العديد من الدول النامية، وفي مقدمتها البلدان العربية، تقع في فخ الديون الخارجية التي تستخدمها الحكومات لتسكين أزماتها الاقتصادية، وقد تتجاوز هذه الديون في بعض الأحيان حجم اقتصاداتها، لتصبح عبأ يكبح نمو تلك الدول ويقودها نحو التعثر، إذ لا تستغل هذه الدول الأموال الأجنبية الاستغلال الأمثل، وغالبًا ما تتجه نحو تمويل احتياجاتها الاستهلاكية عبر الاقتراض، وفي حال تخصيص هامش للاستثمار يتم تسخيره لمشاريع تتميز بانخفاض مردودها أو مشروعات طويلة الأجل، ما يقلل من فرص خلق فوائض مالية جديدة ورفع كفاءة الاقتصاد ونموه، فضلًا عن تدني إمكانات الادخار المحلي.
هذه واحدة من المشاكل التي تعاني منها اقتصادات بلداننا العربية، وهو ما نحاول رصده في ملف “اقتصادنا” الذي يلخص العناوين العريضة لاقتصادات الدول العربية، والمتمثلة بثراء الإمكانيات وضعف الإنتاج، والفجوة الطبقية، والديون الخارجية، وغلاء المعيشة، وأخيرًا الفساد الحكومي. نتتبع في كل تقرير أسواق البلدان العربية وانعكاسات السياسات الحكومية على وضعها الاقتصادي والمعيشي.
“ترقيع الديون”.. خطورة الاقتراض الخارجي
تلجأ البلدان عادةً إلى الاقتراض الخارجي للوصول إلى الأموال التي قد لا تكون متاحة لها محليًا، خاصة بالنسبة للبلدان النامية التي تفتقر إلى الموارد المالية اللازمة، فضلًا عن أن اقتراض الأموال من الكيانات الأجنبية أيضًا يسهم في تنويع مصادر تمويل الدولة، ما يقلل من اعتمادها على مصادر رأس المال المحلية التي تعد مصدرًا أساسيًا لتمويل القطاع الخاص.
ويؤدي استغلال القروض الخارجية استغلالًا اقتصاديًا جيدًا، إلى زيادة الناتج القومي وارتفاع مستويات الدخل، وبالتالي زيادة معدلات الادخار الداعمة لارتفاع حجم الاستثمارات، وذلك نتيجة لسد النقص في الموارد المالية اللازمة لتمويل المشاريع الاستثمارية والخطط الإستراتيجية القادرة على خلق عائدات تسهم في سداد تلك القروض دون خلق أعباء على الدولة، فضلًا عن كونها تحقق نموًا اقتصاديًا حقيقيًا.
تكمن الخطورة الكبرى أن تعتمد الدول النامية على الاستدانة الخارجية في تمويل التزاماتها بشكل مستمر، ليصل الأمر إلى حد تمويل الاقتراض المستحق عبر اقتراض جديد فيما يسمى بـ”ترقيع الديون” وليس عبر إيرادات الدولة
مع ذلك، يسهم الإفراط في الاقتراض الخارجي بهدف الاستهلاك، في زيادة أعباء موازنة الدولة، حيث يتم توجيه أغلب إيرادات الموازنة لسد الدين على حساب مخصصات الصحة والتعليم والدعم، الأمر الذي يكبل يد الدولة في تقديم اللازم من قبلها لتوفير الحماية الاجتماعية اللازمة، لينعكس ذلك سلبًا على معدلات الفقر والفئات المهمشة.
كما أن ارتفاع خدمة الديون الخارجية يشكل عبئًا على النقد الأجنبي المتاح لتمويل الواردات الاستثمارية أو السلع الوسيطة التي تستخدم في الصناعة، ما قد ينعكس سلبًا على القطاع الصناعي والصادرات التي تعتبر المصدر الأساسي للدخل في الدول النامية.
عدا عن أن الديون الخارجية تتسبب في زيادة نسب التضخم وتقليل القيم الحقيقية للعملة الوطنية، ما يشجع رؤوس الأموال المحلية على الهجرة إلى الخارج، كما تتسبب في زيادة معدلات البطالة وتسريح العمالة التي ينتج عنها ارتفاع معدلات الطلاق والجريمة وغيرها من المشكلات الاجتماعية الخطيرة.
وتكمن الخطورة الكبرى للديون الخارجية أن تعتمد الدول النامية على الاستدانة الخارجية في تمويل التزاماتها بشكل مستمر، ليصل الأمر إلى حد تمويل الاقتراض المستحق عبر اقتراض جديد فيما يسمى بـ”ترقيع الديون” وليس عبر إيرادات الدولة، لتستمر تلك الآلية وتقود الدولة في نهاية المطاف إلى التعسر في السداد نتيجة ارتفاع تكاليف الاقتراض.
يأتي ارتفاع تكاليف الاقتراض الخارجي على الدول النامية عادة نتيجة عوامل عدة، تتمثل في ارتفاع معدل الفائدة عالميًا، وهو ما شهدته تلك الدول خلال العامين الماضيين وتحديدًا منذ مارس/آذار 2022 مع اتجاه الفيدرالي الأمريكي إلى زيادة معدل الفائدة، الأمر الذي يدفع أصحاب ما يسمى بالأموال الساخنة للخروج من تلك البلدان والاتجاه إلى السوق الأمريكي.
ومع خروج الأموال الساخنة تصبح البلدان النامية أمام أزمتين تتمثلان في تراجع السيولة الدولارية، فضلًا عن ارتفاع معدل الفائدة على ما تطرحه من سندات في السوق الدولية بمقدار يزيد على معدل الفائدة الذي طرحته الولايات المتحدة على سنداتها، كون سندات الدول النامية تعد ذات خطورة أعلى، الأمر الذي يعني ارتفاع كلفة الإقراض.
خلال السنوات الثلاثة الماضية فقط، كانت هناك 18 حالة تخلف عن سداد الديون السيادية في 10 دول نامية، وهو رقم أكبر من العدد المسجل في العقدين الماضيين
كما أن انتهاج البلاد سياسة ترقيع الديون الأجنبية تقود الدولة إلى ارتفاع حجم ديونها الخارجية بشكل متسارع وكبير، ما يدفع وكالات التصنيف الائتماني لتخفيض تصنيف الدولة عدة مرات، الأمر الذي يسهم أيضًا في زيادة معدلات الفائدة على ما تطرحه الدولة من سندات دولية، أو قد يعيق دخولها إلى السوق الدولية من الأساس، لتجف منابع تمويلها وتتسارع خطواتها نحو الإفلاس الحتمي.
ويؤدي تعثر البلاد أو إفلاسها إلى الخضوع لشروط مجحفة من الدائنين الدوليين لضمان سداد تلك القروض، وإعادة هيكلة الدين بشكل يقوض قدرة الدولة على تحفيز اقتصادها، فضلًا عن الحد من وصول الدولة المدينة لسوق الدين العالمي في وقت تكون فيه الدولة في أشد الحاجة إلى الاقتراض.
في هذا الخصوص، يكشف تقرير موسع عن الديون الدولية للبنك الدولي، للدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط إزاء تضخم الديون، أن الدول النامية أعادت توجيه مبلغ قياسي بلغ 443.5 مليار دولار لخدمة الديون الخارجية العامة والمكفولة عام 2022 وحده، وهو ما اعتبره البنك رقمًا قياسيًا.
وبحسب التقرير الأممي، فإنه خلال السنوات الثلاثة الماضية فقط، كانت هناك 18 حالة تخلف عن سداد الديون السيادية في 10 دول نامية، وهو رقم أكبر من العدد المسجل في العقدين الماضيين، في حين أن نحو 60% من البلدان المنخفضة الدخل معرضة بشدة لخطر العجز عن سداد الديون أو أنها تعاني بالفعل من ذلك.
الدول العربية على ميزان الديون
تختلف الطبيعة الاقتصادية لكل دولة عن الأخرى بناءً على آلية تعاطيها مع القروض، فضلًا عن سياستها المتبعة في التعامل مع أزماتها الاقتصادية أو دوافع اقتراضها بالأساس، ولا يقاس حجم الدين في الدول بقيمته بقدر ما يقاس بنسبته إلى إجمالي الناتج المحلي، فكلما زاد حجم الدين إلى الناتج المحلي، زادت المخاطر الاقتصادية.
يختلف الاقتصاديون حول الحدود المعيارية الآمنة للدين العام للدولة بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، إلا أن صندوق النقد الدولي يعتبر أن تجاوز الدين لمستوى الـ60% يعد إشارة إلى مستويات الدين المرتفعة.
وتأتي 4 دول عربية ضمن قائمة الدول الأعلى ديونًا في العالم، بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي لعام 2023، وهي لبنان والسودان والبحرين والأردن بواقع 179.2% و127.5% و117.59% و89:42% على التوالي.
لبنان: شهية مفتوحة للاقتراض
أدّت شهية الاقتراض الخارجي المفتوحة في لبنان إلى تراكم الديون، في ظلّ غياب الخطط وانحسار النشاط الريعي، وسط اعتماد الحكومة على الاستدانة وإساءة استخدامها للقروض، نتيجة ارتفاع الهدر والإنفاق العشوائي والفساد.
يأتي من ضمن الأسباب الرئيسية الدافعة لارتفاع حجم الدين في لبنان، عجز مؤسسة كهرباء لبنان الحكومية، وتمويل الدولة لعمليات شراء الطاقة اللازمة لتشغيل المصانع، فضلًا عن تفاقم مخصّصات الأجور في القطاع العام الضخم الذي يضمّ أكثر من 300 ألف موظف، وتزايد كلفة فوائد الدين العام بسبب السياسات النقدية، ليصل إجمالي حجم الدين في لبنان إلى 102.47 مليار دولار، بينها نحو 40 مليار دولار دين خارجي.
أعلنت الحكومة اللبنانية في مارس/آذار 2020، تخلفها عن سندات اليوروبوندز المستحقة بقيمة 1.2 مليار دولار، بعد أن بلغت احتياطات البلاد من العملة الصعبة مستويات حرجة وخطيرة، مع الحاجة لتلبية احتياجات اللبنانيين الأساسية.
تبع ذلك سلسلة من الانهيارات الاقتصادية في البلاد، إذ انكمش الناتج المحلي الإجمالي 40%، وتراجعت الليرة اللبنانية بأكثر من 98% من قيمتها، وتجاوز معدل التضخم الـ270%، كما تراجع الاحتياطي الإلزامي في المصرف المركزي إلى 10 مليارات دولار مقابل 36 مليار دولار في 2017، وتفاقم معدل الفقر إلى حد هائل حيث نال من 74% من السكان، كما تضاعفت أعداد السكان الذين يعانون من الفقر المتعدد الأبعاد بين عامي 2019-2021 من 42% إلى 82%.
لعب التخبط السياسي في لبنان بجانب وباء كوفيد-19 والحرب الروسية الأوكرانية والتضخم العالمي دورًا كبيرًا في فرض مزيد من الضغوط على الاقتصاد اللبناني، وجاء العدوان الإسرائيلي على غزة ليضفي تحديات جديدة وقاسية على لبنان، فمن المتوقع أن تصل نسبة إجمالي الدين العام لإجمالي الناتج المحلي إلى 547.5% بحلول عام 2027، وذلك في حال استمرار الوضع الراهن وغياب الإصلاحات اللازمة.
مصر: إنفاق عشوائي على مشروعات عملاقة
انتهجت مصر سياسة الاقتراض الخارجي المفتوح منذ عام 2016، حين بدأت عبر قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، لتتوالي القروض من الصندوق وبعض المؤسسات الدولية المقرضة الأخرى، فضلًا عن بعض دول الخليج، ليتفاقم حجم الدين الخارجي إلى 168 مليار دولار.
يرجع ارتفاع الديون إلى عدة أسباب، أهمها الاتجاه نحو الإنفاق غير المنظَّم على مشاريع غير اقتصادية وغير إنتاجية، فضلًا عن استحواذ الجيش على القطاعات الاقتصادية الحيوية، وانكماش أداء القطاع الخاص لـ 39 شهرًا على التوالي، ما أسهم في إبقاء قيمة الصادرات عند نصف قيمة الواردات لتتفاقم الفجوة الدولارية.
كذلك الاقتراض لسداد قروض مستحقة، والتراجع المستمر في التصنيف الائتماني وارتفاع معدل الفائدة، والاعتماد على الخارج في توفير مستلزمات الصناعة والغذاء، إضافة إلى اعتماد مصر على الاستثمار الأجنبي غير المباشر (الأموال الساخنة) في تمويل احتياجاتها وهو ما يمثل خطورة كبير، فإمكانية انسحاب تلك الأموال بسرعة قد يخلق أزمات إضافية كونه يزيد من حدة أزمة السيولة ويسهم في اتساع عجز الحساب الجاري والضغوط التضخمية، وهو ما شهدته البلاد مع بداية رفع الفيدرالي الأمريكي لمعدل الفائدة في شهر مارس/آذار 2022، إذ خرجت 22 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر.
تسبب تراجع معدل الادّخار من الناتج المحلي الإجمالي في مصر من 13% في العام المالي (2010-2011) إلى 5.9% خلال العام المالي (2021-2022)، في اضمحلال القدرة الشرائية للمواطن وتدنّي مدخلاته، فضلًا عن تراجع قدرته على الاستثمار، في ظل تمحور دور الدولة حول الاقتراض الخارجي على حساب استقرار العملة المحلية وارتفاع معدلات التضخم، فخلال 10 سنوات تراجعت قيمة الحد الأدنى للأجور بالدولار، لتهبط من 172 دولارًا إلى 120 دولارًا شهريًا، وذلك بعد رفع الحد الأدنى للأجور مؤخرًا إلى 6 آلاف جنيه شهريًا.
ويبلغ متوسط متطلبات التمويل الخارجي لمصر نحو 20 مليار دولار في السنة على مدى السنوات الخمس المقبلة، بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، ما يعني أن مصر مطالَبة بتوفير هذا المبلغ لصالح المقرضين بجانب التزاماتها السنوية، وذلك فيما وصل إجمالي مخصصات الأقساط والفوائد في موازنة 2024/2023 إلى 2.436 مليار جنيه (78.8 مليار دولار) بواقع 81.4% من إجمالي المصروفات، و20.6% من الناتج المحلي الإجمالي لمصر، و113.7% من إجمالي إيرادات الموازنة، وذلك على حساب مخصصات التعليم والصحة والدعم.
كما تراجعت العملة المحلية في مصر أمام الدولار من حدود 7 جنيهات لتتجاوز 30 جنيهًا للدولار في السوق الرسمي، أي تراجع بنحو 329%، بينما فاقت السوق السوداء هذا السعر لتتجاوز مستوى الـ70 جنيهًا قبل أن يعاود الجنيه الاستقرار نسبيًا عند مستوى يفوق الـ40 جنيهًا في السوق الموازي.
ومع تتابع تخفيض التصنيف الائتماني لوكالة موديز للتصنيفات الائتمانية تراجع التصنيف الائتماني لمصر إلى Caa1، مع نظرة مستقبلية سلبية، وهو التصنيف الذي يعتبر مصر ذات وضع استثماري ضعيف وتخضع لمخاطر ائتمانية عالية جدًا، ما من شأنه أن يفاقم تكلفة الإقراض على مصر.
وفي ظل استمرار ارتفاع الفجوة الدولارية وتدهور العملة وارتفاع الطلب المستمر على الدولار، اتجهت مصر إلى بيع أصولها بهدف الإيفاء بشروط صندوق النقد، ضمن قرض يعد الرابع أو الخامس على التوالي، والذي انتهى بإبرام اتفاق بقيمة 8 مليارات دولار، فضلًا عن بيع أرض رأس الحكمة لدولة الإمارات بقيمة 35 مليار دولار، وأدّت تلك المعطيات إلى ارتفاع معدل الفقر في البلاد، إذ قال البنك الدولي خلال عام 2019 إن حوالي 60% من سكان مصر إما فقراء وإما أكثر احتياجًا.
تونس: ثلث الأسر التونسية غارقة بالديون
ارتفع حجم الدين الخارجي لتونس خلال عام 2023 إلى نحو 72.1 مليارات دينار (23 مليار دولار)، وهو ما يمثل نحو %56.7 من إجمالي الدين العمومي للبلاد، والبالغ 127.1 مليار دينار (40.67 مليار دولار)، أي %80.20 من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، بحسب بيانات وزارة المالية.
ترجع أسباب ارتفاع حجم الدين الخارجي في تونس إلى الاقتراض الحكومي من الداخل أو الخارج لتغطية عجز الموازنة المرتفع وتسيير نفقاتها، وسداد ديونها الخارجية والداخلية، فضلًا عن الاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد، وتراجع معدلات النمو.
يرى بعض الاقتصاديين أن الرقم الحاليّ للدين الخارجي كان ليصل إلى مستويات أكبر من ذلك بكثير، إلا أن تقويض قدرة الدولة على الاقتراض في ظل عدم التوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي حد من مستوى الإفراط في الاقتراض الخارجي.
وأدى الاعتماد الكلي على الاقتراض الخارجي في تمويل احتياجات الدولة من العملة الصعبة، إلى حدوث خلل اقتصادي خاصة مع شح التمويلات الخارجية، إذ عملت الحكومة على سداد ديونها عبر الاقتراض الخارجي المتاح أمامها، ليأتي ذلك على حساب توريد المواد الأساسية المدعمة للتونسيين الذين زادت معاناتهم من الغلاء والتضخم وفقدان المواد الأساسية.
كما أسهمت سياسة الاقتراض الخارجية بهدف سداد المستحقات الأجنبية في تباطؤ النمو الاقتصادي إلى 0.9% في 2023، بسبب خفض توريد المواد الأساسية المستخدمة في المصانع، ما حرم الدولة أكثر من مليار دينار (300 مليون دولار) من الموارد الضريبية على الشركات الصناعية بسبب تراجع النمو.
وفي ظل تبني سياسة الاقتراض بهدف الاستهلاك وسط محدودية الاستدانة من الخارج، أقر البرلمان التونسي تعديلًا يمكّن البنك المركزي من منح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للدولة، الأمر الذي يتيح تمويل جزء من عجز ميزانية الدولة لسنة 2024، بما في ذلك ديون خارجية بنحو 16 مليار دينار (5.2 مليار دولار)، فضلًا عن ديون مستحقة في فبراير/شباط الماضي بقيمة 850 مليون يورو.
وكانت قد قررت تونس رفع عجز الميزانية المتوقع للعام الجاري، من 5.2% مقررة سابقًا إلى 7.7% من الناتج المحلي الإجمالي، بحسب وثيقة صادرة عن وزارة المالية التونسية.
وقال محافظ البنك المركزي السابق مروان العباسي إن سداد قرض بقيمة 850 مليون يورو سيؤدي إلى انخفاض احتياطي العملة خلال 14 يومًا من الاستيراد، وسيكون له تأثير على سعر الصرف، كما تتوقع الحكومة أن يصل الدين العام المتراكم عام 2024 إلى نحو 140 مليار دينار (45.17 مليار دولار)، أي نحو 79.8% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأدت سياسة الاقتراض غير المحسوبة إلى تراجع نفقات الدعم والتحويلات الاجتماعية من نحو 19.16 مليار دينار (5.9 مليارات دينار) إلى 10.8 مليار دينار (3.3 مليار دولار) نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ومع تراجع دعم الدولة للفئات الفقيرة بلغت نسبة تداين الأسر التونسية في العام الماضي 34%، أي أن أكثر من ثلث التونسيين يلجأون إلى الاستدانة لسد نفقاتهم، ويأتي ذلك في وقت يبلغ فيه معدل الفقر 16.6% من إجمالي السكان.
المغرب: الفقراء وحدهم يتحملون العبء
رغم الزيادة المستمرة في حجم الدين الخارجي للمملكة المغربية، إلا أنه لا يزال في حدود آمنة، نظرًا إلى أن الدين الداخلي يستحوذ على النسبة الأكثر من إجمالي مديونية المغرب.
أسهم الاعتماد على سياسة الاقتراض لسدّ عجز الموازنة، فضلًا عن سداد المستحقات بقروض جديدة، في زيادة عجز الموازنة ليصل إلى مستوى الـ 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي بدلًا من مستويات ما قبل عام 2019، والتي كانت ما دون الـ 4%، بجانب الزيادة المستمرة لحجم الدين العام.
وبلغ إجمالي الدين العام في المغرب، الذي يحتل المرتبة الخامسة من بين الدول المثقلة بالديون في القارة السمراء، نحو 1005 مليار درهم (100.3 مليار دولار) حتى شهر أبريل/ نيسان 2023، وتمثل حصة الدين الخارجي من إجمالي ديون المملكة حوالي 25%، ويمثل حجم الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد 71.6% عام 2022، وشكّل حجم الدين الخارجي العمومي من الناتج المحلي الإجمالي خلال عام 2022 نحو 31.8%، بواقع 41 مليار دولار.
ومع الاتساع المستمر في الدين العام، تتزايد تكاليف الديون لتفوق المخصصات الاجتماعية الرئيسية في المغرب، وتحول دون أي تنمية اجتماعية وبشرية حقيقية، ما يحمل الفئات الفقيرة أعباء تلك الديون.
دول الخليج: تجاوز عقبة المديونية بسهولة
لم تقتصر عمليات الاستدانة الخارجية على الدول العربية غير النفطية فحسب، بل تفاقم حجم مديونية الدول النفطية كذلك وبخاصة الدول الخليجية، فقد تضاعف إجمالي الدين العام بتلك الدول خمس مرات تقريبًا، من 117 مليار دولار عام 2008 إلى نحو 576 مليار دولار عام 2020، لترتفع نسبته من الناتج المحلي الإجمالي من 10% إلى 41%.
بحسب وكالة “ستاندرد أند بورز”، فإن متوسط حجم الدين الخارجي المستحق سنويًا، العام والخاص، خلال الفترة 2023-2025 على دول مجلس التعاون الخليجي بلغ 660 مليار دولار، وذلك ارتفاعًا من نحو 250 مليار دولار عام 2013، واستحوذ القطاع المصرفي على ما يزيد قليلًا على 70% من الدين الخارجي في دول مجلس التعاون الخليجي مجتمعة خلال عام 2023، بحسب بيانات وكالة التصنيف الائتماني.
في 2022، بلغت مديونية السعودية 250.7 مليار دولار، بينما بلغ دين الإمارات 158.9 مليار دولار، وبلغ حجم الدين العام القطري 96.4 مليار دولار، كما سجلت البحرين ديونًا بـ51.5 مليار دولار، فيما بلغت مديونية سلطنة عمان 48.5 مليار دولار.
تختلف طبيعة اقتصادات دول الخليج عن بعضها البعض من حيث الحجم والمحفزات الاقتصادية لديها، إلا أن القاسم المشترك بينها هو الموارد النفطية التي تعد صاحبة أكبر الإيرادات في موازنات تلك الدول، لذا فإن تراجع أسعار النفط ينعكس مباشرةً على أداء موازنات دول الخليج بناءً على درجة اعتماد كل منها على الذهب الأسود.
مع ذلك، تتشابه طبيعة الاقتصاد البحريني والعماني، إلا أن السياسة الاقتصادية المتبعة من كل منهما تعد مختلفة في تعاطيها مع حجم أزمة تفاقم الدين، ففي عُمان ارتفع حجم الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 17.7% في عام 1990 إلى 62.9% في 2021، في حين زاد في البحرين من 7.5% إلى 129%.
كما يستخدم البلدان ديونهما لأغراض غير إنتاجية تتمثل في تمويل عجز الميزانية الناجم عن ارتفاع المصروفات الجارية، والعجز المالي المزمن والمرتفع الناجم عن تضخم الجهاز الإداري غير المنتج وما يترتب عليه من تخصيص مبالغ طائلة لمرتبات الموظفين، فضلًا عن ارتفاع النفقات العسكرية التي تحتل الصدارة في المصاريف الحكومية، ما أدى إلى تراكم الديون الحكومية في كل من عمان والبحرين.
وبالتالي يسهم ارتفاع تكاليف الاقتراض على البلدين في زيادة حجم الدين، حيث استحوذت الفوائد في سلطنة عمان على 9.8% من مصروفات الدولة مقابل 5.1% في عام 2019، بالمقابل كانت الفوائد في البحرين تعادل 17.8% من مصروفات الدولة في 2019 لتصل إلى 21.2% في 2022.
وفيما يتعلق بالسعودية فقد شهدت ارتفاعًا كبيرًا في حجم مديونياتها في الفترة من عام 2015، الذي فيه سجل حجم الدين العام 142.2 مليار ريال (37.9 مليار دولار) بواقع 5.8% من الناتج المحلي الإجمالي، ليصل في 2023 إلى 1050.6 مليار ريال (280.1 مليار دولار) بواقع 25.4% من الناتج المحلي الإجمالي، ليسجل ارتفاعًا قي حجم الديون بمعدل سنوي قدره 80%.
وحتى عام 2015 كانت جميع ديون السعودية المحلية ناجمة عن قروض عقدتها الحكومة مع مؤسسات مالية داخلية، إلا أنه مع ظهور رؤية السعودية 2030 تبنت الرياض إستراتيجية أخرى تتمثل في التوسع في الاقتراض وتنويعه لمواجهة الأعباء المالية المتزايدة المدنية والعسكرية، عندئذ فتحت جدة الطريق أمام الاقتراض الخارجي، ليصل حجم الديون الخارجية إلى 405.9 مليار ريال (108.2 مليار دولار) في نهاية 2023 أي 38.6% من مجموع الديون.
وشهدت كذلك خدمة الدين ارتفاعًا كبيرًا في السعودية، إذ أصبحت تعادل 10% من النفقات الكلية للدولة بسبب تصاعد معدلات الفوائد في السوق العالمية، فضلًا عن عدم ثبات أسعار الفائدة في الديون السعودية، لتخرج بذلك المملكة من قائمة البلدان الأقل مديونية في العالم.
أما الكويت فعلى العكس تمامًا، توقف كليًا لجوء الحكومة إلى الاقتراض منذ 2017 بسبب عدم موافقة البرلمان على تجديد صلاحية قانون الدين العام، ويجري تمويل عجز الميزانية التي تعاني من عجز مزمن عن طريق السحب من الاحتياطي النقدي فقط. لذلك تصنف الكويت في مقدمة البلدان العشر الأقل مديونية في العالم.
رغم تلك الديون التي تعاصرها دول الخليج الستة نتيجة عجز الموازنة في أغلبها، إلا أن لديها ثروات وصناديق سيادية تمكنها من تجاوز ديونها الخارجية بسهولة، ولكنها تحتاج إلى متوسط سعر 80 دولارًا للبرميل حتى تتمكن من تحقيق توازن في ميزانياتها.
وتُدير الصناديق السيادية لدول الخليج ما يقارب 4 تريليونات دولار أمريكي من الأصول، بما يشكل 37% من صناديق الاستثمار العالمية، حيث يمتلك صندوق الاستثمارات العامة السعودي، وهيئة أبو ظبي للاستثمار ومؤسسة دبي للاستثمار الإماراتيتين، وهيئة الاستثمار العامة الكويتية، وجهاز قطر للاستثمار القطري أصولًا بـ3.3 تريليون دولار.
ومن المتوقع أن يزيد إجمالي الأصول الأجنبية لدول مجلس التعاون الخليجي إلى نحو 4.4 تريليونات دولار بنهاية عام 2024، مدعومة بفوائض الحساب الجاري المتوقع أن تسجّل 146 مليار دولار، بحسب معهد التمويل الدولي.
وتشهد الثروات المالية لدول مجلس التعاون الخليجي معدل نمو سنوي مركّب ثابت، يتوقع أن يصل إلى 4.7% في الثروات الجديدة، لترتفع من 2.8 تريليون دولار إلى 3.5 تريليونات دولار في فترة 2022-2027، وفقًا لتقرير مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG).
مستلزمات الاقتراض
تعكس تلك المعطيات مدى فشل الحكومات العربية في استخدام الاقتراض الخارجي بشكل إيجابي، والاعتماد عليه في تمويل الاحتياجات اللازمة لها، ما أدّى إلى تفاقم معدلات الدين إلى مستويات خطيرة، فضلًا عن مساهمته في تضاؤل الطبقة المتوسطة التي تعدّ الفاعل الأكبر لأي اقتصاد، وتزايد رقعة الفقر نتيجة تكبّل يد تلك الحكومات، وعجزها عن اتخاذ موقف حقيقي وقت الأزمة.
تلك الأزمات الاقتصادية التي يعيشها الوطن العربي في ظل الاعتماد على الدين الخارجي، تعكس مدى ضرورة فهم آلية التوازن المطلوبة، في حال تبنّي سياسة الاقتراض الخارجي من قبل الحكومات، خاصة في حال عدم وجود هيكل إنتاجي قوي قادر على توفير احتياجات الدولة محليًّا للحفاظ على توازن الحساب الجاري، فضلًا عن القدرة على التصدير لتوفير العملات الأجنبية اللازمة.
كذلك من الضروري أن تعمل الدولة على توجيه أغلب قدر من القروض الخارجية إلى الاستثمار وليس الاستهلاك، بحيث لا يتحول القرض إلى عبء يطارد موازنة الدولة ويلتهم مخصصاتها الرئيسية، على أن تكون تلك الاستثمارات موجّهة إلى مشاريع قصيرة ومتوسطة الأجل.
وفي حال تبنّي الدولة سياسات استثمارية طويلة الأجل، فيمكن للدولة تبنّي نظام الـ B.O.T، الذي يتيح إنشاء المشاريع العامة وتحسينها وتطويرها وتمويلها عن طريق القطاع الخاص، مع تجنيب الموازنة العامة للدولة زيادة الإنفاق العام، وهو ما يسهم في زيادة حجم الاستثمار الأجنبي المباشر.
كما على الدولة وضع آلية واضحة لسداد ما عليها من التزامات خارجية، حتى لا تقع فريسة للمؤسسات الدولية المقرضة، مثال صندوق النقد الدولي، التي تفرض سياسات تقشّفية في حال تعثّرت الدولة، الأمر الذي يقود عادة، وفق التجارب السابقة، إلى السير في دائرة مفرغة من الاقتراض، فضلًا عن فقدان سيادتها واتساع الفقر وغيره من الاضطرابات الاجتماعية التي تشهدها الدول.
الإسراف في الاقتراض الخارجي دون وجود ضوابط يسهم في استنزاف الاحتياطي الأجنبي للبلاد تدريجيًا، ما قد ينعكس سلبًا على أداء العملة المحلية التي يؤدي تراجعها إلى ارتفاع معدلات التضخم، لذا يجب على الدولة عدم الاعتماد على مخزوناتها من النقد الأجنبي في سداد قروضها الدولية.