شدت غزة أنظار العالم منذ 5 أشهر لأخبارها حتى نسي الناس أخبار بلدانهم، وما كل اهتمام بغزة تعاطف معها، فبعض من همشته غزة يتمنى فناءها حتى تصمت النشرات ويستعيد نجوميته.
غزة أنست العالم بلدان صغيرة منها تونس وديمقراطيتها المغدورة، حيث وصل الهوان بتونس أن خافت حكومتها من تحقيق تلفزيوني بثته قناة فرنسية غير مهمة، لا محليًا ولا عالميًا، حتى اضطر رئيس حكومة تونس أن يعرب عن قلقه من البرنامج قبل بثه، غيرةً منه على الصداقة الفرنسية التونسية. وأحاول هنا فهم الخوف من التحقيق وفرح الفرحين به من معارضي السلطة القائمة، ضمن مشهد سياسي تونسي أصفه بالتعيس والبائس.
تقرير لا يستحق المتابعة
لا أعلق على المحتوى فقد تعمدت تجاهل المتابعة، فقناة “أم ستة” الفرنسية قناة هامشية موجهة لجمهور الشباب ولا تؤثر في النخب والإعلام، وهي أقرب إلى التلفزة الصفراء، وصاحب التقرير متعالم يحاول نفخ اسمه في مشهد إعلامي عالمي ولا يفلح منذ عقود، لكن التونسيين في الحكم وفي المعارضة اهتموا بالتقرير اهتمامًا مفرطًا، فالحكومة خافت والجمهور المعارض تمنى للنظام ضربة قاضية، وكلاهما كشف ضعفه وهوانه.
الإعلان عن بث التقرير سبق زيارة رئيس الحكومة التونسية إلى باريس، فانتبه الناس إلى أن هناك زيارة مبرمجة، لأن أخبار الحكومة صارت آخر اهتمام التونسي المنكب على تدبر قوت يومه، خاصة وشهر رمضان على الأبواب.
صيغة الإعلان عن التقرير لم تشعر التونسي بأن هناك شيئًا لا يعرفه، فهو يبشر بالحديث عن المعيش اليومي وطوابير البحث عن السكر والزيت والطحين، لذلك استغربنا ارتباك الحكومة ورئيسها.
لكنه اضطراب ذكرنا بتاريخ طويل من خوف الحكومات التونسية من مقال يصدر في صحيفة فرنسية، فقد كان المسؤول التونسي يرتعب من جريدة “لوموند” إذا كتبت ضده، ويعرف أنه صار غير مرضي عنه في باريس.
وإذا غضبت باريس على حاكم تونسي (وفي شمال إفريقيا عامة) فهو إنذار بنهايته أو بالأحرى بداية رفع نسق الابتزاز السياسي لحكمه ومطالبته بأثمان عالية للبقاء في مكانه، وليس من هذه الأثمان أن يراعي قواعد الحكم الديمقراطي في بلاده، ففي كل مناورات الإعلام الفرنسي مع النظام التونسي يمكننا العثور على إجراءات اتخذت في مجالات اقتصادية وثقافية يستفيد منها الفرنسي في تونس، دون أن يغير النظام سياساته تجاه شعبه.
ونذكر أن المؤسسات الاقتصادية الفرنسية العاملة في تونس تقارب أو تفوق الـ40% من حجم المؤسسات العاملة خاصة في مجال اقتصاد المناولة، وإذا كان برنامج القناة الفرنسية يتحدث عن الركود الاقتصادي في تونس، فالإنذار هو أن المؤسسات الفرنسية تعاني صعوبات سببها النظام وعليه التصرف بما يلزم لمعالجة هذه الصعوبات، ولذلك يمكن أن ننتظر (بعد بث التقرير) إجراءات في المجال الاقتصادي (إعفاءات جمركية أو تخفيف ضريبي على مؤسسات المناولة)، لكن من غير المتوقع أن يكون هناك ضغط حقيقي لاستعادة الديمقراطية في تونس، فهذه الديمقراطية تهدد فرنسا أولا.
المعارضة الفاشلة
لم يصدر موقف رسمي من الشخصيات ذات الصيت، ولكن جحافل المدونين من الأنصار استبشروا بالتقرير وتمنوا أن يكون ضربة موجعة للنظام وهذه الأماني ليست جديدة، فقد تابعنا منذ زمن بورقيبة فرحًا مماثلًا بأي كلام متلحف بحرية إعلامية ينقد النظام التونسي، وكنا حينها نقرأ تلك المقالات كنجدة سماوية ضد نظام أعجز مواطنيه على كل معارضة.
بعد تجربة الربيع العربي وفجوة الحرية تعلمنا أن تلك المقالات ضربات موجعة للشعب الساعي نحو الديمقراطية، وهي تصدر لابتزاز النظام أكثر منها نصرة للشعب، ولا نرى تقرير القناة الفرنسية إلا من هذه الزاوية.
وكتبنا وتثبت لنا الوقائع كل يوم أن لا صديق للشعوب العربية في الغرب الأوروبي ولا مساعد لها على استعادة حرياتها، بل إن حرب الطوفان لم تزدنا إلا يقينًا بهذه الحقيقة، لكن ما أثار الاستغراب أن فئات سياسية كثيرة انتظرت خيرًا من تقرير ظاهره نقد للنظام وباطنه ابتزاز وضغط، لكن دون كلمة عن حقوق الإنسان التي بددها النظام بالانقلاب الفاشي.
وهو ما جعل كثيرين يتذكرون زيارة جاك شيراك لبن علي في قمة غطرسته وقوله للشعب التونسي “ما دام الخبز متوفرًا فحقوق الإنسان مرعية في تونس”، وهو قول يصلح في حديقة حيوان أيضًا.
لماذا تعول المعارضة وفئات واسعة من الناس على مثل هذا العمل الصحفي؟ وجوابنا هو عجزها عن الفعل والتغيير، فهي تعيش عجزها مضاعفًا حتى بلغت مرحلة طلب المخلص الأجنبي بمقال أو تقرير تلفزيوني ولو من تلفزيون المزبلة.
ونختصر فالحقيقة كالشمس أو أشد سطوعًا. الخوف من تقرير تلفزيوني أو الفرح ببثه يكشف حالة نظام فاشل ومعزول شعبيًا، وتكشف حالة شعب محتل وعاجز عن الدفاع عن نفسه ومستسلم لعجزه، وربما يستلذه أن الحالة التونسية حالة مدرسية يمكن تقديمها كدرس سياسي عن نموذج بلد محتل فاقد للإرادة، لا يتحكم في موارده ولا قدراته ولا يصنع مصيره، لكنه يخضع للابتزاز الاستعماري ليحتمي به من شعبه، والشعب بنخبه وجماهيره أعجز من الرد على القهر .
ونختم بلا معلومات ولكن بقياس الحاضر على غائب سلف سنة 1982 وبعد حصار بيروت والوصول إلى تهجير القيادة الفلسطينية، كان النظام التونسي يعيش أزمة مالية فقدمت له مساعدات كبيرة نظير استقبال الفلسطينيين في تهجير قسري بعيدًا عن ديارهم، وكان لفرنسا دور أشبه بدورها الحاليّ، فهي نصير للكيان وتمارس الحذلقة الإنسانوية وتحشر أنفها في كواليس المفاوضات، وما أشبه اليوم بالبارحة لولا أن الغزاوي قد يسقط حسابات الجميع في بحر غزة.