في زمنٍ تسارعت فيه خطوات العولمة، وباتت الهويات مهددة بالذوبان، ينبض رمز حضاري قديم في قلب اليمن، حاملًا معه حكايات الماضي العريق، إنه خط المسند، ذلك الخط الفريد الذي حفر حروفه على صفحات التاريخ اليمني، رافضًا الاستسلام للنسيان.
يُعدّ خط المسند إرثًا حضاريًا مهمًا نشأ في جنوب الجزيرة العربية قبل أكثر من ألفي عام، وارتبط بثقافات وحضارات عريقة، مثل مملكة سبأ ومعين وحضرموت، تاركًا بصماته على المعابد والنقوش والكتابات القديمة.
ويتميز هذا الخط بخصائص فريدة، فهو يُكتب من اليمين إلى اليسار، ويعتمد على 29 حرفًا مختلفًا عن الحروف العربية، ويتميز بالانتشار الواسع في اليمن حيث وُجدت العديد من النقوش المكتوبة به في مختلف أنحاء البلد.
رمزية خط المسند في اليمن
أستاذة اللغة اليمنية القديمة واللغات السامية في جامعة عدن، الدكتورة خلود صالح بن صالح حنيبر، قالت في حديث لـ”نون بوست”: “يُعدّ خط المسند من أهم الآثار التي خلفتها الحضارة اليمنية القديمة، فقد حمل بين طياته النقوش بوصفها إحدى أهم المصادر التي استقينا منها معلومات عن هذه الحضارة العريقة”.
وأضافت: “هذا الخط برموزه وأشكاله الهندسية الراقية الفريدة وحّدَ اليمنيين القدامى، على الرغم من تباين ممتلكاتهم سياسيًا وجغرافيًا ولغويًا إلى حد ما”، وتابعت: “لقد كتبت كل اللغات اليمنية القديمة بخط موحد هو المسند ذو الحروف التسعة والعشرين، ولم يجد اليمني القديم ضررًا ولا حرجًا في استخدامه؛ ليعبر عن لغته التي يتكلم أكانت سبئية أو معينية أو قتبانية أو حضرمية أو أوسانية”.
كما ترى أستاذة اللغات السامية أن “أهمية خط المسند تتجلى أيضا في أنه كان ولا يزال من أبرز الخطوط السامية؛ فمنه اشتقت الصفوية والثمودية واللحيانية خطوطها التي انتشرت في شمال الجزيرة العربية وعبرت عن اللغة العربية البائدة، ومنه كذلك أخذت الحبشية (الجعزية) خطها المستعمل حتى الآن”.
وترى حنيبر “أنه كان حريا علينا أن نجعل لهذا الخط يومًا في العام نحتفي به ونبرز كل مايتعلق بهذا الإنجاز الحضاري الذي لم يكن عفويًا، بل كان نتاج عقلية راقية عبرت عن مكنوناتها بالكتابة، وحافظة للأجيال إرثًا تاريخيًا وأثريًا ولغويًا”.
مع مرور الزمن، وبسبب عوامل سياسية وثقافية واقتصادية، بدأ خط المسند في الاندثار تدريجيًا، وحل محله الخط العربي، الذي انتشر مع مجيء الإسلام في جميع أنحاء الجزيرة العربية، لكن في العقود الأخيرة، ازداد الاهتمام بخط المسند، وبدأت الجهود لإحيائه والحفاظ عليه، وتم إنشاء العديد من المؤسسات والجمعيات المهتمة بدراسة هذا الخط، وتنظيم الفعاليات والندوات لنشر الوعي بأهميته.
وتفاعلًا مع دعوات المؤرخين والمثقفين والباحثين، ومطالبات شعبية واسعة، أعلنت وزارة الثقافة اليمنية عن تخصيص يوم 21 فبراير/شباط من كل عام يومًا وطنيًا لخط المسند.
مدير مكتب وزير الثقافة خالد سلام، أكد على أهمية هذا القرار، مشيرًا إلى أن خط المسند يجسد روح الحضارة اليمنية العريقة، ويؤكد على أصالة وعمق التراث الثقافي اليمني، وأوضح سلام أن الوزارة ستنظم سلسلة من الفعاليات والأنشطة الاحتفالية في مختلف أنحاء اليمن بمناسبة يوم خط المسند الوطني، وذلك بالتعاون مع الجهات ذات الصلة.
تهدف هذه الفعاليات إلى تعزيز الوعي بأهمية هذا الخط وضرورة الحفاظ عليه، ونشر ثقافة الكتابة به، وإبراز إبداعات الكتاب والباحثين في هذا المجال، بحسب سلام، وتشمل الفعاليات إقامة معارض للرسم التشكيلي وكتابة خط المسند، وعرض الصور والنماذج للخط، بالإضافة إلى ندوات علمية وأكاديمية تناقش تاريخه وأهميته.
انتماء وطني
لطالما اعتبر خط المسند، ذو الزوايا الحادة والأشكال الهندسية المعقدة، لغزًا غامضًا من حضارات اليمن القديمة،لكن مع مرور الزمن، تحول هذا الخط من مجرد رمز غامض إلى رمز ثقافي وطني يجمع اليمنيين ويُحيي إرثهم العريق.
ويُعتقد أن خط المسند نشأ من خط المسند الفينيقي، الذي تطور لاحقًا إلى الأبجدية العربية الحديثة، على مر العصور، ومر خط المسند بعدة مراحل من التطور، حيث تغيرت أشكال بعض الحروف وتطورت قواعد الكتابة.
يذكر الخبير في خط المسند الرقمي ومطور خطوط رقمية عربية سلطان محمد سعيد المقطري، أن خط المسند هو إرث ثقافي مهم ورمز للهوية الوطنية اليمنية، ويقول المقطري في حديثه لـ”نون بوست”: “خط المسند هو خط أبجدي قديم استخدم لكتابة اللغات العربية الجنوبية القديمة في جنوب الجزيرة العربية، يعود تاريخه إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وهو أحد أقدم الخطوط الأبجدية في العالم”.
وأضاف المقطري “يُعد خط المسند رمزًا مهمًا للهوية الوطنية اليمنية، فهو يربطنا بتاريخنا العريق ويؤكد على انتمائنا الحضاري، كما أنه يعد إرثًا ثقافيًا مهمًا يجب علينا الحفاظ عليه ونقله للأجيال القادمة”.
وأشار المقطري، إلى أن اعتماد يوم المسند يومًا وطنيًا هو إنجاز ثقافي يؤكد أهمية هذا الخط العريق، كما أنه يمثل فرصة لتعزيز تعليم المسند ونشره بين الأجيال الجديدة.
تحديات إحياء خط المسند
أوضح المقطري أن هناك بعض التحديات التي يجب علينا العمل على التغلب عليها، منها صعوبة التكيف مع المسند، خاصةً كبار السن والأشخاص الذين اعتادوا استخدام اللغة العربية المعاصرة، والافتقار إلى الموارد التعليمية والأدوات المتاحة لتعليم المسند، والتركيز على اللغة العربية المعاصرة في نظام التعليم، ودعا المقطري إلى ضرورة تضافر الجهود للحفاظ على الخط وتعزيزه ونشره بين الأجيال الجديدة.
فتحي عبدربه الكشميمي، المدير التنفيذي لمؤسسة معد كرب الثقافية، قال في حديثه لـ”نون بوست”: “خط المسند أو خط النصب التذكارية هو من الكتابات العريقة الضاربة في القدم في المحيط الجغرافي للجزيرة العربية والعالم حتى يومنا هذا، وهو القلم الوطني التاريخي الأوحد وسفير اليمن ويعد مرآة لماضينا التليد يحكي لنا ما خلده الأجداد من مآثر عظيمة شاهدة على بلوغهم أعلى المراحل الحضارية للحياة المدنية”.
وأضاف الكشميمي “حسب آخر الاكتشافات الأثرية لخط المسند، فإن كهف الميفاع الأثري في محافظة البيضاء وجدت فيه نقوش مسندية تعد المراحل البدائية الأولى لخط المسند وهي المرحلة المبكرة من العصر البرونزي أي إلى 3000 ق.م”.
وتابع الكشميمي “نحتفل منذ قرابة خمسة أعوام بيوم المسند اليمني الذي يصادف اليوم العالمي للغة الأم في الواحد والعشرين من فبراير من كل عام سواء بإقامة الفعاليات الثقافية الميدانية بعدة محافظات مثل تعز ومارب وعدن وسقطرى أم في وسائل التواصل الاجتماعي من خلال إعداد الحملات وضخ المواد المقروءة أو المسموعة والصور التوثيقية والأغاني والزوامل والأشعار التي تتغنى بخط المسند”.
وأشار الكشميمي إلى أن الاحتفال بيوم المسند ورأس السنة اليمنية التي تبدأ في 14 أبريل/نيسان وهو تقويم زراعي أيضًا يوم الوعل ويوم الآثار ويوم البن ويوم السابع عشر من ذو المهلة ليست مجرد احتفالات عابرة إنما هي مدخل تاريخي ليعود الإنسان اليمني إلى هويته وإحياء ذاته اليمنية”.
وأوضح قائلًا: “التحديات التي ربما تواجهنا هي التيارات الدينية المتشددة التي ترى المسند والوعل والتقويم اليمني خروجًا عن الدين وهي التي تؤمن بأيدولوجيات عابرة للحدود ترى كل من يطالب بهويته الوطنية وإحياء الذات اليمنية قد حاد عن الصراط المستقيم بنظرهم”.
اختلفت تحديات عودة هذا الخط الذي يروي تاريخ اليمن وحضاراته إلى الواجهة الثقافية، ولكن يبقى اعتزاز البعض به ومحاولاتهم المحدودة لإحيائه مجددًا، بارقة الأمل الوحيدة للحفاظ عليه وتناقل سيرته وجماله الفني بين أجيال المستقبل.