ترجمة وتحرير: نون بوست
كان السجن يحتوي على 20 زنزانة، كل واحدة منها عبارة عن مربع من الخرسانة قائم بذاته، فيما تتضمن 16 منها سجناء مقيدين إلى حلقة معدنية في الجدار، أما في الزنزانات الأربعة الأخرى، التي صُممت لحرمان السجناء من النوم، كان هؤلاء واقفين وهم مكبلون بالسلاسل إلى قضيب في السقف، على مستوى المعصمين.
في الوقت الذي كان فيه السجناء داخل الزنزانات الاعتيادية يمتلكون دلوًا من البلاستيك، ارتدى من في زنزانات الحرمان من النوم الحفاضات، أما حين كانت الحفاضات غير متوفرة، وفّر الحراس بدائل يتم شدّها بشريط لاصق، أو يظل السجناء مقيدين بالسلاسل في زنزاناتهم وهم عراة. فضلاً عن ذلك، كانت مجموعة الزنزانات تفتقر للتدفئة وتغوص في ظلام حالك ليلاً نهارًا، مع موسيقى صاخبة على مدار الساعة.
خلال شهر كانون الثاني/يناير من سنة 2003، وبعد شهرين من استجوابه لسجين يدعى “غول رحمان” في المنشأة، أخبر جون “بروس” جيسين محققًا من وكالة المخابرات المركزية أن “الجو العام كان جيدًا للغاية، لقد كان المكان مقرفًا ولكن آمنًا في الآن ذاته”، وقد قضّى جيسين، وهو من بين أحد المختصيْن في علم النفس المتعاقديْن اللذين صمما “أساليب الاستجواب المعزز”، 10 أيام في السجن السري بالقرب من كابول في أفغانستان خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر من سنة 2002.
بروس جيسين
بعد خمسة أيام من مغادرته للسجن، عُثر على رحمان في زنزانته وقد فارق الحياة بسبب انخفاض حرارة جسمه، حيث كان نصفه الأسفل عاريًا ومكبلاً إلى أرضية خرسانية باردة، وخلال شهر آب/أغسطس الماضي، توصلت أسرة غول رحمان، بالإضافة إلى محمد بن سعود وسليمان عبد الله سالم وهما سجينان بقيا على قيد الحياة من السجن الأسود الأفغاني، إلى تسوية خارج المحكمة في دعواهم القضائية ضد بروس جيسين وجيمس ميتشل، سعيًا للحصول على تعويضات مقابل التعرض للتعذيب.
على الرغم من أن الزنزانات تم تصميمها لضمان الحرمان الحسي، فإن مدير الموقع أضاف لمسته الخاصة لهذه المسألة، ذلك أن فكرة جهاز الستيريو الصاخب وشراءه كانت من تدبيره
غول رحمان
من خلال الوصول إلى تسوية بشأن الدعوى، تجنب كل من جيسين وميتشل محاكمة من شأنها أن تسلط ضوء قاعة المحكمة الأمريكية على ما حدث داخل السجن، الذي يُطلق عليه اسم “كوبالت” والمعروف ببساطة باسم “الظلام” من قبل سجنائه. ولكن، يبدو أن الكثير مما كان يأمل المُدّعون أن يتم عرضه أمام هيئة المحلفين، يُمكن إيجاده ضمن 274 وثيقة تم إجبار وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون على رفع السرية عنها وإظهارها خلال التحقيق الذي سبق المحاكمة.
في الحقيقة، تقدم هذه الوثائق، التي من المقرر أن يتم عرض الكثير منها في المحاكمة، الصورة الكاملة للمعاناة التي تعرض لها الرجال الثلاثة في الزنزانة السرية لوكالة المخابرات المركزية، وتكشف كيفية تقاطع مسارات حياتهم بشكل مصيري مع صعود وسقوط جيمس ميتشل وبروس جيسين، الرجلين اللذين صمما نظام التعذيب.
الجدير بالذكر أنه تم تنقيح اسم مدير الموقع في الوثائق الصادرة من أجل الدعوى، ولكن تم تعريفه لأول مرة على أنه ماثيو زيربيل في هامش تقرير قُدّم للكونغرس
رجل الحيل كافة
يتضمن أكثر جانب تنويري لهذه الوثائق، التقرير الذي قدمه محققو وكالة المخابرات المركزية إلى نائب مدير العمليات في الوكالة بتاريخ 28 كانون الثاني/ يناير من سنة 2003 بشأن وفاة غول رحمان. وضمن 32 صفحة واضحة، إلى جانب المرفقات التي تتضمن “تسلسلا زمنيا للأحداث الهامة” وملاحظات من المقابلات التي أُجريت مع جيسين وضابط وكالة المخابرات المركزية الشاب المكلف بإدارة الموقع الأسود، قام التحقيق بإعادة تشكيل القرارات التي أدت إلى مقتل سجين بعد 69 يوما فقط من افتتاح المُنشأة.
مخيم أشعة إكس في خليج غوانتانامو في 11 كانون الثاني/ يناير من سنة 2002
وفقا لما توصل إليه المحققون، افتُتِح الموقع خلال شهر أيلول/ سبتمبر سنة 2002، وتمت تعبئته تماما في غضون شهر، مع العلم أنه كان يُدار من خلال مزيج من التخطيط الدقيق والارتجال المندفع. وعلى الرغم من أن الزنزانات تم تصميمها لضمان الحرمان الحسي، إلا أن مدير الموقع أضاف لمسته الخاصة لهذه المسألة، ذلك أن فكرة جهاز الستيريو الصاخب وشراءه كانت من تدبيره.
“فيما يتعلق بالظلام”، علم المحقق من مدير الموقع أن “ذلك كان قراره أيضا”، ناهيك عن أنه كان هناك مفتاح ضوء وحيد يسيطر على جميع الأضواء الموجودة في مجموعة الزنزانات، وذلك حسب ما جاء في سجل ملاحظات المقابلة. وفي مواجهة اختيار الإبقاء على الأضواء مضاءة أو مغلقة طيلة الوقت، اختار المدير الخيار الثاني”.
من جانب آخر، لم يتمتع مدير الموقع بأي خبرة في مجال عمليات السجن ولم يكن على علم بأنه سيشرف على هذه المنشأة، إلا بعد ثلاثة أيام من وصوله إلى “كوبالت”. والجدير بالذكر أنه تم تنقيح اسم مدير الموقع في الوثائق الصادرة من أجل الدعوى، ولكن تم تعريفه لأول مرة على أنه ماثيو زيربيل في هامش تقرير قُدّم للكونغرس.
علاوة على ذلك، أبرز ما تم الكشف عنه في وقت سابق هو أفعال المدير أثناء احتجاز غول رحمان، التي انطلقت عندما أرسل رحمان من باكستان إلى السجن. في المقابل، تشير الوثائق الجديدة إلى أن رحمان كان باستطاعته أن يظل إلى غاية اليوم على قيد الحياة؛ إذا لم يصل بروس جيسين إلى “كوبالت” في الوقت ذاته، ولعب دورا مباشرا في استجواب السجين.
جيمس ميتشل
طيلة مدة الدعوى القضائية، ادّعى كل من بروس جيسين الذي استجوب رحمان في ست مناسبات على مدى أسبوعين، وميتشل الذي التقى به لمرة واحدة، أنهما حاولا التخفيف من الظروف القاسية لعزل رحمان. خلافا لذلك، تظهر البرقيات أن جيسين هو من ناقش ما إذا كان رحمان سيخضع لأساليب الاستجواب المعزز مع المكاتب الرئيسية لوكالة المخابرات المركزية، وهو أيضا من كانت نصيحته مؤثرة عندما قام برفقة ماثيو زيربيل بتدبير استجواب رحمان.
ناقش المسؤول حالة رحمان مع زميل له، ولكنه لم يحرك ساكنا نظرا لأنه “افترض أن المسؤولين في المنشأة كانوا مدركين أن الجو بارد، وبالتالي لن يتركوا سجينا عاريا لفترة طويلة”
في إطار مقابلته مع الأخصائي النفسي، ذكر المحقق أنه “بإمكان جيسين القول بأن مدير الموقع كان يتعامل مع جميع اقتراحاته من خلال “مصفاة الهراء” الخاصة به، ولكن الأخصائي النفسي أشار إلى أنه كان هو “رجل الحيل الكافة”. في الحقيقة، قبل زيربيل باقتراح جيسين الذي يحيل إلى أنه وفي حال اشتكى رحمان من البرد، فذلك يعني أنه كان يستخدم تقنية مقاومة متطورة لتنظيم القاعدة.
أما عندما “اشتكى رحمان من عدم القدرة على التفكير بسبب الظروف المتمثلة في “البرد”، “وسوء المعاملة”، و”انتهاك حقوقه الإنسانية”، وهو ما جاء في برقية إثر أحد جلسات الاستجواب التي تعرض لها جيسين، مثل ذلك أدلة، حسب تعبير جيسين، على إستراتيجية مقاومة مرتبطة “بالصحة والرعاية الاجتماعية”.
داخل السجن غير معزول، ومع اقتراب فصل الشتاء، كان رحمان يشعر بالبرد فحسب وعلى نحو خطير لمدة أسبوعين على الأقل قبل أن يلقى حتفه بسبب انخفاض حرارة الجسم. وفي هذا السياق، أفاد مسؤول في وكالة المخابرات المركزية، الذي زار المنشأة قبل وصول رحمان إليها، لمحقق الوكالة أن “البرد كان قارسا في كوبالت حين كان متواجدا هناك…وقد خطرت على باله مسألة انخفاض حرارة الجسم حين رأى رحمان وهو يرتدي جوارب وحفاضا فقط”.
وفقا لما أبلغ عنه المفتش العام لوكالة المخابرات المركزية ضمن تحقيق داخلي أجري سنة 2005 عن حيثيات وفاة رحمان، ناقش المسؤول حالة رحمان مع زميل له، ولكنه لم يحرك ساكنا نظرا لأنه “افترض أن المسؤولين في المنشأة كانوا مدركين أن الجو بارد، وبالتالي لن يتركوا سجينا عاريا لفترة طويلة”.
“تم تكبيل رحمان في وضعية الجلوس على خرسانة عارية بينما كان عار من الخصر إلى الأسفل”، وذلك وفقا لما جاء في برقية التحقيق سنة 2003
خلافا للمتوقع، أخبر الحراس والمترجمون الفوريون المحققين أن رحمان كان عاريا ابتداءً من الخصر، أو عاريا بحفاض تقريبا لمعظم الفترة التي قضاها في السجن. وكان جيسين على علم بالوضع ومدركا أن ذلك له تأثيرا جسديا، كما اعترف للمحقق أن “رحمان فقد ملابسه قبل وصوله للسجن”، حيث قال أنه كان “يرتجف ويظهر العلامات الأولى لانخفاض حرارة الجسم” بعد حصوله “على حمام بارد كتقنية للحرمان”.
على صعيد آخر، تظهر ملاحظات من إحدى جلسات استجواب جيسين أن “رحمان أمضى الأيام التي تلت آخر جلسة له مع ضباط المنشأة في ظروف باردة ومع الحد الأدنى من الطعام والنوم. وقد بدى رحمان إلى حد ما غير متماسك أثناء أجزاء من تلك الجلسة”. وحين غادر جيسين كوبالت بتاريخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2002 أو حوالي ذلك التاريخ، أخبر زيربيل أن التغلب على مقاومة رحمان سيتطلب المزيد من أشكال الحرمان ذاتها التي كان من الواضح أنها تضعفه.
خلال المقابلة التي أجريت معه في شهر كانون الثاني/ يناير من سنة 2003، أخبر جيسين المحقق أن “الأمور لم تكن لتحدث بسرعة. ويعود السبب في ذلك أن رحمان قوي جسديا ما يعني أن ضربه لن يكون مفيدا. ونتيجة لذلك، عليك إحباطه نفسيا وجسديا…كما أن الأمر سيستغرق من شهر إلى عدة أشهر للوصول به إلى مستوى من التعاون”، وفقا لما تنبأ به جيسين.
بعد مرور خمسة أيام، وعلى الساعة الثالثة بعد الظهر من يوم 19 تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2002، “تم تكبيل رحمان في وضعية الجلوس على خرسانة عارية بينما كان عار من الخصر إلى الأسفل”، وذلك وفقا لما جاء في برقية التحقيق سنة 2003. وقد تحقق الحراس من رحمان أربع مرات إلى غاية صباح اليوم التالي، وذلك على الساعة العاشرة والحادية عشر ليلا، وعلى الساعة الرابعة والثامنة صباحا.
استند البحث إلى قراءة الأخصائيْين لوثيقة مانشستر، وهو دليل للمتطرفين يتضمن قسما عن مجندي الاستجواب الوحشيين الذين كانوا يكتسبون الخبرة على الأرجح في سجون الأنظمة الاستبدادية
خلال التحقق من الزنزانات على الساعة الرابعة صباحا، ومع درجة حرارة في الخارج بلغت آنذاك 31 درجة فهرنهايت، “نظر أحد الحراس داخل الزنزانة وقام بالتصفير”. وعلى الساعة الثامنة صباحا، “كان رحمان جالسا في زنزانته، وقد كان على قيد الحياة ويرتجف، كما كان يطرف بعينيه”. ووفقا لما أفاد به الحارس للمحقق، “كان رحمان يرتجف، ولكن بدا ذلك اعتياديا، ذلك أن جميع السجناء كانوا يرتجفون”. وبعد ساعتين، نظر الحارس داخل الزنزانة ليعثر على رحمان وهو مستلقي على جانبه، وحين قرع الباب بهراوته، لم يؤت السجين بأية حركة.
طائرة هليكوبتر تابعة للجيش الأمريكي في أفغانستان في آذار/ مارس سنة 2002
“لقد أعددنا قائمة”
بدأ الطريق، الذي أوصل أخصائي نفسي متعاقد للاعتراف أمام محقق وكالة المخابرات المركزية أنه هو من امتلك كافة حيل الاستجواب، قبل سنة واحدة، أي في مطلع سنة 2002، حين كتب كل من جيسين وميتشل بحثا بعنوان “التدابير المضادة لمقاومة عناصر تنظيم القاعدة لأساليب الاستجواب”. وقد وعد البحث، الذي تم نشره متضمنا تصريحات للمرة الأولى خلال الدعوى القضائية، بتقديم أساليب للاعتراف حين كان المعتقلون يستخدمون تقنيات مقاومة متطورة للاستجواب “وإستراتيجيات لتطوير تدابير مضادة”.
في الواقع، استند البحث إلى قراءة الأخصائيْين لوثيقة مانشستر، وهو دليل للمتطرفين يتضمن قسما عن مجندي الاستجواب الوحشيين الذين كانوا يكتسبون الخبرة على الأرجح في سجون الأنظمة الاستبدادية. ويشتمل الدليل على نصائح من قبيل “ابق هادئا نفسيا وعقليا وحافظ على اليقظة والبصيرة”، إلى جانب تعليمات عملية حول كيفية الاستجابة للتعذيب.
ضمن بحث التدابير المضادة الخاص بهما، مزج ميتشل وجيسين بين كافة هذه التعليمات كإستراتيجيات للمقاومة، من قبيل التمسك بقصة ما، وطلب الحصول على محام، والشكوى من ظروف السجن، وطلب العناية الطبية، والتبليغ عن التعذيب. ووفقا لما كتبه الثنائي، “تكشف جميع هذه التقنيات عن تمتع عناصر تنظيم القاعدة ذوي الخطورة العالية بمستوى متطور من تدريب المقاومة”، كما أن حقيقة أن بحثهما بدأ بتحذير قالا فيه “إننا لا نمتلك خبرة في الثقافة العربية أو تنظيم القاعدة”، لم يثبط الحماس تجاه أفكارهما.
كتب ميتشل أن هذا النموذج من التعذيب يجب أن يُستخدم كقالب لاستجواب السجناء ذوي القيمة العالية في المستقبل”. كما أفاد ميتشل في نفس تلك البرقية بأن “عمليات بناء مرفق كوبالت الذي يقع بالقرب من كابول على وشك الانتهاء”
خلال ربيع سنة 2002، قام الأخصائيان النفسيان بتسويق مقاربتهما للتغلب على المقاومة التي يبديها مقاتلو تنظيم القاعدة، حيث قام جيسين بتسويقها للبنتاغون، فيما تكفل ميتشل بالقيام بذلك لوكالة المخابرات المركزية. وقد عرضا منتوجهما في عرضي باوربوينت تم توضيحهما بما أسمياه “استعارة الدائرة”، وهي عبارة عن رسم توضيحي روجا على أنه “وسيلة فعالة للتفكير بشأن سلوك المقاومة”.
في شهادته التي سبقت المحاكمة، أصر جيسين على أن أساليب الاستجواب التي اقترحها مع ميتشل أولا لهزيمة هذه المقاومة لم تتضمن أي ضغوط جسدية، كما كانت تتماشى مع اتفاقيات جنيف. لكن، وبحلول شهر أبريل/ نيسان، كان جيسين يصيغ “مشروع خطة استغلال” شملت احتجاز المعتقلين في زنزانات عازلة للصوت في منشآت سرية كانت بعيدة عن متناول الصليب الأحمر والصحافة والمراقبين الأمريكيين والأجانب على حد سواء.
وفقا لما ذكره جيسين في شهادته، “ذهبت أنا وجيم (أي جيمس ميتشل) بعد بضعة أشهر إلى أحد المهاجع، حيث جلس أمام آلة كاتبة وأعددنا معا قائمة”، التي أصبحت فيما بعد تمثل أساليب الاستجواب المعزز لوكالة المخابرات المركزية.
أبو زبيدة
في هذا الإطار، تتبع برقيات وكالة المخابرات المركزية التي قُدمت للدعوى القضائية، وقائع تطبيق هذه الأساليب خلال استجواب الوكالة لأبو زبيدة خلال سنة 2002، الذي تم إيهامه بالغرق لما لا يقل عن 83 مرة. وكان ميتشل قد انضم إلى ذلك الاستجواب بعد بضع أسابيع من تسليم أبو زبيدة، الذي تم إلقاء القبض عليه في باكستان خلال شهر آذار/ مارس، إلى أول موقع أسود للوكالة في تايلاند. كما اكتست العديد من اتصالات فريقه مع المكاتب الرئيسية لوكالة المخابرات المركزية، صبغة مختبر تجريبي.
في ذلك المكان، تحمل سلسلة من تصاميم صناديق الاحتجاز أسماء تتعلق بمدى التأثير النفسي لهذا الصندوق. ويوجد المزيد من التعليقات حول البناء والتفاصيل المتعلقة بصندوق الاحتجاز الإضافي الذي سيستخدم أثناء التحقيق المقبل لأبي زبيدة”.
في سياق متصل، تصف البرقيات بالتفصيل كيف تجمع وكالة الاستخبارات الأمريكية في جلسات الاستجواب الفعلية بين تقنياتها وتأثيرها المدمر اللاإنساني. وفي إحدى المقاطع من برقية تحتوي على ست صفحات، تصف “اليوم السادس من المرحلة العدوانية” لاستجواب أبو زبيدة، الذي وقع رهن الاعتقال في التاسع من شهر آب/ أغسطس سنة 2002، حيث جاء أن المحققين أشاروا إلى الصندوق الصغير وقالوا لأبي زبيدة: “أنت تعرف ما يجب أن تفعل”.
بعد مرور ثمانية أسابيع، جاءت برقية من الموقع الأسود التايلندي يمدح نجاح “المرحلة الوحشية” التي استغرقت ثلاثة أسابيع في استجواب أبو زبيدة، والتي كان الهدف منها “التعجيز التام للمتهم وحثه على الامتثال لتعليمات المحققين وتعاونه معهم”
حيال هذا الشأن، قال فريق ميتشل إن “المتهم كان يجلس على الأرض ويحبس نفسه في صندوق صغير لمدة 1000 ساعة دون الاحتجاج أو الإدلاء بأي تعليقات إضافية”. وخلال الساعات الثماني التالية، تم نقل أبو زبيدة ذهابا وإيابا بين صناديق الاحتجاز الكبيرة والصغيرة، ثم ينتقل السجين إلى تقنية أخرى تعرف باسم “محاكاة الغرق”. وفي هذا الإطار، قال المحقق له مرة أخرى: “أنت تعرف ما يجب عليك القيام به”، ثم تم إغراق السجين بالمياه. وأردف قائلا “بإمكانك إنهاء هذا العذاب إذا اعترفت للمحققين بما يريدون أن يعرفونه”، إلا أن المتهم أبى الإدلاء بأي اعترافات.
بعد مرور ثمانية أسابيع، جاءت برقية من الموقع الأسود التايلندي يمدح نجاح “المرحلة الوحشية” التي استغرقت ثلاثة أسابيع في استجواب أبو زبيدة، والتي كان الهدف منها “التعجيز التام للمتهم وحثه على الامتثال لتعليمات المحققين وتعاونه معهم”، فضلا عن “الوصول إلى المرحلة التي يتم فيها تحطيم إرادته وقدرته على مقاومة الاستجواب أو نفيه لتزويدنا بالمعلومات”.
في تلك البرقية، كتب ميتشل أن هذا النموذج من التعذيب يجب أن يُستخدم كقالب لاستجواب السجناء ذوي القيمة العالية في المستقبل”. كما أفاد ميتشل في نفس تلك البرقية بأن “عمليات بناء مرفق كوبالت الذي يقع بالقرب من كابول على وشك الانتهاء”.
بعد مضي شهر على عملية تسلم السجناء الأولين، إلى المنشأة التي يدوم فيها الظلام 24 ساعة، وصفت مذكرة لوكالة المخابرات المركزية الدور الذي سيضطلع به علماء النفس في برنامج الاستجواب الموسع للوكالة. وقد جاء في تلك المذكرة ما مفاده أن “التقييم المباشر، الذي يطلق عليه اسم امتحان الحالة العقلية، يمكن القيام به بعد فترة وجيزة من عملية الاستجواب المبدئية التي يقوم بها كل من جيمس أو بروس”.
بفضل امتحان الحالة العقلية، سيتسنى لعلماء النفس “تحديد أفضل الضغوط الجسدية والنفسية التي ستكون ضرورية للحصول على هذا الفرد في حالة امتثاله التام في أسرع وقت ممكن”. ولتحقيق الهدف المرجو من تسليط أساليب الاستجواب المعزز، كان المحققون التابعون لوكالة الاستخبارات المركزية والبنتاغون يقرؤون وثائق عن التدابير المضادة التي يجب أن يعتمدوها، ويشاهدون برامج على بوربوينت، فضلا عن أنهم يحضرون تدريبات عن كيفية استخدام هذه التقنيات.
في هذا السياق، ورد في رسالة بريد إلكتروني إلى ميتشل بعد تجمع مجموعة من المحققين وعلماء النفس والأطباء النفسيين من غوانتانامو “جيمس لقد استمتعت حقا بالمؤتمر”. فضلا عن ذلك، تطرق الكاتب للحديث عن معتقل غيتمو، حيث يندد بأن “المعتقلين يديرون كل جانب من جوانب المخيم، ولا يملك المحققون سوى القليل من السيطرة عليهم (إن وُجدت)”، ولا يغتنمون فرصة للاستفادة من “صدمة الالتقاط” (أي عملية التعذيب التي تهدف لشل حركة المعتقل وحواسه)، ولا من طرق التعذيب”. وأضاف الكاتب أنه “يتعهد بإرسال نسخ من وثائق التدابير المضادة إلى غوانتانامو، قائلا: “من الواضح أنك وبروس بحاجة إلى المشاركة في ذلك لكي تتم عمليات التعذيب بشكل صحيح”.
محمد بن سعود
“تجاهل صارخ للأخلاقيات”
بعد ستة أشهر، وخلال شهري آذار/ مارس ونيسان / أبريل من سنة 2003، أصبح محمد بن سعود وسليمان عبد الله سالم اثنين من 39 رجلا تعرضوا لأساليب ميتشل وجيسين للاستجواب المعزز في سجون المخابرات المركزية السرية.
بعد شهر من وفاة غول رحمان، أضيفت عشرة سخانات غاز إلى الزنزانة، لكن لم يتغير إلا القليل فيما أسماه جيسين بروتين كوبالت “السيء”. وكان سالم وبن سعود لا يزالان محتجزان في الظلام ومقيدان على مدار الساعة، وغالبا ما كانا عاريان، أو مربوطان إلى الجدار أو بالحبال من أجل حرمانهم من النوم. خلال جلسات الاستجواب، تعرض السجينان أيضا للصفع ومحاكاة الغرق والتلاعب بالنظام الغذائي (حيث وضعا عاريين في وسط صفائح من البلاستيك وأجبروا على الاستلقاء في برك من الماء الجليدي وتقضية ساعات في صناديق الحجز.
خلال المحاكمة القضائية، أكد كل من جيسين وميتشل أنهما لم يستجوبا مباشرة بن سعود وسالم، لذلك هما لا يتحملان مسؤولية علاجهما. والجدير بالذكر أن مرفق كوبالت قد تم تصميمه وفقا لرؤيتهما التي تطمح لإرساء مرفق تعذيب مثالي. وبعد وفاة رحمان كان يجب على جميع المحققين الذين يديرون أساليب الاستجواب المعزز تدريب وتوثيق تقنيات ميتشل وجيسين. ويبدو أن تجربة بن سعود وسالم كانت بمثابة حقبة بعد أن أصبحت “أساليب الاستجواب المعزز” روتينية.
سليمان عبد الله سالم
في الوقت الذي تم فيه استجواب سالم وبن سعود، كان نجم ميتشل وجيسين في تراجع. فقد تخللت مذكرات وكالة المخابرات المركزية الداخلية من ربيع وصيف سنة 2003 تعليقات مثيرة للجدل. علاوة على ذلك، جاءت في مذكرة كُتبت خلال شهر حزيران سنة 2003 تحذيرا مفاده أنه “على الرغم من أن هؤلاء الرجال يعتقدون أن طريقتهم هي السبيل الوحيد، يجب أن يكون هناك جهد لتحديد الأدوار والمسؤوليات قبل أن تتطور غطرستهم ونرجسيتهم إلى صراع غير فعال على أرضية الميدان، حيث يبدو أن جملة التدابير التي اتخذها كل من جيم وبروس غير مناسبة”.
على خلفية ذلك، أثار مقترح توسيع دورهما ليشمل تقييم آثار أساليب الاستجواب بعض ردود الفعل اللاذعة، التي تفيد بأنه “لا يوجد أي مهني في هذا المجال سيعتمد حكمهم في وقت لاحق كعلماء نفسيين يُقيمون موضوعات أساليب التعذيب المعزز التي اعتمدوها”. وفي سياق متصل، قال الكاتب إنه “تمّ رفض مقترح مشاركتهما في صياغة مدونة أخلاقيات الاستجواب لوكالة المخابرات المركزية لأنهما “أظهرا تجاهلا صارخا للأخلاق المشتركة بين جميع زملائهم تقريبا”.
خلال شهر أيار/ مايو من سنة 2003، تم الإعلان في إحدى المذكرات أنه “أثناء مناقشاتي مع جيم وبروس الأسبوع الماضي، عرفت أن أدوارهما في البرنامج سوف تتغير، ومن الآن فصاعدا سيضطلعان في الغالب بعمل استشاري إستراتيجي بحت، وسوف يقومان ببحوث ومشروعات تطوير البرامج، وسيجري استبعادهما من الاستجوابات. علاوة على ذلك، سوف تكون المهام الجديدة الموكلة إليهما إصلاحية”.
في إحدى الدراسات، كان على كل من جيسين وميتشل البحث كيف يمكن لوكالة المخابرات المركزية تطوير وتطبيق تقنيات أقل تدخلا. وفي مرحلة أخرى، سيقومان بصياغة ورقة لمساعدة المحققين على “اكتساب فهم عملي لكيفية عمل الذاكرة البشرية” و”مساعدة الناس على فهم لماذا لا يتذكر بعض الناس الأهداف ذات القيمة العالية، مثل البشر العاديين”.
أما الدراسة الثالثة، تتمحور حول التقلبات الكاملة لدور ميتشل وجيسين في برنامج الموقع الأسود لوكالة المخابرات المركزية: وفي الوقت الراهن، هما بصدد تطوير برنامج انتقالي من شأنه أن يعد أبو زبيدة وسجناء آخرين كانوا في الموقع الأسود لعملية نقلهم إلى غوانتانامو، وهي عملية “صعبة للغاية” نظرا للمعاملة التي تلقوها في المواقع السوداء.
بناء على هذه الدراسات، سوف يضع كل من جيم وبروس خطة تحتوي على خطوات محددة من شأنها “توفير الهيكل المناسب ومعنى لحياة الأهداف ذات القيمة العالية الذين هم جميعهم من الشباب، وسوف يبقون محتجزين لبقية حياتهم. وتهدف هذه الخطة إلى تضمين توصيات حول “المتغيرات المهنية والترفيهية والفكرية والطبية والنفسية”، والإجابة على أسئلة على غرار “ما هو الوقت اللازم للبقاء خارج العزلة، وما هي المحفزات الخارجية المناسبة، وما هي أنواعها؟”
تم رفع السرية عن وثيقة داخلية من وكالة المخابرات المركزية، كشفت أن الفريق ألغى أربع من التقنيات بشكل مباشر، بما في ذلك ثلاث تقنيات عانى منها كل من سالم وبن سعود في كوبالت.
خلال شهر أيلول/ سبتمبر، نُقل أبو زبيدة ومجموعة صغيرة أخرى من الأشخاص الذين تعرضوا للتعذيب في المواقع السوداء بهدوء إلى سجن غوانتانامو. وبعد ستة أشهر، نُقلوا إلى المرافق التي تسيطر عليها وكالة المخابرات المركزية في الخارج، وذلك قبل أن تقرر المحكمة العليا أن سجناء غوانتانامو لهم الحق في تقديم التماسات إحضار أمام المحاكم الأمريكية. وسيكون ذلك بعد عامين ونصف، قبل أن يتم نقل أبو زبيدة وثلاثة عشر سجينا آخرين، تعرضوا لأسوأ أساليب تعذيب ميتشل وجيسين، إلى سجن غوانتانامو للبقاء هناك.
المخيم السادس في غوانتانامو
بين سنتي 2003 و2007، تم تعليق سلطة استخدام تقنيات ميتشل وجيسين عدة مرات وإعادة النظر في شرعيتها وفعاليتها. وكانت كل المراجعات ذات مصداقية في وصف أساليب الاستجواب الوحشية التي يعتمدانها. وفي هذا الإطار، قال مكتب وكالة المخابرات المركزية للخدمات الطبية في إحدى مراجعته الداخلية، إن تعاون أبو زبيدة “لا يرتبط بجلسات محاكاة الغرق”. وحتى عندما استجاب أبو زبيدة لتحقيقاتهم، لم يكن ذلك بسبب غرقه، بل لأن “سير عملية الاستجواب قد تغير إلى مواضيع كانت لديه معلومات عنها”.
خلال شهر تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2006، قام كبار محققي وكالة الاستخبارات المركزية وعلماء النفس والمديرين باستعراض جميع أساليب الاستجواب المعزز، التي تمت الموافقة عليها، وأعدوا قائمة جديدة لعرضها على الكونغرس تتوافق مع قانون اللجان العسكرية الذي تمّ سنّه مؤخرا.
والجدير بالذكر أنه تم رفع السرية عن وثيقة داخلية من وكالة المخابرات المركزية، كشفت أن الفريق ألغى أربع من التقنيات بشكل مباشر، بما في ذلك ثلاث تقنيات عانى منها كل من سالم وبن سعود في كوبالت. وقد أشار ميتشل إلى مراجعة الوكالة في كتابه “أساليب الاستجواب المعزز”، الذي نشر في خضم عملية التحقيق السابقة لمحاكمة السنة الماضية.
لم يقم أي من كبار مسؤولي وكالة المخابرات المركزية أو المسؤولين في إدارة بوش، الذين وافقوا على الترويج لأساليب ميتشل وجيسين، بأي شيء غير الاعتراف بدورهم في دعم برنامج الموقع الأسود الذي لا يزال مخفيا في الوثائق الصادرة.
حيال هذا الشأن، كتب ميتشل “لقد اتفقنا بالإجماع تقريبا على أن اثنين من أساليب الاستجواب المُعزز مطلوبان لعملية التحقيق: محاكاة الغرق والحرمان من النوم، في حين أن الأساليب الأخرى كانت مفيدة أحيانا، والبعض الآخر مثل العري، والصفع، واللكم على الوجه، والتلاعب الغذائي، والسجن الضيق، فأنا أعتقد مع بروس أن يمكن الاستغناء عنها”.
أقر جورج دبليو بوش بوجود سجون الموقع الأسود التابعة لوكالة الاستخبارات المركزية. كما أعلن عن نقل المعتقلين البالغ عددهم 14 ذوي القيمة العالية، إلى خليج غوانتانامو في السادس من أيلول/ سبتمبر 2006.
من جانب آخر، لم يقم أي من كبار مسؤولي وكالة المخابرات المركزية أو المسؤولين في إدارة بوش، الذين وافقوا على الترويج لأساليب ميتشل وجيسين، بأي شيء غير الاعتراف بدورهم في دعم برنامج الموقع الأسود الذي لا يزال مخفيا في الوثائق الصادرة. وقد تم تقديم رشاوي للعديد من ضباط وكالة المخابرات المركزية الذين شاركوا في برنامج تعذيب الموقع الأسود من قبل ميتشل وجيسين وشركائهما.
بالإضافة إلى ذلك، أدى الاتفاق الذي تم التوصل إليه في الشهر الماضي أثناء الدعوى، إلى الاعتراف رسميا بأن الرجال تعرضوا للأذى بسبب “أساليب الاستجواب المعزز” في المواقع السوداء التابعة للوكالة، وهي أول بادرة تعويض لضحايا برنامج تعذيب الوكالة بعد أحداث 11 أيلول/ سبتمبر.
في بيان صدر عن الاتفاق، قال ميتشل وجيسين إنه “من المؤسف أن السيد رحمان والسيد سالم والسيد بن سعود عانوا من هذه الانتهاكات” في حين نفوا مسؤوليتهما عن سوء المعاملة التي تعرض إليها هؤلاء الرجال. وجاء في نفس البيان أن “كلا من الدكتور ميتشل وجيسين يؤكدان أن الانتهاكات التي تعرض إليها السيد سالم والسيد بن سعود قد وقعت دون علمهما أو موافقتهما، وأنهما لم يكونا مسؤولين عن تلك الأعمال. كما يؤكد كل من الدكتور ميتشل وجيسين أنهما غير مدركين للانتهاكات المحددة التي أدت في النهاية إلى وفاة السيد رحمان، وينفيان مسؤوليتهما عن تلك الأعمال.
وبعد مرور 15 سنة على موت غول رحمان مجمدا في زنزانة مظلمة، أكدت الأدلة التي تم تجميعها أثناء التحقيق قبل المحاكمة كيف كانت تكتيكات ميتشل وجيسين الوحشية غير مجدية، وكيف تم رفضها داخل وكالة المخابرات المركزية منذ أكثر من عقد من الزمن.
المصدر: صحيفة الغارديان