ترجمة وتحرير نون بوست
إن سياسة إطلاق العنان للإبادة الجماعية أمام أعين العالم معقدة، ورغم أن “إسرائيل” تمتلك القوة النارية اللازمة لقتل الجميع في غزة فقط، إلا أنه يتعين عليها أن تجد وسيلة “لتجريم” أهدافها. فعندما يشتبهون في أن أحد مقاتلي المقاومة يختبئ، أو يعيش فقط، في مبنى، فإن ذلك يكون بمثابة مبرر لهدم المبنى بأكمله، وأحيانًا المباني المحيطة به أيضًا. وباعتباره “الدولة الناشئة”، فقد قام جيش الإبادة الجماعية الإسرائيلي بتصنيع عملية تجريم الأهداف المدنية باستخدام الذكاء الاصطناعي.
ولكن حتى في ظل الطريقة العشوائية والدموية التي اتبعها الهجوم الإسرائيلي، فإن المذبحة التي تعرض لها طالبو الخبز الجائعون في شارع الرشيد بغزة يوم الخميس الماضي كانت مختلفة. ولم تزعم إسرائيل حتى أن قواتها تعرضت للهجوم أو أن هناك مقاتلين للمقاومة في كل مكان حولها. وقد حدثت هذه المذبحة بينما كانت إسرائيل تدعي “أنها تهتم” بالاحتياجات الإنسانية للسكان الفلسطينيين. وبدلًا من أن تكون حادثة مأساوية منعزلة، فإن “مذبحة الطحين”، كما أصبحت تسمى، يمكن فهمها في الواقع على أنها نذير للنظام الجديد الذي تحاول إسرائيل فرضه على شعب غزة بعد خططها ـ التي لا تزال بعيدة المنال حتى الآن ـ للقضاء على حماس. لقد كان ذلك انعكاسًا لخطة “اليوم التالي” التي وضعتها إسرائيل لغزة وكل فلسطين، وهي الاحتلال العسكري الدائم.
“إسرائيل” صنعت الجوع والفوضى
إن العملية الإسرائيلية الحالية في غزة متعددة الأوجه وتمتد إلى ما هو أبعد من مجرد القصف اليومي المميت من السماء والدمار الذي تقوم به القوات البرية، كما تقوم “إسرائيل” بتصنيع الجوع والفوضى في جميع أنحاء غزة.
أولا، يأتي الجوع، فحتى الآن، قامت “إسرائيل” عمدًا بتقليل كمية المساعدات الإنسانية التي تدخل غزة. وتتمثل العقبات الرئيسية في “عمليات التفتيش” الإسرائيلية المعوقة لجميع الإمدادات التي تدخل، سواء من مصر عبر معبر رفح أو مباشرة من كرم أبو سالم. بالإضافة إلى ذلك، سمح الجيش والشرطة عمدًا لعصابات اليمين المتطرف بعرقلة الحركة في نقاط التفتيش والمعابر، بحجة كل منهما أن حفظ النظام هناك هو مسؤولية الطرف الآخر. وفي 22 شباط/ فبراير؛ ذكرت هيئة البث الإسرائيلية الرسمية “كان” أنه بسبب تعطيل المتظاهرين، لم تتمكن أي شاحنات مساعدات من دخول غزة في ذلك اليوم. وعندما تدخل المساعدات المحدودة للغاية إلى غزة أخيرًا، فإنها تواجه طرقًا مدمرة وربما تتعرض لإطلاق النار من قبل الجيش الإسرائيلي.
ثانيًا؛ تأتي الفوضى، حيث تشن “إسرائيل” حرب استنزاف ضد كافة المنظمات الإنسانية التي تحاول التخفيف من معاناة سكان غزة. وقد استشهد العديد من عمال الإغاثة بسبب الهجمات الإسرائيلية. وقبل شهر؛ أفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية أن 337 من العاملين في مجال الصحة و145 من موظفي الأمم المتحدة لقوا حتفهم، وأن القتل مستمر دون انقطاع.
إن حالة الأونروا معروفة للغاية، ولا تخفي “إسرائيل” رغبتها في إلغاء الوكالة، متهمة إياها “بإدامة” وجود الفلسطينيين كشعب يكافح من أجل العودة إلى أرضه. وقد سارعت القوى الغربية إلى قطع التمويل الأساسي عن الأونروا، مما أدى إلى منع المساعدات المنقذة للحياة عن الملايين في غزة في أوقات الكارثة الرهيبة التي صنعها الإنسان، بناءً على ادعاءات إسرائيلية غير مثبتة ضد عدد قليل من موظفي المنظمة.
إلى جانب ذلك؛ في 25 شباط/ فبراير، ذكرت أميرة هاس في صحيفة “هاآرتس” أن إسرائيل تمنع بشكل منهجي تأشيرات العمل للعاملين في منظمات الإغاثة الدولية غير الحكومية في الضفة الغربية وغزة، مما يجبرهم على مغادرة البلاد. وكل ذلك في محاولة لعزل الفلسطينيين وجعل الحياة غير صالحة للعيش في غزة.
بالإضافة إلى ذلك؛ ومن أجل خلق مزيد من الفوضى، قامت “إسرائيل” بمهاجمة الشرطة الفلسطينية كلما كانت تقوم بتسهيل تسليم وتوزيع المساعدات في غزة، وأفادت “كان” أنه بسبب الهجمات الإسرائيلية، توقفت الشرطة الفلسطينية عن تأمين قوافل المساعدات، ونتيجة لذلك، أعلنت المنظمات الإنسانية تعليق أنشطة توزيع المساعدات، خوفا على سلامة عمالها.
إن هذا الجوع وهذه الفوضى في غزة لا تولدهما القيادة الإسرائيلية لإلحاق الألم فحسب، بل لخلق فرصة أيضًا. ففي مقال نشره موقع واي نت يوم 28 شباط/فبراير؛ ذكر رونين بيرغمان أن الوزيرين “الوسطيين” المفترضين في حكومة الحرب الإسرائيلية، الجنرالين السابقين غانتس وآيزنكوت، كانا يعتزمان استغلال الجوع والفوضى في غزة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بالقوة، وكما أفاد بيرغمان، فإن غانتس وآيزنكوت “حاولا اقتراح، منذ حوالي شهر، ربط استمرار المساعدات الإنسانية لقطاع غزة بالإفراج عن الرهائن، لكن هذا الاقتراح تم رفضه”.
رونين بيرغمان كاتب في صحيفة نيويورك تايمز، لكنه أيضًا إسرائيلي منخرط بعمق، وله بحسب لشهادته، علاقات عميقة في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وفي مقالته، يتهم نتنياهو بالقيام “بلفتات غير ضرورية” في غزة، مثل السماح بدخول بعض الأدوية والوقود، فبينما يريد “جنرالات الوسط” تجويع أهل غزة لإرغام حماس على التخلي عن أسراها من دون تبادل الأسرى، يهدف نتنياهو إلى إدامة الحرب باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ حكومته والإبقاء على نفسه في أعلى منصب.
خطة “اليوم التالي” لنتنياهو: احتلال عدواني دائم
ونظرًا لعلاقاته العميقة داخل المؤسسة الإسرائيلية، فمن المثير للاهتمام أن نأخذ في الاعتبار ملاحظات بيرجمان؛ حيث يصف كيف يقوم نتنياهو بتخريب مفاوضات تبادل الأسرى: “… نفس الجهات المجهولة التي تنشر الأخبار الكاذبة في وسائل الإعلام عن التفاؤل الكبير الذي يحيط بالمفاوضات [داخل الفريق الإسرائيلي المفاوض لتبادل الأسرى]، وأن هناك انفراجات والوضع جيد، فعلوا ذلك حتى عندما تعود حماس برد سلبي على عرض من الواضح أنها لن تقبله، يمكن إلقاء اللوم عليها في تخريب المفاوضات”.
ويضيف بيرغمان أن “الأشخاص المطلعين على ما يجري في بيئة نتنياهو يعتقدون أنه يفعل كل شيء لإفشال الصفقة، ويتلاعب بالرأي العام بكل الوسائل المتاحة له”، بحيث أنه حتى لو تم التوصل إلى صفقة تبدو معقولة للمفاوضين من جانب المؤسسة الأمنية، فإنه سوف يرفضها، وإذا تسرب هذا، كما أقسم أحد كبار المسؤولين بحياته، فإن نتنياهو سيقدمهم جميعًا باعتبارهم خاسرين وغير مستعدين لمحاربة حماس حتى النصر الكامل.
ويتحدث بيرغمان نيابة عن أجزاء من المؤسسة العسكرية ويرسم صورة متشائمة للغاية عن وضع الحرب في “إسرائيل”، ويلخص قائلاً: “خلاصة القول هي أن الجيش الإسرائيلي عالق في غزة، والمختطفون يموتون تدريجيًّا، والجمهور الإسرائيلي غارق في المعلومات المشوهة أو الكاذبة، الجيش صوّت بأقدامه للخروج من القطاع – خمس فرق شاركت في الحرب أصبحت خمسة ألوية تشارك في عملية محدودة في خان يونس ــ ويقول مسؤولون عسكريون كبار إن وقف إطلاق النار ضروري، وإن الاتفاق ضروري، لكن قادة الجيش لن يقولوا ذلك صراحة”.
ولكن بالنسبة لنتنياهو والأغلبية المتطرفة في حكومته، فإن الأمور تتجه نحو التحسن، فلا يوجد ضغط دولي حقيقي لإنهاء الحرب، والحكومة الإسرائيلية ليست مستعدة حتى للتفكير في حل سياسي، لذا فإن إستراتيجيتها تتلخص في حرب استنزاف طاحنة، معتقدة أن التفوق العسكري الإسرائيلي من شأنه أن يقضي على قوة بقاء الشعب الفلسطيني، حتى لو تطلب الأمر سنوات من الصراع الدموي.
ولتحقيق هذه الغاية، وبعد تأخير طويل، عرض نتنياهو المكونات الأساسية لما يفترض أن تكون رؤيته لـ”اليوم التالي” في غزة، أو بالأحرى في كل فلسطين، وهي رؤية للسيطرة العسكرية الإسرائيلية الكاملة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط، دون السماح بوجود كيان فلسطيني مستقل.
ومن أجل إحباط الضغوط الدولية، تريد “إسرائيل” أن تظهر أنها قادرة على إدارة الأمور بنفسها، مع بعض الوكلاء الفلسطينيين المحليين “غير السياسيين”، وكذلك بالإدارة اليومية للسكان، في مقالته، يذكر بيرغمان أن مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي قرر تسليم المساعدات الإنسانية إلى شمال غزة المدمر بعد كل شيء، وذلك بعد أن طرد الشرطة الفلسطينية وعرّض جميع المنظمات الإنسانية للخطر، كما ذكرنا أعلاه، وهذا ما يقودنا إلى “مذبحة الطحين”.
لقد قرر الجيش الإسرائيلي تأمين القوافل بنفسه، وما هي الطريقة الأفضل لتأمين قافلة المساعدات من مرافقتها بدبابات هائلة؟ وعندما حاول الفلسطينيون الجياع في شوارع الرشيد “نهب” الإمدادات، أطلق جنود الدبابات النار عليهم من بنادقهم الرشاشة.
وعلى نطاق أصغر؛ فإن إطلاق النار على الفلسطينيين العزل من قبل الجنود الذين “شعروا بالتهديد” بسبب وجودهم يحدث يوميًا في الضفة الغربية. وفي محاولة لتفسير مذبحة الرشيد، ادعى الجيش الإسرائيلي أن جنوده الجبناء المدججين بالسلاح شعروا بالتهديد من قبل المدنيين العزل الذين اقتربوا أكثر من اللازم من مواقعهم. ولم يكن أهل غزة هم الذين اقتربوا أكثر مما ينبغي، بل الإسرائيليون هم الذين دفعوا أنفسهم إلى حيث لا ينبغي لهم أن يكونوا.
وتريد حكومة نتنياهو الإبقاء على وجودها العسكري في غزة إلى الأبد. ولم يتحدث رسميًّا عن مستوطنات جديدة هناك حتى الآن، لكن العديد من العناصر داخل التحالف تعمل على ذلك.
وتعد مذبحة طالبي الخبز الجياع تذكيرًا صارخًا بأنه لا يكفي المطالبة بوقف إطلاق النار الآن لوقف إراقة الدماء. ولا يقل أهمية عن ذلك المطالبة بالانسحاب الفوري والكامل لجيش الاحتلال الدموي.
المصدر: موندويس