكثر من كونها بناء النظام السياسي (علماني أو إسلامي).
فلو وجدت مؤسسات حقيقية نراها كأشجار القيقب في الغرب عمرها يحسب بالمئات، فمنارات كالزيتونة والأزهر عرفها العالم منذ آلاف السنين لكن ما إن يأتي القرن العاشر للميلاد حتى تقلب صفحة التاريخ لتكون جامعة كجامعة بولوينا 1088 وجامعة باريس 1160، بل يبدو الأمر متعلق حتى بسكك الحديد وشبكات المجاري هي الأعرق كمؤسسات قائمة. وهكذا تبدو نشأة هذه المؤسسات ارتبطت بتعميق نشأة الدولة وتعميق مؤسساتها عبر جهاز ضرائبي قوي شمل علاقات بينية قوية بين الدولة والمجتمع تمامًا كما شرح تشارلز تيلي بتفصيل (91) ، كل هذا الأمر قبل الدندنة بشأن النظام السياسي والحرية والديمقراطية.
ما معنى أن يقول الإخوان إن هناك دولة عميقة؟ معناه أن هناك مؤسسات ارتبطت بنظام سياسي محدد وليس لها القدرة على العمل في إطار المصلحة الوطنية، ولو كانت الحركات الإسلامية تعي هذا المعني لما اكتشفت بعد قرن من الزمن أنها لا تملك من الأمر شيئًا حتى لوحكمت ووصلت للسلطة
غياب موسسات الدولة هذا يمكن أن يفسر قضايا كثيرة: انتشار العنف في المنطقة (92)، انتشار الصراع الأيديولوجي قبل بناء مؤسسات الدولة (93)، انخفاض مؤشرات التنمية في أغلب التقارير للمنظمات الدولية، لقد كتب فرانسيس فوكوياما كتابًا مهمًا عن النظام السياسي وعرض عدة نماذج للتفريق بين مؤسسات الدولة والنظام السياسي وذكر بسمارك وكيف قدم الدولة على النظام وتخلف الصين عن الركب وعدم تحديث مؤسساتها تجربة قريبة من التجربة العثمانية الإسلامية، وكذلك يمكن تتبع الكثير من المؤسسات في الولايات المتحدة كالخدمات المدنية التي ظلت رهينة لكثير من العائلات والحزب الجمهوري قبل أن تتحول لمؤسسات مستقلة.
وهكذا يمكننا فهم الداء الذي استمر في غياب مؤسسات تعبر عن شيئين، عن تخلف قيمي ومادي نتج عن استبداد الحاكم وعدم رغبته في مشاركة المجتمع وليس أدل على ذلك من استمرار التخلف حتى بعد محاولات أتاتورك وغيره التخلص من ثقافة الأمة واللحاق بالغرب فقد تحول الأمر إلى دول شمولية وحكم الجنرالات، واستمر الحال حتى بعد الربيع العربي. فالاحتفاء بالديمقراطية على حساب فهم مؤسسات لدولة (النظام السياسي، الإدارة الحكومية، الشرعية) كان سببًا في تخلف وسقوط الكثير من الدول، ولا يزال الفارق التنموي الذي نراه بين دول كإيطاليا واليونان – والتي مارست الديمقراطية في القرن العشرين قبل حتى بريطانيا – وكوريا الشمالية من جانب ودول آخرى كبريطانيا والدنمارك كوريا الجنوبية يبين أن هذا الخلل المؤسسي الذي ينشأ من توسع رقعة الدولة دون أن يصحبها مشاركة سياسية واقتصادية من المجتمع لهو تفسير منطقي لما حدث للدولة العثمانية.
ويبين هذا أن الحركات الإصلاحية التي قامت لم تدرك هذا الخلل وطفقت إما أن تنظر لمخلص خارجي تمثل في الاستعمار البريطاني والفرنسي (الحركة القومية) أو الحركات الإسلامية التي هرعت للتاريخ ومفهوم الخلافة في الوقت الذي كانت مؤسسات الدولة تتحرك بعيدًا وتبني مؤسساتها بما يثبت شرعية أسر وجنرالات في الحكم، وهذا ما ظهر جليًا بعد الربيع العربي، فقد استمر الاحتفاء بالديمقراطية كما رأينا في تطور الخطاب الإسلامي دون أن يكون هناك نموذجًا واضحًا يميز بين مكونات الدولة (المؤسسات الحكومية) والعوامل الخارجية (المجتمع الدولي) والحراك المجتمعي (رأس المال الاجتماعي) والعلاقات الاقتصادية البينية التي يمكن من خلالها فهم ما يحدث في وطننا العربي بدل الحديث المتكرر عن ديمقراطية الحركات الإسلامية في واقع يحتاج لنموذج مخالف فيه نسق آخر قد لا يختلف عن قيم الديمقراطية كالتعددية والسلمية والحوار لكن الممارسة الفعلية تحتاج لنماذج أكثر دقة ومعرفة.
وليس أدل على ذلك أيضًا ما حدث في مصر بعد احتفاء الإخوان المتزايد بالديمقراطية، ما معنى أن يقول الإخوان إن هناك دولة عميقة؟ معناه أن هناك مؤسسات ارتبطت بنظام سياسي محدد وليس لها القدرة على العمل في إطار المصلحة الوطنية، ولو كانت الحركات الإسلامية تعي هذا المعني لما اكتشفت بعد قرن من الزمن أنها لا تملك من الأمر شيئًا حتى لوحكمت ووصلت للسلطة لأنها ببساطة كانت تسعى لنظام سياسي لا يتحقق (طبيعةً) إلا بمؤسسات تعبر عن كيان مجتمعي وسياسي واقتصادي يمثل القيم العليا للوطن.
هذه الركيزة الأولى التي أردنا أن نبين إمكانية النظر إليها من زاوية أخرى في الخطاب الإسلامي.