الجندي الأمريكي آرون بوشنيل، توجَّه في 25 فبراير/شباط الماضي، بعد ظهر يوم الأحد، إلى السفارة الإسرائيلية في واشنطن، مرتديًا زيه العسكري، وعندما اقترب من المبنى، صوَّر نفسه وهو يسكب سائلًا قابلًا للاشتعال من زجاجة على رأسه، ثم استخدم ولاعة لإشعال النار في نفسه، وهو يصرخ محتجًا على موقف بلاده من الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، وبعد دقائق توافدت قوات الأمن إلى مكان الحادث، لكنه توفي في المستشفى متأثرًا بجراحه في وقت لاحق من ذلك اليوم.
لحق مشهد الشاب الذي تخلى عن كل شيء من أجل لفت الانتباه إلى معاناة الشعب الفلسطيني وهو ما زال في مقتبل العمر، تغطية إعلامية مشينة من الوسائل الغربية التي اختلفت ردود فعلها بين الإدانة والسخط والتعتيم على أهم جوانب القصة، إذ استخدمت عناوين مائعة تتجنب تناول أسباب الاحتجاج السياسي، ما أفقد القصة زخمها وهوَّن من تأثيرها على الرأي العام.
تضليل إعلامي
كان آرون بوشنيل (25 عامًا) عضوًا نشطًا في القوات الجوية الأمريكية منذ عام 2020، ومتخصصًا في عمليات الدفاع السيبراني، مقيمًا في أوهايو منذ أواخر العام الماضي، وكان من المقرر أن تنتهي خدمته في مايو/أيار المقبل، ليبدأ بعدها العمل في مجال برمجة الكمبيوتر، لكن مبادئه كلفته حياته.
قبل أن يضرم الجندي الأمريكي النار في نفسه، يبدو أنه فكر مليًا ثم بث فيديو مباشر ذكر فيه بوضوح ومثير للقلق الغرض مما كان يفعله، وما كان على وشك أن يفعله، وأُرسل هذا الرابط مسبقًا عبر البريد الإلكتروني لبعض وسائل الإعلام، للتأكد من أن الصحفيين سيتمكنون من الوصول إلى هذه المعلومات وسرد القصة كما يرونها، نظرًا للطبيعة القاسية للفعل الاحتجاجي الذي قام به.
منذ احتجاج بوشنيل كانت هناك جهود واضحة ومنسقة لإخفاء دوافعه، فقد أجمعت وسائل الإعلام الغربية على صياغة واحدة: “رجل” أو “عضو في القوات الجوية أضرم النار في نفسه خارج السفارة الإسرائيلية”
في مقطع الفيديو الذي تم تسجيله قبل وفي أثناء حرقه نفسه، ذكر بوشنيل بوضوح أنه لن يكون متورطًا في الإبادة الجماعية، في إشارة واضحة للعدوان الإسرائيلي على غزة، وبدا من كلماته أنه أصبح يشعر بخيبة أمل تجاه الجيش الأمريكي ودوره كعضو في الخدمة، وحين كان يحترق بسرعة حتى الموت، كان يصرخ مرارًا وتكرارًا: “فلسطين حرة”، بينما يأمره ضابط شرطة بملابس مدنية أو أحد أفراد أمن السفارة “بالانبطاح على الأرض” في مشهد هزلي، ويوجِّه مسدسًا نحو الرجل المحتضر.
لذلك كان هناك سبب واضح لهذا الفعل، نبَّه إليه بوشنيل بقوله إنه كان “على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف”، لكنه استدرك “بالمقارنة مع الفظائع المرتكبة ضد الفلسطينيين في غزة، فإن هذا العمل لم يكن متطرفًا كما دأبت الطبقة الحاكمة على إقراره بأنه وضع طبيعي”، وهذا يعني أنه يحمِّل حكومته المسؤولية بأكثر الطرق الممكنة تطرفًا لعدم الحصول على حقه في بلد يدَّعي أنه ديمقراطي.
تبدو هذه لغة واضحة تمامًا استخدمها بوشنيل لشرح سبب قيامه بما فعله، لكن عند رؤية التغطية الغربية السائدة في منافذ الأخبار الرئيسية، لم يكن في أي من العناوين الرئيسية المتشابهة التي نُشرت حتى في بداية الواقعة أي شيء يُذكر عن سبب احتجاج بوشنيل، واكتفت بذكر الحادثة واسم الجندي، وفي النهاية تم تحديثها لإضافة أجزاء من القصة والاقتباسات التي لم تكن كاملة في أي منها.
Why did he do it?
Four major news outlets have almost the exact same headline for the self-immolation of 25-year old Aaron Bushnell. Not one of them mentions the words “Gaza” or “genocide,” the reason for Aaron’s protest, or the word “Palestine,” his last words spoken. pic.twitter.com/MdRCFsptzD
— Assal Rad (@AssalRad) February 26, 2024
منذ احتجاج بوشنيل كانت هناك جهود واضحة ومنسقة لإخفاء دوافعه، فقد أجمعت وسائل الإعلام الغربية على صياغة واحدة: “رجل” أو “عضو في القوات الجوية أضرم النار في نفسه خارج السفارة الإسرائيلية”، وخلت العناوين الرئيسية من الكلمات التي قالها بوشنيل بوضوح مثل: “الاحتجاج” أو “الإبادة الجماعية” أو “غزة” أو “الفلسطينيين” أو “فلسطين حرة” أو “التواطؤ الأمريكي”.
ما كان يتحدث عنه لم يكن مجرد تصرفات “إسرائيل”، بل ما كان يحدث للفلسطينيين، لكن إذا كان هذا الجندي يحتج على أفعال دولة أخرى – على سبيل المثال أوكرانيا – فإن الطريقة التي كانت ستغطي بها وسائل الإعلام الأمر ستكون مختلفة تمامًا، لأن دور وسائل الإعلام أصبح في الوقت الراهن الحفاظ على أي موقف سياسي للإدارة الأمريكية.
How would American media cover a Russian soldier self-immolating in Moscow to protest Putin?
It would probably mention a reason for the tragic act of defiance in the headline. https://t.co/WYFKK7iXtk
— Waleed Shahid 🪬 (@_waleedshahid) February 26, 2024
وفي حالة بوشنيل، تنوعت أساليب سرد القصة بين التلاعب والتشويه والاجتزاء، ففي هذا التقرير مثلًا، الذي عرضته قناة “الحرة” الممولة أمريكيًا، يمكن بسهولة ملاحظة تجنب عرض الجزء الأهم في مقطع الفيديو الذي بثه بوشنيل قبل وفاته مباشرة، والذي يتهم فيه الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب الإبادة الجماعية في غزة، وأنّ إحراقه لنفسه لا يُقارن بما يرتكبه الاحتلال بحق سكان غزة.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للصحف الغربية الكبرى، ففي صحيفة “الغارديان” البريطانية، لم يُذكر إطلاقًا سبب ما فعله الجندي الأمريكي في عنوان الخبر، واكتفت بالإشارة إلى أنه هتف “الحرية لفلسطين” قبل أن يحرق نفسه، في حين حصرت قناة “MSNBC” الأمريكية الدوافع في اعتراضه على حرب “إسرائيل” وحماس، وهو ما من شأنه أن يوحي للقارئ بأن بوشنيل أنهى حياته ليس احتجاجًا على الإبادة الجماعية في غزة أو التواطؤ الأمريكي في الحرب.
في مثال آخر، اكتفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية بالإعلان عن “وفاة رجل بعد أن أشعل النار في نفسه خارج السفارة الإسرائيلية في واشنطن، حسبما تقول الشرطة”، وربما كان هذا العنوان الأكثر تمييعًا وإخراجًا عن السياق على الإطلاق.
لذلك قد يتساءل البعض عما كان سيُقال في عام 1965 لو أن الصحيفة الأمريكية التي حققت أرقامًا قياسية نشرت عناوين رئيسية مثل: “الشرطة تقول إن امرأة ثمانينية من ديترويت ماتت بعد أن أشعلت النار في نفسها، حدث لا علاقة له بمعارضة المرأة المذكورة لحرب فيتنام أو أي شيء من هذا القبيل”.
الحقيقة أنها ذكرت حينها ما أغفلته عمدًا في واقعة بوشنيل رغم تشابه الأحداث والدوافع، وعنونت مقالها بهذه الكلمات: “امرأة تبلغ من العمر 82 عامًا تضرم النار في نفسها في الشارع احتجاجًا على الحرب في فيتنام”، وذكرت في تفاصيل الخبر أن “ناشطة السلام أليس هيرز فعلت ذلك احتجاجًا على السياسة الخارجية للولايات المتحدة”.
تختلف رواية الأحداث كثيرًا عند الحديث عن التضحية بالنفس المرتبطة بحرب فيتنام، ما يوحي بازدواجية معايير، ويمكن ملاحظة ذلك في وصف المؤرخ والصحفي الأمريكي ديفيد هالبرستام للراهب الفيتنامي المحترق ثيش كوانج دوك عام 1963 في سايغون، احتجاجًا على التمييز والعنف الرسمي المناهض للبوذية من حكومة فيتنام الجنوبية آنذاك، والذي شوهدت صورة إحراق نفسه في جميع أنحاء العالم، واختارتها مجلة “التايم” ضمن أفضل 100 صورة في التاريخ، باعتبارها واحدة من أكثر الصور التي حركت العالم، وأحدثت تفاعلًا كبيرًا معها.
وفي حين أن هذا النوع من الاحتجاجات لا شك أنه محيِّر للكثيرين، فإن الإبادة الجماعية الإسرائيلية التي تجاهلتها وسائل الإعلام أكثر ترويعًا، رغم أن وسائل الإعلام هي ذاتها التي يصر النقاد على أن صورة الراهب البوذي المشتعل وتقارير الصحفيين الغربيين الواردة من فيتنام كانت مسؤولة عن سقوط الرئيس نغو دينه ديم وهزيمة أمريكا وإذلالها في نهاية المطاف بفيتنام.
اندفعت وسائل الإعلام نحو إضفاء الصبغة المرَضية على تصرفات بوشنيل لتقويض احتجاجه من خلال الإشارة إلى أنه كان رجلًا “غير سليم العقل”
سعت بعض وسائل الإعلام إلى تبرئة ساحتها من التجاهل المتعمد للأحداث، مثل الإذاعة الوطنية العامة “NPR” التي عمدت إلى القول إنها “لا تستطيع التحقق من هوية الرجل ودوافعه”، وتحدثت عن انتظار نتائج التحقيقات التي تجريها الشرطة المحلية والخدمة السرية ومكتب الكحول والتبغ والأسلحة النارية والمتفجرات، رغم أن بوشنيل قال بوضوح إن ما فعله كان احتجاجًا ضد المذبحة التي تدعمها الولايات المتحدة ويرتكبها حاليًا جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
وسائل إعلام أخرى تطرقت إلى ما هو أبعد من الواقعة، وأشارت إلى أنه “لم يصب أي من موظفي السفارة الإسرائيلية بأذى”، وأنه تم استدعاء فريق إبطال مفعول القنابل لفحص “مركبة مشبوهة” بالقرب من مكان الحادث، لكن لم يتم العثور على مواد خطرة، وهي تلميحات تشير إلى أن سلامة السفارة وموظفيها كانوا تحت التهديد أو الإرهاب بطريقة أو بأخرى.
MPD’s Explosive Ordnance Disposal (EOD) has also been requested to scene in reference to a suspicious vehicle that may be connected to the individual. This remains an active investigation at this time. (3/3)
— DC Police Department (@DCPoliceDept) February 25, 2024
بالإضافة إلى ذلك، كان هناك تجريد من الإنسانية في الطريقة التي تم تأطير هذه الرواية بها في وسائل الإعلام الغربية، ويحدث هذا بالنسبة للفلسطينيين، وحتى أولئك الذين يدافعون عنهم، وهذا ما يجعل الفظائع التي يرتكبها الاحتلال “مشروعة” في نظرهم، رغم أن هذا لا يشوه سمعة وسائل الإعلام فحسب، بل يُظهر مدى رسوخ هذه الأفكار في المجتمعات الغربية.
من الاضطراب العقلي إلى التطرف الديني
أصدرت شرطة واشنطن تقريرًا عن الحادث يتحدث عن رجل يعاني من “اضطراب عقلي” كان يسير خارج السفارة قبل أن يحرق بوشنيل نفسه، وأفاد جهاز الخدمة السرية الأمريكية بأنه استجاب لتقارير عن شخص “يعاني من حالة طوارئ طبية أو عقلية محتملة”، لافتًا إلى “نقله إلى مستشفى المنطقة”.
التقط العديد من الصحفيين هذه الرواية، واندفعت وسائل الإعلام نحو إضفاء الصبغة المرَضية على تصرفات بوشنيل، في محاولة لتقويض احتجاجه من خلال الإشارة إلى أنها كانت تصرفات رجل “غير سليم العقل”، رغم ما بدا واضحًا أن هذه التصرفات لم تكن نتيجة لمرض عقلي، بل نتيجة للإحباط والغضب العميقين، وهو نفس الشعور الذي تحترق به قلوب الملايين حول العالم.
وفي حالة بوشنيل، يبدو أن المؤسسات الإعلامية السياسية في الولايات المتحدة لم تكترث لمثل هذه التبريرات، وسعت لبذل قصارى جهدها، ليس فقط لتفريغ القصة من محتواها وإخراجها من سياقها، بل أيضًا لتشويه سمعة بوشنيل بعد وفاته.
على سبيل المثال، حذرت مجلة “التايم” من أن “سياسة وزارة الدفاع الأمريكية طويلة الأمد تنص على أن أعضاء الخدمة الفعلية يجب ألا ينخرطوا في نشاط سياسي حزبي”، كما لو أن التحريض على الإبادة الجماعية لم يكن نشاطًا سياسيًا حزبيًا.
علاوة على ذلك، تحدد المجلة أن اللوائح العسكرية الأمريكية “تحظر ارتداء الزي العسكري في أثناء الخطب العامة غير الرسمية والمقابلات والاعتصامات والمسيرات والتجمعات”، وغيرها من الأنشطة، في إشارة إلى مخالفة الجندي الأمريكي لهذه الضوابط، وهو ما يعرضه للعقوبات، وربما يمكن محاكمة رماد بوشنيل أمام محكمة عسكرية.
American media won’t question the mental health of those who gleefully blow up neighborhoods full of children and hunt, humiliate, torture and kill for sport as we see with the IDF. That isn’t viewed through a lens of dysfunction; but protesting it by self-immolation? Of course.
— Joseph M. Azam (@josephazam) February 26, 2024
بعض وسائل الإعلام لم تلتزم بهذه الصياغة، وغردت خارج السرب، وأضافت تفسيرات واجتهادات بما يخدم المصلحة الصهيونية، وافترضت أن يكون بوشينل مريضًا نفسيًا أو يعاني من اضطراب عقلي دون دليل، وأنه معروف بممارسة سلوك فوضوي قبل وفاته، ودعت إلى تخصيص رقم هاتف ساخن داخل الجيش لتقديم الدعم النفسي لأصحاب الميول الانتحارية.
وأخذت الكثير من وسائل الإعلام على عاتقها رفع مستوى الوعي بشأن الصحة العقلية ومنع الانتحار في هذا التوقيت بالذات، ففي أسفل العديد من الأخبار التي تحدثت عن الواقعة بالتحديد، يتم إعطاء القراء التعليمات التالية: “إذا كنت أنت أو أي شخص تعرفه تعاني من أزمة في الصحة العقلية أو تفكر في الانتحار، فاتصل أو أرسل رسالة نصية إلى الرقم 988، وفي حالات الطوارئ، اتصل بالرقم 911، أو اطلب الرعاية من مستشفى محلي أو مقدم خدمات الصحة العقلية”.
هذه العبارة المتداولة ذكرتها أيضًا بعض القنوات الأمريكية، مثل قناة “MSNBC” الأمريكية، في نهاية كل خبر عن بوشنيل، ويعني هذا بطبيعة الحال أن بوشنيل كان ببساطة ضحية “أزمة الصحة العقلية” وليس شخصًا يقدم احتجاجًا سياسيًا أكثر إقناعًا وتحديًا ردًا على واقع مزعج عقليًا للغاية.
أما صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، فذهبت في صلب تشريحها إلى شخصية الجندي الأمريكي ونشأته الدينية وميوله الفوضوية، إلى إسداء النصائح للتعامل مع الذين يمرون بأوقات عصيبة عقليًا، ثم عرجت إلى التحذير من وصول الاكتئاب والقلق والتفكير في الانتحار إلى مستويات تاريخية، خاصة بين الأطفال والمراهقين بسبب نقص التمويل لنظام الصحة العقلية في أمريكا.
في حين وصف بوشنيل تصرفه الاحتجاجي بـ”المتطرف”، عمدت بعض وسائل الإعلام إلى تصوير بوشنيل نفسه على أنه متطرف ديني
كما سارعت بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى تفسير تصرف بوشنيل بأنه ناجم عن علّة نفسية، ففي مقاله بصحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية وصف مايكل ستار تصرف بوشنيل بـ”حالة من الهستيريا”، وانتقد تمجيد اليسار الأمريكي له، مدعيًا أن “أي عمل من أعمال الاحتجاج السياسي الانتحاري يشكل خطوة أخرى نحو المزيد من أعمال العنف السياسي واسعة النطاق في أمريكا”.
وهناك الكثير من الأشخاص الذين نصَّبوا أنفسهم أطباءً نفسيين، وحاولوا تشخيص تصرفات بوشنيل على أنه مريض عقلي أو شخص يعاني من محنة، ومع ذلك ما يمكن الاتفاق عليه هو أنه كان منزعجًا أو قلقًا، لكن ما كان مفقودًا في القصة هو السبب وراء هذا الحزن، والذي ذكره بوضوح في مقطع الفيديو الذي نشره.
ووصف الصحفي في مجلة “Slate” مارك جوزيف ستيرن من يُقْدمون على هذا الفعل باعتباره شكلًا من أشكال الاحتجاج السياسي بأنهم “يعانون من اختلال عقلي”، وقال بلهجة انتقادية: “من غير المسؤول على الإطلاق أن نمدحهم لاستخدامهم مبررًا سياسيًا لوضع حد لحياتهم”.
I strongly oppose valorizing any form of suicide as a noble, principled, or legitimate form of political protest. People suffering mental illness deserve empathy and respect, but it is wildly irresponsible to praise them for using a political justification to take their own life.
— Mark Joseph Stern (@mjs_DC) February 26, 2024
هذه السردية نفاها أشخاص مقربون من بوشنيل، من بينهم روبي باربوزا التي التقته في أثناء قيامه بأعمال خدمة المجتمع عندما كان مقيمًا في سان أنطونيو بولاية تكساس، وقالت إنه نشأ على الساحل الشرقي في عائلة متدينة للغاية، وأضافت: “لا أعتقد أنه كان مريضًا عقليًا، ربما كان يعتقد كما يعتقد أشخاص آخرون أن هذا المجتمع مريض، وأرى أنه كان غاضبًا من السياسيين الذين يتجاهلون المتظاهرين”.
ويبدو أن ما تفعله القوات الأمريكية والإسرائيلية في غزة أكبر مما يستطيع قلب وعقل طيار حربي أمريكي تحمله، فقد شهد شخصيًا التداعيات النفسية التي يمكن أن تصاحب الخدمة العسكرية، وكان شاهدًا على فظائع الاحتلال الإسرائيلي والمجازر التي يرتكبها كل يوم بحق الأطفال والمدنيين، وتجويع الأهالي، وتدمير البنية التحتية، وحصار 1.5 مليون فلسطيني في مساحة لا تتعدى 55 كيلومترًا مربعًا، ما دفعه لرفض التواطؤ بهذه الجرائم.
وتبدو دوافع بوشنيل – التي تجاهلتها أو فسرتها وسائل الإعلام وفق الأهواء الشخصية أو رأس المال السياسي أو معاييرها المزدوجة – واضحة في انخراطه مباشرة في الحرب، فقد نقلت صحيفة “نيويورك بوست” الأمريكية عن أحد أصدقاء بوشنيل المقربين أنه أخبره ليلة وفاته أنه اطلع على معلومات سرية تفيد بأن الجيش الأمريكي متورط في في عمليات الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين، وأن جنودًا أمريكيين يقاتلون في الأنفاق التي تستخدمها المقاومة الفلسطينية في غزة، ويشاركون في الحرب داخل القطاع، ويقتلون أعدادًا كبيرة من الفلسطينيين.
صديق بوشنيل قال للصحيفة أيضًا إن بوشنيل يخدم في الجناح الـ70 في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع بالقوات الجوية الأمريكية، التي قيل إنه كان يعمل بوظيفة فني بخدمات الابتكار، وكان يطلع على بيانات للاستخبارات العسكرية الأمريكية من فئة “سري للغاية”، وأن بعضها كان متعلقًا بالحرب على غزة.
ومع ذلك، لا يبدو ما كشفه صديق آرون مستغربًا، حيث يُثار الحديث حول وجود قوات أمريكية منذ بداية الحرب بعد تصريح لإذاعة جيش الاحتلال في 23 أكتوبر/تشرين الأول الماضي يفيد بأن تل أبيب قررت تأخير الحرب البرية على غزة بانتظار وصول قوات أمريكية إضافية إلى المنطقة، كما تواجه الإدارة الأمريكية انتقادات داخلية للدعم الأمريكي المستمر للحرب الإسرائيلية على القطاع.
البيت الأبيض نفى منذ الأيام الأولى للتوغل الإسرائيلي البري في قطاع غزة على لسان متحدثيه أكثر من مرة مشاركة قوات أمريكية في الحرب، لكن صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية نقلت عن صديقة مقربة من بوشنيل قولها إنه كان يتذمر بشكل مستمر من وظيفته في القوات الجوية، وأنه كان على خلاف مع الجيش الأمريكي بسبب الغزو الأمريكي للعراق واحتلال أفغانستان.
واستنادًا إلى المعلومات المتوافرة، بدلًا من التكهنات حول الحالة العقلية لرجل فارق الحياة، كان بوشنيل مستاءً بشدة من تورط المكان الذي ينتمي إليه بشكل مباشر في الحرب على غزة، وفي صراعات أخرى بطريقة مختلفة، فهو الراعي العسكري الرسمي لـ”إسرائيل”، والمخول بتوفير الأسلحة والإمدادات الضرورية لمواصلة حربها ضد المدنيين الفلسطينيين، كما تقدم القوات الجوية الأمريكية معلومات استخباراتية عن الاستهداف الهجومي في القصف الجوي الإسرائيلي الضخم على غزة.
وفي حين وصف بوشنيل تصرفه الاحتجاجي بـ”المتطرف”، عمدت بعض وسائل الإعلام إلى تصوير بوشنيل نفسه على أنه متطرف ديني، واستدعت في هذا السياق اعتراضاته منذ زمن طويل على سلوك الشرطة العنصري، وأنه أبدى تضامنًا واسعًا مع المواطن الأمريكي من أصل إفريقي جورج فلويد الذي قضى اختناقًا تحت قدم شرطي أبيض جثا على عنقه.
على سبيل المثال، تحدثت صحيفة “واشنطن بوست” عن نشأة بوشنيل في مجمع ديني، وانتمائه إلى مجموعة تسمى “مجتمع يسوع” واجهت ادعاءات بالسلوك غير اللائق، وأشارت إلى أن لديه ميولًا آناركية (لاسلطوية) وماضي فوضويًا، واستدعت آراء شاركها مع أصدقائه سابقًا وصفتها بأنها “معادية للسياسات الأمريكية”، وذكرت أنه تحدث – قبل أقل من أسبوعين من وفاته – هو وصديق له عبر الهاتف عن هويتهما المشتركة كفوضويين، وعن أنواع المخاطر والتضحيات اللازمة ليكونا فعالين.
بوشنيل ألحق العار بوسائل الإعلام الغربية والسياسيين الذين يحاولون تشويه سمعة أولئك الذين يقفون مع فلسطين، بينما يبررون المذبحة الإسرائيلية
ولم يكتف البعض بالدوافع التي سردها بوشنيل، وسعوا إلى البحث عن دوافع أخرى تدينه، فقد سأل السيناتور الجمهوري توم كوتون وزارة الدفاع عما إذا كان بوشنيل قد أظهر أي “ميول متطرفة” في الماضي، وعندما سأل صحفي آخر عما إذا كان بوشنيل يمكن اعتباره “متطرفًا” بموجب تعريف البنتاغون للتطرف، تردد المتحدث باسم البنتاغون باتريك رايدر، ورفض التعليق على أي علاقات محتملة بين بوشنيل والجماعات المتطرفة.
وفقًا لمنظمة “STARRS” المعنية بتثقيف الأمريكيين حول مخاطر العنصرية والراديكالية، فإن جميع هذه المؤشرات تشير إلى أن بوشنيل أصبح – وفقًا لما ذكرته وسائل الإعلام – فوضويًا يساريًا متطرفًا يكره الجيش في أثناء عمله بجناح استخبارات القوات الجوية الذي يركز على التشفير واستخبارات الإشارات، وبالتالي كان يمثل تهديدًا أمنيًا كبيرًا.
في الواقع، يتناقض كل هذا مع ما ذكره زملاء بوشنيل السابقين الذين عملوا معه لدعم مجتمع المشردين في سان أنطونيو، تكساس، ووفقًا لوصفهم كان بوشنيل “واحدًا من أكثر الرفاق المبدئيين الذي عرفوه على الإطلاق، ويحاول دائمًا التفكير في كيفية تحقيق التحرر للجميع بابتسامة على وجهه”.
“He is one of the most principled comrades I’ve ever known,” said Xylem, who worked with Bushnell to support San Antonio’s unhoused residents.
“He’s always trying to think about how we can actually achieve liberation for all with a smile on his face,” said Errico. pic.twitter.com/C817qTvViW
— Talia Jane ❤️🔥 (@taliaotg) February 26, 2024
وكشفت تقارير إخبارية أن بوشنيل كتب قبل إحراق نفسه وصية خصص فيها كل ما يملك لمنظمات تدعم أطفال غزة، من بينها صندوق إغاثة أطفال فلسطين، وهي منظمة غير ربحية تعني بشؤون المرضى والجرحى وتقدم الإغاثة الطبية والمساعدات الإنسانية للأطفال والعائلات المتضررة من الحروب.
This is Aaron Bushnell, a 25 year old soldier who died protesting US complicity in Israeli genocide in Gaza. by setting himself on fire. He used to help the homeless in San Antonia and was extremely principled according to colleagues. Aaron passed away due to his injuries. Bless… https://t.co/NPGnn7fUea
— Marc Owen Jones (@marcowenjones) February 26, 2024
الكيل بمكيالين
حقيقة أن وسائل الإعلام الأمريكية حاولت إخفاء أن بوشنيل كان يحتج على الإبادة الجماعية الإسرائيلية أو أنه كان يفعل ذلك فقط لأنه يُفترض أنه “مريض عقليًا”، لا يمكن أن يكون توصيفًا عابرًا، فوفقًا للرواية الرسمية، إذا كنت تعتقد أنه من الجنون أن ترتكب الولايات المتحدة أو شريكها الإسرائيلي في الجريمة إبادة جماعية، فأنت المجنون.
تجنبت وسائل الإعلام الحديث عن تأثير احتجاج بوشنيل في الرأي العام الأمريكي أو أي ضغوط محتملة على موقف الإدارة الأمريكية من الحرب
لم تقم وسائل الإعلام بأكملها بنشر هذه القصة بشكل خاطئ عن طريق الصدفة، فهي نفس وسائل الإعلام التي أمضت الأشهر الخمس الماضية في محاولة إقناعنا بأن الإبادة الجماعية التي نشهدها جميعًا ليست في الحقيقة إبادة جماعية.
ولم يكن بوشنيل أول شخص يضحي بنفسه بهذه الطريقة احتجاجًا على الإبادة الجماعية، لكن الكثيرين لا يعرفون حتى أن امرأة كانت ترفع العلم الفلسطيني أشعلت النار في نفسها خارج القنصلية الإسرائيلية في أتلانتا، ديسمبر/كانون الأول الماضي، لأن وسائل الإعلام كانت صامتة تمامًا عن ذلك، وهو السبب الذي جعل وسائل الإعلام تشوِّه القصة عمدًا.
وعلى النقيض من البوعزيزي الذي كان يرد على مصادرة بضاعته وإساءة معاملة الشرطة له، والذي لم يتساءل أحد عما إذا كان مريضًا نفسيًا، ونادرًا ما وُصفت نهايته في وسائل الإعلام الغربية بأنها انتحار، يشير الاندفاع نحو تأويل تصرفات بوشنيل – على أنها تعاطف مع صراع عرقي ديني وقضية سياسية في بلد بعيد ليس له أي صلة عائلية به – إلى وجود معايير مزدوجة.
Not really. Taking your own life because you fear your livelihood has been destroyed seems a lot less crazy than taking it because you identify with a political cause in a distant country with which you have no familial connection.
— Sadanand Dhume (@dhume) February 28, 2024
وفي حين لم يلق بوشنيل إلا إشادة من المرشح الرئاسي المستقل كورنيل ويست، الذي اعتبر أن احتجاجه على الحرب في غزة جزء من رسالة “أخلاقية” إلى الولايات المتحدة، والذي يبدو أنه يستغل الحادثة سياسيًا مع اقتراب الانتخابات الأمريكية، سبق أن أشاد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بالمواطن التونسي باعتباره “بطلًا”، وقارنه بالوطنيّين الأمريكيين في “حركة الشاي” وأيقونة الحقوق المدنية الناشطة الأمريكية روزا بارك.
Online leftist immolating himself for a distant ethno-religious conflict quite different than a Tunisian street vendor driven to the brink by poverty, theft, and corruption.
— Christopher F. Rufo ⚔️ (@realchrisrufo) February 27, 2024
ووفقًا لوصف بيلين فرنانديز المحررة المساهمة في مجلة “جاكوبين”، التي تنتمي إلى عائلة من قدامى المحاربين في القوات الجوية الأمريكية، وشارك جدها في المذبحة بفيتنام، فإن بوشنيل “ألحق العار بوسائل الإعلام الغربية والسياسيين الذين يحاولون تشويه سمعة أولئك الذين يقفون مع فلسطين، بينما يبررون المذبحة الإسرائيلية”.
ومع كل حرب جديدة تشنها الولايات المتحدة أو تمولها يصبح من الواضح أكثر فأكثر أن وسائل الإعلام تلعب دورًا خاصًا في تصنيع الموافقة على الحروب من خلال التشكيك في المقاومة والمعارضة المشروعة للناس والأسئلة المتعلقة بالحرب، كما تلعب دور “محامي الشيطان”، وفي كثير من الأحيان، تكرر دون انتقاد ادعاءات البنتاغون المختلفة تمامًا مما يجعل الجمهور يخمن معارضتها للحرب.
وتروج وسائل الإعلام الرئيسية لرواية البنتاغون الكاذبة لتبرير غزو العراق، فقد سبق أن اختلقت القصص الزائفة للإطاحة بالنظام الليبي، ومؤخرًا عممت ادعاءات فاضحة بأن الفلسطينيين بنوا مراكز قيادة عسكرية أسفل المستشفيات، وهو ما يبرر الإبادة الجماعية التي ترتكبها “إسرائيل” في غزة.
تأثير محدود لكنه عابر للحدود
استحوذ هذا العمل المتمثل في التضحية بالنفس من جانب رجل واحد على الاهتمام العالمي، وأكسبه احتجاجه على الفور الثناء بين بعض النشطاء المناهضين للحرب والمؤيدين للفلسطينيين، ويظهر تأثير وفاته في التدفق الهائل للتعاطف والدعم على وسائل التواصل الاجتماعي، وكشفت رسائل التضامن من آلاف المعلقين عن مدى عمق الشعور بأفعاله.
وشغلت صورة بوشنيل الرأي العام الأمريكي وحتى العالمي، وخرجت العديد من المظاهرات لتأبينه وإعلان التضامن معه ومع أهالي غزة، وتجديد دعوته لإطلاق النار في غزة، وأصبحت المظاهرات المطالبة بوقف إطلاق النار في غزة أحداثًا أسبوعية في العديد من المدن الأمريكية.
آخر هذه الاحتجاجات كانت في مدينة بورتلاند الأمريكية حيث تجمع عشرات الجنود السابقين الذين أحرقوا أزيائهم العسكرية، ورفعوا لافتة كُتب عليها آخر الكلمات التي نطق بها آرون “فلسطين حرة”، احتجاجًا على استمرار المجازر الإسرائيلية في غزة.
#لقطات | قام جنود أمريكيون سابقون بحرق زيهم العسكري في مدينة بورتلاند في ولاية أوريغون تضامنًا مع "آرون بوشنيل" الجندي الأمريكي الذي أحرق نفسه قبل أيام أمام سفارة الاحتلال الإسرائيلي في واشنطن احتجاجًا على الإبادة الجماعية التي يتعرض لها المدنيون في غزة.#فيديو #إيكاد pic.twitter.com/dkBhPimsjA
— EekadFacts | إيكاد (@EekadFacts) February 29, 2024
وفي نفس الموقع الذي أحرق فيه بوشنيل نفسه، شارك مئات الأشخاص وعدد من الجنود السابقين في وقفة حداد وتضامن مع الطيار الأمريكي، وانتقد بعض زملاء بوشنيل تعامل الإدارة الأمريكية مع الحادثة، وعدم الاكتراث لأرواح الجنود حسب وصفهم.
بالنسبة لهؤلاء الناشطين الذين يشعرون بنفس اليأس العميق من مشاهد الإبادة الجماعية التي تُرتكب في غزة، وغيرهم ممن يشعرون بالغضب الخانق تجاه الساسة الرأسماليين المتعطشين للدماء الذين سمحوا بهذه المذبحة، أصبح بوشنيل “بطلًا” أظهر التضحية القصوى واتخذ الشكل النهائي للاحتجاج.
لكن على عكس ما كان يُتوقع أن تؤجج واقعة بوشنيل الاحتجاجات أكثر وتجعلها أشد زخمًا على صانع القرار الأمريكي، تجنبت وسائل الإعلام الحديث عن تأثير احتجاج بوشنيل في الرأي العام الأمريكي أو أي ضغوط محتملة على موقف الإدارة الأمريكية من الحرب.
ورغم كل محاولات وسائل الإعلام لتشويه سمعته، تجاوزت الآثار المترتبة على احتجاج بوشنيل فلسطين، وهو أمر ألمح إليه أحد المراسلين في مؤتمر صحفي بالبنتاغون في اليوم التالي لوفاة بوشنيل، عندما سأل المتحدث باسم القوات الجوية عما إذا كان احتجاج بوشنيل قد يشير إلى خلاف أوسع نطاقًا داخل صفوف القوات الجوية بشأن مقتل المدنيين في غزة، رفض الإجابة بشكل مباشر على السؤال، واكتفى بتقديم تعازيه لعائلة آرون، ووصف الحادث بأنه “مأساوي”، لكن أليست هذه هي المأساة التي حاول بوشنيل إيصالها؟
ربما لجأ بوشنيل إلى أسلوب احتجاجي “متطرف” لإدانة الإبادة الإسرائيلية في غزة والدعم الأمريكي لها، لكن الغضب الشديد الذي شعر به كان محسوسًا للكثيرين، وكل يوم تواصل فيه واشنطن توفير الغطاء لهذه الإبادة الجماعية ربما لن يؤدي إلا إلى تأجيج النيران التي أشعلها بوشنيل في نفسه.