تزامنًا مع اقتراب شهر رمضان، تبدو القدس خطًا أمنيًا فاصلًا بين الفلسطينيين وسلطات الاحتلال الإسرائيلية، خاصة في ظل معركة “طوفان الأقصى” التي أطلقتها حركة المقاومة الإسلامية حماس في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، فمن جهة ثمة يمين إسرائيلي يقوده وزير الأمن القومي لدى الاحتلال إيتمار بن غفير، ومن جهة أخرى هناك مؤسسة أمنية وعسكرية إسرائيلية تتلقى الضربات في غزة وتخشى من ضربات أخرى في عمقها.
ورغم أن ردود الفعل الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل خلال 5 أشهر من الطوفان لم ترق لحجم الإسناد القوي لقطاع غزة ووقف الإبادة، فإن ضوءًا أحمر أضاءته المؤسسة الأمنية الإسرائيلية للتحذير من “انفجار وشيك” بالقدس في رمضان إذا ما حاول الاحتلال فرض تقسيم زماني ومكاني يعيق وصول المسلمين لمسجدهم في شهرهم المبارك.
الأقصى في شهر رمضان
تختص القدس بمعادلتين، الأولى أن تصعيدًا في القدس يعني ردّ فعلٍ حتمي فيها، والثانية أن أي تصعيد بالقدس في شهر رمضان المبارك يعني تصعيدًا في رقعة أكبر من إطار المدينة المقدسة، ليشمل كل فلسطين.
وأمام هاتين المعادلتين، وجد الاحتلال الإسرائيلي نفسه غير قادر، منذ احتلال الجزء الشرقي من المدينة والمسجد الأقصى عام 1967، على فرض الأمر الواقع بشكلٍ كامل، وتقسيم المدينة زمانيًا ومكانيًا بين أصحاب المسجد المسلمين والمستوطنين اليهود، وكان أي خطوة يخطوها للأمام مدعومة بموافقة الجهات الاستخباراتية الإسرائيلية والأمنية، التي تضمن له “تصعيدًا يمكن السيطرة عليه”.
فالقدس، وحتى قبل الاحتلال الإسرائيلي، كانت عنوان ثورات الفلسطينيين ضد الانتداب البريطاني، مثل ثورة البراق التي اندلعت عام 1929 ردًا على محاولة تهويد الإنجليز للقدس، واندلعت على إثرها مواجهات واشتباكات واسعة النطاق بين الفلسطينيين واليهود عند حائط البراق، وامتدت لعدة مدن فلسطينية، وأدت لارتقاء 116 فلسطينيًا.
وبعد النكبة يعرف الفلسطينيون جيدًا هبة النفق في عام 1996، التي اندلعت عقب افتتاح الاحتلال نفقًا أسفل المسجد الأقصى، واستمرت عدة أسابيع في الضفة وقطاع غزة، ارتقى خلالها 63 فلسطينيًا، ثم انتفاضة الأقصى عام 2000 إثر اقتحام زعيم المعارضة الإسرائيلية آنذاك أرئيل شارون باحات المسجد الأقصى وتجوله فيها بشكل استفزازي، لتندلع انتفاضة استمرت 5 سنوات ارتقى خلالها 4412 شهيدًا وقتل نحو 1069 إسرائيليًا.
وهبة السكاكين في أكتوبر/تشرين الأول 2015 كانت لأجل الأقصى وفي قلب الأقصى، بعد أن أطلقها الشهيد مهند الحلبي من رام الله بعملية الطعن عند باب العامود في القدس، نتيجة الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى والاعتداء على المرابطين والمرابطات.
أما في هبة الأسباط أو المعروفة بهبة البوابات الإلكترونية، التي اندلعت في القدس عام 2017، لتضع حدًا لمساعي الاحتلال التفرد بالأقصى تمهيدًا لتهويده وحصاره وفرض التقسيم المكاني فيه، فشكلت الاعتصامات الشعبية أمام بوابات المسجد المبارك لحظات فارقة في تاريخ القدس المحتلة، ولم يكن أمام الاحتلال وقتها سوى الرضوخ لمطالب المعتصمين وإزالة البوابات الإلكترونية التي وضعها للتحكم بالفلسطينيين.
وعام 2019 انطلقت هبة باب الرحمة في وقت سعى الاحتلال للسيطرة على مصلى باب الرحمة، بعد إغلاق بوابة حديدية مؤدية إليه بالأقفال والسلاسل، ما أثار غضب المقدسيين، فقرروا كسر السلاسل الحديدية الإسرائيلية والدخول إلى المصلى وأداء الصلاة فيه للمرة الأولى منذ عام 2003.
لم تكن فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بمعزلٍ عمّا يجري داخل المدينة المقدسة، فمثلًا عام 2014، كان من أحد الأسباب التي دفعت الاحتلال لإعلان حربه على قطاع غزة – معركة العصف المأكول – خطف حركة المقاومة الإسلامية حماس في مدينة الخليل لـ3 مستوطنين وقتلهم ردًا على حرق المستوطنين الطفل المقدسي محمد أبو خضير والاعتداء على المرابطين والمرابطات.
وفي الماضي القريب عام 2021، حين اندلعت معركة سيف القدس في قطاع غزة، وهبة الكرامة في الداخل المحتل، وتشكلت الكتائب المسلحة في الضفة الغربية، في أعقاب محاولة الاحتلال في رمضان من العام نفسه تيسير مسيرة الأعلام الاستيطانية داخل الأقصى، والاعتداء على المقدسيين واعتقال مئات المقدسيين في ذلك الوقت من ساحات المسجد والبلدة القديمة.
وفي عام 2023، جاء طوفان الأقصى وكانت القدس بوصلته، مع محاولة الاحتلال تغيير الأمر الواقع في مدينة القدس بمضاعفة العملية الاستيطانية وهدم بيوت المقدسيين، وإعلانه الواضح والصريح عن ذبح البقرات الـ5 في المسجد الأقصى، وهي البقرات التي تعلن حرب دينية، حيث تزعم التعاليم التوراتية بوجوب حرق البقرة الحمراء على جبل الزيتون، ومن ثّم نثر رمادها قبالة الأقصى إيذانًا ببدء طقوس إقامة الهيكل الثالث والتجهيز لصعود ملايين اليهود إلى المسجد الأقصى أو جبل الهيكل بالتسمية التوراتية، ثم بناء الهيكل.
رمضان والطوفان: الاحتلال يستعد
في اليوم الأول لاندلاع طوفان الأقصى في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، شدد الاحتلال الإسرائيلي إجراءاته بالقدس، فأغلق المسجد الأقصى في وجه المصلين، وضيّق على المقدسيين في البلدة القديمة، وشن حملات اعتقالات واسعة، واعتدت قوات الاحتلال على الشبان بالضرب، وأخضعت الجميع لتفتيش جسدي في البلدة القديمة وعند أبواب الأقصى، ما اضطر عددٌ كبير من الفلسطينيين إلى أداء صلاة الجمعة في شوارع القدس خارج أسوار الأقصى.
وتراوحت أعداد المصلين في أيام الجمعة بين 3 و12 ألف مصلّ فقط، بينما كانت تصل أعداد المصلين إلى أكثر من 50 ألفًا، قبل أن تزيد الأرقام قليلًا أيام الجمع الأخيرة بسبب مشاركة فلسطينيين من الداخل المحتل في الصلاة.
ومع بدء اقتراب شهر رمضان المبارك، وضع الاحتلال سواتر حديدية على الأبواب المؤدية إلى المسجد الأقصى المبارك، في منطقة باب الأسباط وساحة الغزالي ومحيط مقبرة اليوسفية، ووضع 3 مربعات إسمنتية فوق سور الأقصى، وثبت أبراج المراقبة والتنصت الإسرائيلية المطلة على باحات وساحات المسجد الأقصى، وذلك من سطح الرواق الغربي.
في أثناء هذه الاستعدادات اللوجستية الأمنية، كانت خلافات أخرى تدار في حكومة الاحتلال بين وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من جهة والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية من جهة أخرى، ونتنياهو الذي يجد في بن غفير ابنه المدلل وفرصته لبقاء تحالفه الحكومي قائم في ظل الحرب التي يخوضها ضد قطاع غزة.
واتخذ رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو قرارًا بتقييد دخول الفلسطينيين من الداخل المحتل والقدس إلى المسجد الأقصى لأداء الشعائر الدينية، متماشيًا بذلك مع مقترحات بن غفير، الذي طالب الحكومة بمنع دخول فلسطينيي الضفة الغربية إلى المسجد الأقصى خلال شهر رمضان بشكل مطلق، ومنع دخول الفلسطينيين من القدس والداخل المحتل ممن هم تحت سن 70 عامًا.
إلا أن هذا القرار ذهب أدراج الرياح، مع قرار مجلس حرب الاحتلال “كابينيت الحرب” سحب الصلاحيات الأمنية على المسجد الأقصى من بن غفير، وعدم فرض قيود خاصة على دخول فلسطينيي 48 للصلاة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، تماشيًا مع المصلحة الأمنية.
رغم ذلك، طالب وزير الأمن القومي الإسرائيلي المتطرف – بعد قرار سحب صلاحياته – مفوّض الشرطة كوبي شبتاي، بالسماح لبضعة آلاف فقط من المسلمين بدخول المسجد الأقصى خلال شهر رمضان.
بيانات لأول مرة لأجل الأقصى في الطوفان
قبل أن يلغي مجلس حرب الاحتلال قرار تقييد دخول فلسطينيي الداخل إلى المسجد الأقصى، أصدرت القوى واللجان العربية في الداخل المحتل بيانات تحذر من تبعات القرار، وكانت هذه هي البيانات الأولى التي صدرت من الداخل في ظل الطوفان، بعدما فرضوا على أنفسهم رقابة ذاتية من جهة، وفرض الاحتلال عليهم إجراءات واعتقالات مشددة لمنعهم من الوقوف جانب غزة من جهة أخرى.
فحذرت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية من أن منع فلسطينيي الداخل المحتل بمثابة “إعلان حرب شاملة علينا”، وهدد حزب الوفاء والإصلاح من “الاستفزاز الذي يرمي إلى تفريغ المسجد الأقصى من أهله وأصحابه”، محملًا الاحتلال كامل المسؤولية عمّا تؤول إليه الأمور.
بينما أكد التجمع الوطني الديموقراطي في الداخل المحتل نضاله بكل الإمكانات المتاحة، حتى احترام حق الشعب الفلسطيني في مقدساته وحرية العبادة فيها، فيما قالت الجبهة الديمقراطية للسلام إن قرار نتنياهو وبن غفير يهدف إلى إشعال المزيد من الجبهات، بينما اعتبرت الحركة الإسلامية الموحدة القرار أنه “لعب بالنار ومس بأقدس مقدساتنا”.
يمكن أن نقرأ هذه البيانات والتحذيرات التي أصدرتها القوى في الداخل المحتل في سياق قرار سحب الاحتلال صلاحيات بن غفير والتراجع عن قيوده على صلاة فلسطينيي الداخل في رمضان من جهة أخرى، وأن هذه البيانات أعطت مؤشرًا للاحتلال عن أن جبهة الداخل المحتل التي استطاع تحييدها في حربه على قطاع غزة، لن تبقى خامدة في رمضان، وأن سيناريو عام 2021، من اندلاع هبة الكرامة في الداخل المحتل خاصة في المدن المستعمرة، سوف يعود في رمضان.
ماذا عن الضفة؟
منذ قدوم السلطة الفلسطينية، وانسحاب الإدارة المدنية والعسكرية الإسرائيلية من الضفة الغربية، حرم الفلسطينيون من إمكانية الوصول إلى المسجد الأقصى إلا من خلال استصدار تصاريح دخول خاصة، بينما كانت تخفف سلطات الاحتلال من إجراءاتها في رمضان خشية من الانفجار الوشيك.
هذا الانفجار الوشيك الذي كانت تخشاه السلطات الأمنية الإسرائيلية، مع مطالبات بن غفير المتكررة خلال معركة طوفان الأقصى، رأته واقعًا مع سلسلة عمليات نفذها مقدسيون وفلسطينيون من الضفة الغربية.
وبحسب مركز معلومات فلسطين “معطى” فإن الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس نفذوا خلال شهر فبراير/شباط 2023، 402 عملًا مقاومًا نوعيًا وشعبيًا، من بينها 43 عملية إطلاق نار و43 اشتباكًا مسلحًا، وعمليتي دهس، و3 عمليات طعن أو محاولة طعن، فيما بلغ عدد عمليات زرع أو إلقاء العبوات الناسفة 48 عملية، و7 عمليات إعطاب آليات عسكرية ومركبات للمستوطنين، ما أدى إلى مقتل 5 مستوطنين وجنود وإصابة 17 جنديًا ومستوطنًا إسرائيليًا بجراح مختلفة.
وكانت من أبرز العمليات النوعية، عملية الشهيد فادي جمجوم من مخيم شعفاط بالقدس المحتلة، حيث نفذ عملية إطلاق نار في محطة للحافلات شمال مستوطنة كريات ملاخي في غلاف غزة، أسفرت عن مقتل إسرائيليين اثنين وإصابة 4 بجروح بين متوسطة وخطيرة، وارتقاء المنفذ.
لحقها عملية المقاومين الـ3 قرب حاجز الزعيم بالقدس المحتلة، وأسفرت عن مقتل جندي وجرح 7 مستوطنين آخرين واستشهاد اثنين من المنفذين؛ هم محمد زواهرة وأحمد الوحش، واعتقال المنفذ الثالث بعد إصابته بنيران الاحتلال وهو الأسير كاظم زواهرة.
وكان الفارق في العمليات هي عملية الأسير المحرر وأحد ضباط شرطة السلطة الفلسطينية، محمد يوسف ذياب مناصرة من مخيم قلنديا شمالي القدس المحتلة، ونفذ عملية إطلاق نار في محطة وقود قرب مستوطنة “عيلي” جنوبي نابلس أسفرت عن مقتل إسرائيليين اثنين، وارتقاء المنفذ.
وبين الضفة التي تنفذ عملياتها وفق المتاح لها، والداخل الفلسطيني المحتل الذي بدأ يتحلل من قوقعة رقابته الذاتية والرقابة الإسرائيلية عليه، وقطاع غزة الذي بذل جميع إمكانياته ودمائه لأجل القدس، كانت الجبهة الأضعف بين جبهات الدفاع عن القدس كلها، هي الجبهة العربية والإسلامية، التي لم تتخذ خلال 5 أشهر من الحرب موقفًا يدفع الاحتلال لإعادة حساباته، بل تركت لسان حال ايتمار بن غفير في طلبه الأول بمنع المصلين من أداء الصلاة في رمضان يقول: “شاهدنا ردة الفعل، لن يتغير شيء!”.