في شهر آب/أغسطس 2016 طالبت لجنة الشبيبة في الحزب الليبرالي الحاكم في كيبيك، بإنشاء لجنة لدراسة التمييز الممنهج في كيبيك، لم تكن هذه المطالبة الأولى من نوعها، لقد سبقها العديد من المطالبات الصادرة عن العديد من منظمات المجتمع المدني والنقابات والمثقفين والناشطين في مجال الدفاع عن حقوق الأقليات في المجتمع الكيبيكي.
نتيجة لكل هذه المطالبات، قررت حكومة كيبيك في شهر تموز/يوليو 2017 إنشاء لجنة التمييز الممنهج والعنصرية، لقد أعلنت تشكيل هذه اللجنة السيدة كاتلين ڤايل وزيرة الهجرة والتعددية والاندماج في حكومة كيبيك التي يرأسها السيد فيليپ كويَّار.
جاء هذا الإعلان بعد سلسلة من الأعمال العنصرية ورسائل الكراهية التي ظهرت في الساحة الكيبيكية، كان أخطرها الاعتداء المسلح على المصلين في مسجد كيبيك الكبير والذي أودى بحياة ستة مواطنين كيبيكيين مسلمين، ولكن منذ اللحظة الأولى لإعلان قرار إنشاء لجنة التمييز الممنهج والعنصرية ارتفعت الأصوات المعارضة لإنشائها.
أتت المعارضة بشكل رئيسي من الحزب الكيبيكي الذي يشكل المعارضة الرئيسيّة في برلمان كيبيك والذي يتزعمه السيد جان فرانسوا ليزي، وجاءت المعارضة أيضًا من ثاني أحزاب المعارضة البرلمانية وهو حزب تكتل مستقبل كيبيك الذي يتزعمه السيد فرانسوا ليغو.
لقد أجمع المحللون السياسيون على أن الحزب الليبرالي الحاكم، دفع ثمن إنشائه لهذه اللجنة لأن المجتمع الكيبيكي ككل يرفضها، ويعتبر أنها ستكون منبرًا لإدانته واتهامه بالعنصرية التي لا يرى لها وجودًا بين ظهرانيه
معارضة معارضي هذه اللجنة تمحورت حول محورين رئيسيين، أولهما أن التمييز والعنصرية غير موجودين في كيبيك، والثاني أنهم يتصورون أن هذه اللجنة ستستعمل من قبل أعداء كيبيك كمنبر لاتهام المجتمع الكيبيكي ككل بالعنصرية وتقديمه لمحكمة الرأي العام.
في وسط هذا الجو من التجاذب السياسي بين مؤيد ومعارض لإنشاء لجنة تدرس مسألة التمييز الممنهج والعنصرية جرت انتخابات نيابية فرعية في دائرة لوي – هابار في مدينة كيبيك عاصمة مقاطعة كيبيك، ويظهر يومًا بعد يوم أن اليمين المتطرف يتخذ هذه المدينة قاعدة لنشاطه ولمحاولته الانتشار في كل المقاطعة.
جاءت نتائج الانتخابات مخيبة لآمال الحزب الليبرالي الحاكم، فقد خسر المقعد الانتخابي في هذه الدائرة التي كان يسيطر عليها على مدى سنوات عديدة، والذي زاد من الطين بلة كما نقول نحن العرب بالنسبة لهذا الحزب أنه حصل على المرتبة الثالثة من حيث عدد الأصوات وراء حزبي المعارضة البرلمانية واللذين يعارضان بشدة إنشاء لجنة التمييز الممنهج والعنصرية وهما كما قلنا آنفًا الحزب الكيبيكي وحزب تكتل مستقبل كيبيك.
ولقد أجمع المحللون السياسيون، على أن الحزب الليبرالي الحاكم، دفع ثمن إنشائه لهذه اللجنة لأن المجتمع الكيبيكي ككل يرفضها، ويعتبر أنها ستكون منبرًا لإدانته واتهامه بالعنصرية التي لا يرى لها وجودًا بين ظهرانيه.
لا شك أن نتيجة الانتخابات الفرعية في دائرة لوي – هابار شكلت صفعة مريرة بالنسبة للحزب الليبرالي الحاكم في كيبيك، وشكلت أيضًا إنذارًا شديد اللهجة لهذا الحزب وغيره من الأحزاب الكيبيكية على أبواب الانتخابات النيابية العامة التي ستجري العام القادم.
وأدرك الحزب الليبرالي سريعًا أنه يتوجب عليه القيام بعمل ما، إذا أراد الفوز في الانتخابات البرلمانية القادمة والحفاظ على وجوده في السلطة، بعد هذه الصفعة الانتخابية ونتيجة لها، بدأ هذا الحزب، التفكير بالتراجع عن مشروع لجنة التمييز الممنهج والعنصرية التي أجمع المحللون أنها كانت السبب الرئيسي في هزيمته الانتخابية.
بعد هذه المقدمة الطويلة، والتي لا بد منها لوضع الأمور في نصابها، نصل إلى صلب الموضوع وهو التحدي الذي تواجهه الديمقراطية في الحفاظ على حقوق الأقليات في هذا المجتمع، إن هذه المقدمة تظهر لنا أمرين بالِغَيْ الأهمية والخطورة: الأول رفض بعض السياسيين الاعتراف بوجود الداء والثاني استعمال ضحايا الداء أدوات لتحقيق الغلبة في الصراعات السياسية.
رفض الاعتراف بوجود الداء: إن التمييز الممنهج موجود في المجتمع الكيبيكي، وظاهر للعيان ولا يستطيع إنكار وجوده إلا مكابر، هذا لا يعني ولا بشكل من الأشكال أن المجتمع الكيبيكي مجتمع عنصري، بل مجتمع مضياف ومنفتح، ولكن هنالك تمييز وعنصرية يعاني منها المهمشون في هذا المجتمع.
المواطن الذي يقع ضحية هذا التمييز الناتج عن انتمائه الديني أو العرقي هو الخاسر الأول، ولكن المجتمع ككل خاسر أيضًا، أولاً لأنه يخسر روحه كمجتمع عادل، ويخسر اقتصاديًا أيضًا نتيجة لهدر طاقات أبنائه الذين ينتمون لأقليات دينية أو عرقية.
كل الإحصائيات سواء الجامعية أو الحكومية، تثبت أن هذا التمييز موجود، فعلى سبيل المثال لا الحصر مدينة مونتريال وهي كبرى مدن كيبيك يُشكل المواطنون المنتمون إلى الأقليات الإثنية أو الدينية 30% من السكان بينما لا يشكل الموظفون البلديون المنتمون إلى هذه الأقليات أكثر من 14% من عدد الموظفين.
هذا الوضع يتكرر ولو بنِسَب متفاوتة في أكثر المؤسسات بما فيها المؤسسات الحكومية والأمنية، خلال جولة سريعة في شوارع مونتريال يرى الإنسان أن أكثر سائقي التاكسي ينتمون للأقليات الإثنية أو الدينية.
ما سبب هذا الواقع؟ هل أتى هؤلاء الناس إلى هذه البلاد ليعملوا سائقي تاكسي؟ طبعًا لا نريد الانتقاص من قيمة سائق التاكسي أو غيره من العاملين الشرفاء الذين يكسبون حياتهم بعرق جبينهم وليس هنالك عمل أفضل من عمل، ولكن الكثيرين من هؤلاء الناس يحملون شهادات جامعية وأصحاب اختصاصات، ولكنهم لم يستطيعوا الحصول على عمل في مجالات اختصاصاتهم، بسبب التمييز الممنهج الذي يرفض العديد من السياسيين الاعتراف بوجوده.
وهكذا يضطر الطبيب والمهندس والمحامي وأستاذ الجامعة، وغيرهم من أصحاب الكفاءات الذين لم يحالفهم الحظ بالولادة في حضن عائلة منتمية إلى الأكثرية، فيضطرون للعمل في أي مجال آخر لإعالة عيالهم.
من الخاسر نتيجة لهذا التمييز الممنهج؟ طبعًا المواطن الذي يقع ضحية هذا التمييز الناتج عن انتمائه الديني أو العرقي هو الخاسر الأول، ولكن المجتمع ككل خاسر أيضًا، أولاً لأنه يخسر روحه كمجتمع عادل، ويخسر اقتصاديًا أيضًا نتيجة لهدر طاقات أبنائه الذين ينتمون لأقليات دينية أو عرقية.
إن هذا المجتمع يصرف الأموال الطائلة على تعليم المهندسين والأطباء والمحامين وأساتذة الجامعات وغيرهم من أصحاب الكفاءات، وهنالك المئات من أصحاب هذه الكفاءات الذين تهدر كفاءاتهم ويضطرون للعمل في مجالات لا تتطلب أيًا من هذه الكفاءات ومنهم أيضًا من يضطره الواقع المرير للعيش على المساعدات الحكومية.
عندما يطالب المرء بالعمل على محاربة التمييز الممنهج، فإنه لا يُطالب فقط برفع الغبن عن المغبونين وأنصاف المواطنين المهمشين، وإنما يُطالب بوقف الهدر الاجتماعي والاقتصادي الذي يسببه هذا التمييز.
وثانيًا استعمال ضحايا الداء أدوات لتحقيق الغلبة في الصراعات السياسية، من حسنات الديمقراطية أنها تجعل من الحاكم خادمًا للشعب، وتعطي للشعب الفرصة في تغيير الحاكم الذي يسيئ استعمال الثقة التي حصل عليها في صناديق الاقتراع، وهكذا يكون ديدن الحاكم محاولة كسب رضى الناخبين، ليستطيع الحصول على أصواتهم في الانتخابات القادمة ليحافظ على وجوده في السلطة.
المجتمع الكندي بشكل عام والمجتمع الكيبيكي بشكل خاص ليس مجتمعًا عنصريًا، إنه مجتمع منفتح ومضياف والدليل على ذلك وجود هذا العدد الهائل من الكيبيكيين الذين ينتمون لأصول عرقية عديدة ويمارسون ديانات متعددة
ولكن هذه الحسنة تنقلب سيئة إذا أسيئ استعمالها، فمن مساوئ الديمقراطية أن الحاكم يحكم ويده على المقود وعينه على الانتخابات القادمة التي تتحول بحكم الواقع وحكم حب السلطة إلى هاجس يتحكم بالحاكم ليل نهار، رضى الناخبين، الذي هو بحد ذاته حجر الزاوية في صرح الديمقراطية، قد يتحول إلى معول يهدمها، لماذا؟
لأن النجاح في الانتخابات يحتاج إلى كسب أصوات أكبر عدد من الناخبين وهذا يعني في بلد متعدد الأعراق والديانات مملاءة للأكثرية، ولو كانت هذا المُملاءة في بعض الأحيان على حساب المبادئ والقيم الوطنية والانسانية.
وهكذا يُغَلِّب بعض السياسيين المصالح الآنيّة، على القيم والمصالح طويلة الأمد فتكون حملات التخويف من الآخر والتعامي عن معانات المهمشين من الأقليات في المجتمع، لأنهم لا يُشكلون ثُقلاً انتخابيًا كثقل المواطنين المنتمين للأكثرية، وهذا ما يحصل الآن في النقاش الدائر عن مسألة لجنة التمييز الممنهج والعنصرية والذي قد يؤدي إلى وأد هذه اللجنة في المهد.
إن المجتمع الكندي بشكل عام والمجتمع الكيبيكي بشكل خاص ليس مجتمعًا عنصريًا، إنه مجتمع منفتح ومضياف والدليل على ذلك وجود هذا العدد الهائل من الكيبيكيين الذين ينتمون لأصول عرقية عديدة ويمارسون ديانات متعددة، والمجتمع الكندي كان في طليعة المجتمعات التي قاومت نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وعملت على إسقاطه، ولكن هُنالك عنصرية وتمييز في كيبيك وفي كندا.
وكجميع المجتمعات التي تحترم نفسها وتحترم قيمها، يجب عليها أن تعالج هذا الداء إنصافًا لمن يعانون منه وحماية للمجتمع الذي قد ينخره هذا الداء إذا لم يُسْتَأصَل في الوقت المناسب، يجب ألا يُفسر العمل على تشخيص الداء واستئصاله تشويهًا لسمعة المجتمع الكيبيكي ولا تقديمًا لهذا المجتمع أمام محكمة الرأي العام وإنما محاولة مخلصة لحماية هذا المجتمع بكل أبنائه كائنة ما كانت أصولهم العرقية أو انتماءاتهم الدينية.