ترجمة حفصة جودة
في شارع ضيق على قمة أحد التلال الحادة، وفي الجانب الآسيوي في منطقة أوسكودار بإسطنبول يدير كانبر بوزان – 49 عامًا – متجره على ناصية الشارع، في هذا الحي غير المتجدد لذوي الدخل المنخفض، يبيع بوزان منتجات الاحتياجات الأساسية اليومية من فواكه وخضراوات وشيكولاتة ومقرمشات وأشياء لاحصر لها، لكنه بجوار ذلك يمتلك مكانًا لكتب الأطفال.
يتم عرض هذه الكتب بشكل بارز على الأرفف المواجهة لنافذة المحل، لكن هذه الكتب ليست للبيع، فبالأساس يدير بوزان مكتبته المحلية من أجل أطفال الحي، لكن المكتبة ما زالت في مرحلة التطور، وعلى كل كتاب يقرأه الطفل يحصل على هدية في المقابل، هناك طلب كبير على الشيكولاتة والمقرمشات والعصائر، لكن ما زال بإمكانهم اختيار أي شيء موجود في المحل.
الطفلة إيجرين تحصل على مكافأة من العم كانبر
يقول بوزان: “أنا سعيد لأنني أساعد بأي طريقة في حث الأطفال على القراءة وتنمية حبهم لها، فالكتب شيء ثمين للغاية وأعظم هدية نقدمها لأطفالنا هي القراءة”، أما الطفل تورجاي – 10 سنوات – فيقول إنه قرأ 5 كتب خلال إجازة الصيف، ويضيف: “القراءة ممتعة، لقد قرأت الكتاب ثم شرحت للعم كانبر عما يتحدث وحصلت على شيء أختاره بنفسي، عادة ما أختار الشيكولاتة، لكن العم كانبر يعطيني المزيد منها على كل كتاب أقرأه وليس واحدة فقط”.
لم يدر بوزان المشروع بنظام صارم فهو في الأغلب يمنح الأطفال مكافآت أكثر مما يكسب، لكنه لا يسمح بأن يتحول الأمر إلى تمثيلية، فقبل اختيار الجائزة، يتأكد بوزان أن الأطفال قرأوا الكتاب ثم يمنحنوه ملخصًا شفهيًا للكتاب الذي قرأوه.
الكتب كنز كبير
يعود احترام بوزان العميق للكتب إلى طفولته الصعبة في مسقط رأسه مدينة أديامان الفقيرة جنوب شرق تركيا، بعد أن أنهى بوزان الصف الخامس من المدرسة، غادر عائلته في عمر الـ14 وجاء إلى إسطنبول بحثًا عن عمل لأن عائلته لا تستطيع الإنفاق عليه.
يجلس كانبر في إحدى زوايا محله بجوار الكتب التي يقرضها للأطفال
لم تكن هناك فرص كثيرة للعمل في المنطقة لذا لم يكن لديه خيارات كثيرة، كان بوزان فخورًا بإقامته مع الأقارب في العاصمة وقد وجد عملاً في متجر حياكة لإنتاج الملابس الجاهزة، كان بوزان يعمل معظم اليوم وقد منحه صاحب المحل مكانًا في الدور العلوي بالمتجر لينام فيه.
كان صاحب العمل مدرّسًا سابقًا، لذا فقد شجّع بوزان على القراءة في وقت فراغه، وأصبحت الكتب مهربًا لبوزان من الأوقات الصعبة والمملة في حياته، كان وقت فراغ بوزان المحدود يعني عدم قدرته على قضاء الكثير من الوقت في القراءة كما يحب، لكن رغم ذلك استمر حبه وشغفه بالقراءة حتى الآن، يقول بوزان: “ساعدتني القراءة على أن تصبح حياتي محتملة، لقد أدركت أن الكتب كنز عظيم وهذا الإحساس لم يغادرني قط”.
مؤخرًا في الحياة، ظهرت أهمية الكتب مرة أخرى في حياة بوزان، فعندما ولد ابنه بوزان، كانت الأوضاع المالية صعبة للغاية مما دفع بوزان إلى السفر نحو أوروبا والعمل لمدة خمس سنوات في وظائف صعبة، خلال تلك الفترة لم يكن بوزان قادرًا على زيارة أسرته، ولذا نشأ فرات مع أمه.
بعد انتشار أخبار المشروع أصبح لديهم 2000 كتاب حصلوا عليهم من جميع أنحاء البلاد
عندما عاد بوزان من سفره وجد أنه قد فقد علاقته بابنه، بعد استشارة الطبيب النفسي السلوكي وأصدقائه كانت أكثر نصيحة فعالة حصل عليها هي القراءة مع ابنه ومناقشة ما قرأوه، ومع قراءة كتاب وراء كتاب نجحت هذه الطريقة بشكل جيد وأصبحت العلاقات قوية بين الأب وابنه.
إنشاء بقالة ومكتبة
كان فرات – 24 عاما الآن – قد لعب دورًا محوريًا في تحويل جزء من المتجر إلى مكتبة، واليوم يدرس فرات بقسم المسرح والدراما في جامعة إسطنبول، في الصيف الماضي ترك بوزان المحل في مسؤولية فرات لعدة أيام بعد الظهر، وبعد فترة لاحقة عند غيابه كان أطفال الحي يسألون باستمرار عن فرات، تعجب بوزان وسأل فرات عن سر سؤال أطفال الحي عنه باستمرار.
يقول بوزان: “أخبرني فرات أنه كان يقضي وقته خلف العداد في قراءة الكتب، كان الأطفال ينظرون إليه ويرغبون في تقليده لذا قرر أن يزيد من اهتمامهم بمنحهم شيكولاتة مجانية عندما يقرأون”، في الصيف الماضي بدأوا بـ10 كتب، أما الآن وبعد انتشار أخبار المشروع أصبح لديهم 2000 كتاب حصلوا عليهم من جميع أنحاء البلاد.
الطفل ياغمور يقلب في صفحات أحد الكتب
جلب فرات إلى المحل عدة كتب قليلة وكان يسمح للأطفال باستعارتهم في مقابل جوائز مجانية، انبهر بوزان بالفكرة وقرر التوسع في تلك المبادرة، وطلب فرات من أصدقائه في الجامعة تزويده بكتب للأطفال، وعلى أمل انتشار مبادرات مماثلة، بدأوا في التواصل مع المتاجر المختلفة في القرى الأخرى وأرسلوا إليهم الكثير من الكتب.
كان الطفل روزجار – 6 سنوات – غير مستعد لتفويت هذه الفرصة رغم عدم قدرته على القراءة، في الصيف الماضي كان ظهور روزجار مثل العذاب للأطفال الأكبر سنًا، فمبجرد ظهوره في الشارع يجري الأطفال في جميع الاتجاهات هربًا منه، أما من يفشل في الهرب فقد كان روزجار يجبره على الجلوس على الرصيف ليعلمه القراءة.
توجيه أطفالنا نحو القراءة يستحق كل أموال العالم وليس فقط بضعة ليرات
قال روزجار إنه أنهى 3 كتب هذا الصيف وحصل على الكثير من الشيكولاتة، لكن بوزان عقب قائلاً إنه أنهى 3 كتب تلوين مع بعض التمارين والألغاز، بدأ روزجار الدراسة في سبتمبر من هذا لعام وقال إنه يحلم بالمزيد من الجوائز لتفوقه الأكاديمي، ويضيف: “أرغب في الحصول على دراجة عندما أحصل على أول تقرير جيد، أما العم كانبار فسوف أعطيه شيكولاتة لمساعدته لي”.
الأطفال هم المستقبل
أما الآباء في الحي فقد كانوا ممتنين لبوزان، تقول أمينة – إحدى الأمهات في المنطقة -: “لقد حاولت كثيرًا أن أمنع أطفالي عن اللعب بالهاتف والحاسب الآلي لفترات طويلة ولم أنجح، لكن كانبار صنع معجزة، الكثير منا ممتنون له للغاية”، كما عرض آباء آخرون على بوزان أن يقدموا دعمًا ماليًا يعوض الجوائز التي يمنحها بوزان للأطفال لكنه رفض.
أوضح بوزان أن يستطيع تحقيق دخل إضافي قدره 300 ليرة في الشهر إذا وضع المنتجات الغذائية في الأرفف بدل الكتب وكذلك من 10 إلى 20 ليرة مقابل جوائز الأطفال، لكنه يقول: “لو كان الأمر يتعلق بالمال لم أكن لأفعل ذلك في المقام الأول، توجيه أطفالنا نحو القراءة يستحق كل أموال العالم وليس فقط بضعة ليرات”.
أطفال الحي تورجاي وياغمور وعرفان
كان بوزان يعتقد أن الأطفال سيأجلون القراءة مع بداية المدرسة لأنها مهمة شاقة، لكنه يقول: “كنت سعيدًا للغاية عندما رأيت الأطفال يعودون من المدرسة ويتوقفون أول شيء عند متجري، ربما تكون الجوائز حافزهم الأول لكنها تسببت في اهتمامهم بالكتب والقراءة وهذا أمر جيد”، ويضيف بوزان أن جائزته هي أن يرى هذه المبادرة تنتشر في الأحياء المجاورة.
“هؤلاء الأطفال هم المستقبل، لذا يجب أن نفعل ما بوسعنا ليصبح مستقبلاً أفضل لهم، في كل مرة أشاهد فيها الأطفال يلتقطون كتابًا أتذكر نفسي وأنا في الـ14 عندما وصلت إلى تلك المدينة الكبيرة ولم أكن أملك سوى الصندل المطاطي في قدمي، وكيف جعلت الكتب هذه الحياة أكثر سهولة”.
المصدر: ميدل إيست آي