خطاب حاد توجهه، نائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس، ضد الحليف التقليدي لواشنطن “إسرائيل”، مطالبةً بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، وبذل المزيد من الجهود لإدخال المساعدات الإغاثية للمحاصرين داخل القطاع لتخفيف ما وصفتها بأنها ظروف “غير آدمية وكارثة إنسانية بين الشعب الفلسطيني”.
وأضافت هاريس في كلمتها خلال زيارة لمدينة سيلما بولاية ألاباما: “يتضور الناس جوعًا في غزة، الظروف غير آدمية، وإنسانيتنا المشتركة تلزمنا بالتحرك”، مشددة على ضرورة فتح نقاط عبور جديدة وألا تُفرض قيود غير ضرورية على المساعدات التي يجب أن تصل “دون أي أعذار”، كما حثت حركة حماس على “قبول اتفاق للإفراج عن الرهائن من شأنه تطبيق وقف لإطلاق النار لمدة 6 أسابيع، والسماح بتدفق مزيد من المساعدات”.
في إحدى أكثر التعليقات حدة حتى الآن من قبل مسؤول أمريكي لإسرائيل.. هاريس تدعو لوقف فوري لإطلاق النار في غزة https://t.co/oYcT2ilqQN pic.twitter.com/aibJqjQmzd
— CNN بالعربية (@cnnarabic) March 4, 2024
تتناغم تصريحات هاريس التي تعد إحدى أكثر الخطابات الرسمية حدةً مع تصاعد الأصوات الشعبية في الشارع الأمريكي التي تطالب بوقف إطلاق النار وضرورة إدخال المساعدات، كما جاء على لسان عدد من البرلمانيين من بينهم العضو الديمقراطي بمجلس الشيوخ الأمريكي ديك دوربين، الذي وصف الأزمة الإنسانية في غزة بأنها سابقة تاريخية يجب عدم تجاهلها، لافتًا إلى أن التقارير الواردة من القطاع عن موت الأطفال جوعًا “مروعة ويجب أن تعيدنا إلى رشدنا”، محذرًا في الوقت ذاته من سياسة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي لا تعطي الكثير من الأمل، على حد قوله، مما يتطلب العمل من أجل إيجاد خطة عاجلة لإنهاء الحرب.
يفتح هذا الخطاب الحاد الباب أمام حزمة من الدلالات والرسائل، للداخل والخارج على حد سواء، كونها تأتي في وقت تُمارس فيه العديد من الضغوط لأجل إتمام صفقة تبادل بين حكومة الاحتلال وحركة حماس قبيل شهر رمضان.
سياق إنساني كارثي
تأتي تصريحات هاريس بينما تُذبح كل معاني الإنسانية داخل قطاع غزة على أيدي قوات جيش الاحتلال، على الهواء مباشرة ونقلًا بالصوت والصورة، وسط صمت وخذلان رسمي فاضح، في مقابل انتفاضة عارمة للرأي العام الذي يزداد زخمه يومًا تلو الآخر، تنديدًا بحرب الإبادة التي تشنها قوات المحتل ضد أطفال غزه ونسائها وشيوخها.
وشهدت الساعات القليلة الماضية مجزرتين صادمتين تعرض لهما سكان القطاع بسلاح الجوع الذي يشهره الكيان المحتل ضد المدنيين العزل في القطاع، تسببتا في سقوط عشرات الشهداء، إما جوعًا أو قصفًا بالطائرات والدبابات والمدافع الثقيلة، الأمر الذي أثار موجة عداء جديدة لسياسات حكومة الحرب الإسرائيلية وما تمارسه من عربدة ضد الإنسانية في مواجهة أكثر من مليوني محاصر.
سبقتها مجزرة قصفت فيها قوات الاحتلال فلسطينيين كانوا ينتظرون وصول مساعدات إنسانية بالقرب من منطقة دوار الكويت جنوب غزة، ما أدى إلى سقوط العشرات ما بين قتيل وجريح، فضلًا عن نسف شاحنات المساعدات عن بكرة أبيها، وهي الجريمة التي وصفها المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية، أشرف القدرة، في بيان له بأنها “جرائم إبادة جماعية ممنهجة تستهدف مئات الآلاف من البطون الجائعة شمالي غزة”.
وقبل 3 أيام فقط من مجزرة الأحد، وتحديدًا في الخميس 29 فبراير/شباط، استهدف جيش الاحتلال المئات من الفلسطينيين كانوا بانتظار وصول شاحنات مساعدات في منطقة “دوار النابلسي” جنوب غزة، ما أسفر عن استشهاد 118 وإصابة المئات بحسب وزارة الصحة.
في نفس مكان مجزرة الطحين.. سقوط شهداء وجرحى بعد أن أطلق الاحتلال الإسرائيلي النار على المدنيين الذين ينتظرون وصول الدقيق عند دوار النابلسي شمال غزة عصر اليوم#مجزره_دوار_النابلسي #مجزرة_الطحين #مجزرة_جوعى_غزة pic.twitter.com/XyWM4MVZOV
— قتيبة ياسين (@k7ybnd99) March 1, 2024
وأحدثتا المجزرتان أصداء عالمية قاسية وغاضبة مما وصل إليه الاحتلال من إجرام غير مسبوق، ونسف لكل أبجديات مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي، وهو ما وضع القوى العالمية، لا سيما الحليفة لدولة الاحتلال في حرج أخلاقي أمام الرأي العام الدولي.
وفي تلك الأجواء الملبدة بغيوم الاحتقان من العربدة الإسرائيلية، والدعم الأمريكي المطلق لها، كونها الجسر الأكبر الذي يعبر عليه الاحتلال لتنفيذ مخططه في غزة، ما أدى إلى تصاعد خطاب الانتقاد الداخلي للإدارة الأمريكية، جاءت تصريحات هاريس التي طالبت فيها بإنقاذ الوضع الإنساني في أسرع وقت ودون أي أعذار.
وجاءت تلك التصريحات قبل يوم واحد فقط من زيارة عضو مجلس الحرب الإسرائيلي، بيني غانتس، لواشنطن، حيث من المفترض أن يلتقي اليوم الإثنين نائبة الرئيس الأمريكي، والثلاثاء وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، لمناقشة المشهد في غزة ومساعي إدخال المساعدات ووقف إطلاق النار قبل رمضان.
غسل سمعة أمريكا
تتعرض إدارة بايدن منذ بداية الحرب على غزة إلى انتقادات حادة في الداخل والخارج، تنوعت مؤشراتها ما بين تظاهرات شعبية منددة بالسياسة الأمريكية إزاء المشهد في غزة ودعم الاحتلال، واستهداف لقاءات ومؤتمرات مسؤولي الإدارة والحزب الديمقراطي في أكثر من مدينة، فضلًا عن الاتهامات التي تُكال للإدارة بشأن تورطها في قتل الآلاف من أطفال ونساء غزة، إضافة إلى الصمت عن حرب التجويع التي يشنها المحتل ضد أكثر من مليوني مواطن محاصر في القطاع.
كل هذا ساهم بشكل أو بآخر في تشويه صورة الولايات المتحدة التي سعت لبنائها عبر عقود طويلة كدولة راعية للحقوق وناصرة للمبادئ الإنسانية، لكنها الشعارات التي سرعان ما أسقطتها حرب غزة كما أسقطت الكثير من الأقنعة المزيفة عن أنظمة وحكومات وكيانات كانت تروج لمبادئ وهتافات ثبت – بالأدلة القاطعة – زيفها وكذبها.
"لماذا نلقي مساعدات وقنابل بالوقت نفسه".. أمريكيون يتظاهرون في واشنطن مطالبين بايدن بوقف إرسال الأموال من أجل الأسلحة إلى إسرائيل pic.twitter.com/LnjuuEESZp
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) March 3, 2024
انعكست تلك الأجواء بطبيعة الحال على الحزب الديمقراطي الحاكم وفرصه في الفوز بالانتخابات القادمة، إذ أظهرت نتائج استطلاعات الرأي تراجعًا غير مسبوق لشعبية الرئيس منذ بداية الحرب، هذا بخلاف التصويت العقابي الذي تعرض له بايدن في انتخابات ولاية ميتشغان قبل أيام، وهي البروفة الأكثر قلقًا لما يمكن أن يكون عليه الوضع في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني القادمة، ما يضع مستقبل الحزب على المحك، الأمر الذي دفع نحو تغيير لغة الخطاب تجاه حكومة الاحتلال في محاولة لغسل السمعة أمام الرأي العام الأمريكي على وجه التحديد.
وبجانب التغير اللفظي في لغة الخطاب، حاولت إدارة بايدن استخدام بعض مساحيق التجميل لتحسين صورتها العامة، من بينها إرسال مساعدات لقطاع غزة عبر الإنزال الجوي، وهي إمدادات إغاثية ترسلها واشنطن جنبًا إلى جنب مع القذائف والصواريخ لقتل الأطفال والنساء والمحاصرين العزل في القطاع، في تناقض كاشف لطبيعة وهوية الموقف الأمريكي إزاء ما يحدث في غزة.
فشل أمريكي واضح
تعكس تصريحات هاريس حالة الإحباط المتزايد لدى البيت الأبيض تجاه نتنياهو وإدارة حكومته للحرب، خاصة أنها تأتي بعد وصف بايدن للرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى بأنه “مبالغ فيه”، حسبما وصفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية.
أما موقع “أكسيوس” فاعتبر تلك التصريحات الاعتراف الأكثر شمولًا من إدارة بايدن بالوضع الإنساني المتردي في غزة، والمعاناة التي يعاني منها جيش الاحتلال من جانب وسكان القطاع من جانب آخر، ومن ثم جاءت تلك الدعوى الأقوى بشأن ضرورة وقف إطلاق النار الفوري ودون أي مسببات.
ويعتبر الموقع أن تصريحات نائبة الرئيس والحدة المستخدمة فيها لأول مرة، تأتي ضمن الضغوط التي تفرضها إدارة بايدن من أجل التوصل إلى حلول دبلوماسية تقتضي وقفًا لإطلاق النار وإبرام صفقة تبادل قبل بداية شهر رمضان المتوقع أن يكون يوم 11 مارس/آذار الحاليّ، وهو ما يتوقع أن يكون محور اللقاءات المرتقب أن تعقدها الإدارة مع غانتس خلال زيارته الحاليّة لواشنطن.
أعلنت منظمة "الاشتراكيون الديمقراطيون الأمريكيون" (DCA)، وهي أكبر هيئة سياسية يسارية في الولايات المتحدة، الأحد، دعمها الدفع من أجل التصويت "غير الملتزم" ضد الرئيس الأمريكي جو بايدن في الانتخابات التمهيدية الثلاثاء في ولاية ميشيغان. pic.twitter.com/7YZe7N8EN5
— TRT عربي (@TRTArabi) March 4, 2024
وعلى مدار أكثر من 150 يومًا ظلت الولايات المتحدة الداعم السياسي والعسكري واللوجستي الأكبر لدولة الاحتلال، والمزود الرئيسي لها بالسلاح في مواجهة الغزيين، والشريك الرئيسي في سقوط أكثر من 30 ألف شهيد وإصابة ما يزيد عن 100 ألف، فضلًا عن تشريد قرابة مليون ونصف مواطن وهدم ثلثي القطاع.
رغم هذا الدعم غير المسبوق الذي يقدمه البيت الأبيض للإسرائيليين، الذي ما كان لهم أن يستمروا طيلة تلك الفترة من الحرب دونه، فإن إدارة بايدن فشلت حتى اليوم في الضغط على حكومة نتنياهو لثنيها عن جرائم الإبادة التي ترتكبها، وإخضاعها لصفقة تبادل ووقف إطلاق النار وإدخال المساعدات لسكان القطاع، في ظل المخاطر المحتمل أن تواجهها الإدارة الحاليّة جراء سياستها تلك.
هذا الفشل الواضح في الضغط على مجلس الحرب الإسرائيلي يثير الشكوك بشأن حقيقة تلك الضغوط، وما إذا كانت فعلًا تعبر عن إرادة حقيقية لدى الجانب الأمريكي، أم مجرد تبادل أدوار لامتصاص الغضب الشعبي والدولي حتى تحقق “إسرائيل” أهدافها كاملة من تلك الحرب.
إنقاذ مستقبل بايدن
يحاول بايدن إنقاذ سمعته ومن ثم مستقبله السياسي بأسرع وقت ممكن، قلقًا من أن حرب غزة الحاليّة ربما تكون شهادة وفاته السياسية إن لم يتم تدارك الوضع قبل فوات الأوان، ولعل ما حدث في ميتشغان بروفة ميدانية لما هو أصعب، حيث احتمالية فقدانه لأصوات الجالية العربية والإسلامية فضلًا عن أصوات بعض الديمقراطيين الرافضين للشيك على بياض الذي يقدمه لنتنياهو بما يضر بسمعة بلادهم وصورتها الخارجية.
ومن هذا المنطلق يمارس الرجل ضغوطه لأجل إبرام صفقة تبادل اليوم قبل الغد، خشية تطور الأوضاع في رمضان بما لا يمكن بعدها استعادة السيطرة على كرة النار المتوقع أن تتدحرج لتشمل مناطق أخرى في الداخل الفلسطيني وعبر الحدود الشمالية لـ”إسرائيل”، فضلًا عن احتمالية تعرض مصالح أمريكا في المنطقة للخطر.
وبحسب ما نقل “أكسيوس” عن مسؤولين أمريكيين فإن بايدن اتصل بكل من نظيره المصري عبد الفتاح السيسي والقطري تميم بن حمد وحثهما على ممارسة كل الضغوط الممكنة لإقناع حماس بقبول الصفقة، قائلًا “توصلوا لصفقة من أجلي”، بحسب تعبير الموقع الأمريكي الذي يرى أن تلك الصفقة سبيله الوحيد للتوصل إلى وقف مؤقت لإطلاق النار مع الحفاظ على دعمه الثابت لـ”إسرائيل”.
وأسفرت تلك الاتصالات عن موافقة الرئيسين المصري والقطري على مواصلة جهودهما للضغط على حماس، إيمانًا منهما بالحاجة الملحة لإنجاز ذلك في هذا التوقيت، فيما قال بايدن إنه يمارس ضغوطًا مماثلة على حكومة الاحتلال للتوصل إلى أرضية مشتركة خلال الأيام القليلة المقبلة، وفق ما ذكر مصدر أمريكي آخر على دراية مباشرة بتلك الاتصالات، حسبما نقل الموقع الأمريكي.
"هاريس" في تحذيرها الأقوى لـ"الكيان المدلّل"!
دون تردّد، يمكن القول إن تصريحات نائبة بايدن (كمالا هاريس)، هي الأقوى في انتقاد ممارسات "الكيان" في قطاع غزة (مهاجمة حماس لازمة لا بد منها بالطبع).
قالت إن الوضع "مدمّر"، وفصلت في معاناة الناس، ومرّت على مجزرة دوار النابلسي، واتهمت…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) March 4, 2024
في المجمل تعاني السياسة الأمريكية تجاه الحرب في غزة على مدار أشهرها الـ5 من تناقض وازدواجية فاضحة، يد ترسل القنابل في مقابل أخرى تلقي بالمساعدات، تصريحات تدين جرائم الاحتلال في مواجهة مواقف رسمية تدعم جرائمه وتساعده على الإفلات من العقاب، وإن كان البعض يتحفظ على وصفها بالمزدوجة كونها في النهاية جزءًا من أيديولوجية الدعم المطلق للحليف الإسرائيلي التي تعاهدت عليها الحكومات والأنظمة والإدارات كافة التي سكنت البيت الأبيض.
وبعيدًا عن القراءات الوردية الدافئة والمتفائلة لتلك اللغة الحادة المستحدثة في الخطاب الأمريكي تجاه حكومة الاحتلال، فإنها في النهاية حبيسة البراغماتية البحتة، حيث يحاول بايدن وإدارته غسل سمعة بلاده من جانب، وتبرئة ساحته من جانب آخر، على أمل أن يسفر ذلك عن تراجع حدة الانتقادات التي يتعرض لها ومن ثم تقوية حظوظه في الماراثون الانتخابي المقبل.