أسدل مجلس النواب (البرلمان) المصري الستار أمس على الجدل المثار بشأن مشروع القانون المقدم من الحكومة بتعديل بعض أحكام القانون رقم 54 لسنة 1964 بإعادة تنظيم هيئة الرقابة الإدارية، وذلك بعد الموافقة عليه خلال جلسة أمس بصفة نهائية وبأغلبية ثلثي الأعضاء.
التعديلات التي تضمنها المشروع المقدم تهدد وبصورة كاملة استقلالية هيئة الرقابة الإدارية كونها إحدى أبرز الجهات الرقابية في مصر والتي فرضت نفسها على ساحة الأضواء خلال الآونة الأخيرة، إذ إنها تأتي في إطار الخطوات المكثفة التي يبذلها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإحكام السيطرة على مؤسسات الدولة وإخضاعها تحت رئاسته المباشرة.. فهل يعيد النظام المصري عصر التأميم مجددًا؟
تأميم الرقابة الإدارية
مشروع القانون المقدم يكشف بصورة واضحة مخطط السلطات في “تأميم” هذا الجهاز، وتحويله من جهة مستقلة بذاتها إلى مؤسسة تابعة لرئيس الدولة، تهدف وفق ما ينص عليه في كثير من بنوده إلى “ضمان حسن أداء الوظيفة العامة وحفاظًا على المال العام، وغيره من الأموال المملوكة للدولة”.
القانون الجديد في صيغته التعديلية نقل صلاحية تعيين رئيس الهيئة ونائبه من جمعيتها العمومية إلى رئيس الدولة، بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، أما باقي الأعضاء وترقياتهم إلى الوظائف العليا فيكون عبر قرار مباشر من الرئيس دول الرجوع إلى مجلس النواب.
التعديلات تعطي حزمة من الصلاحيات لأعضاء الهيئة تفوق الكثير من نظيراتها الممنوحة في الأجهزة السيادية الأخرى، إذ إنها تجيز إجراء التحريات فيما يتعلق بالجهات المدنية، وإذا أسفرت التحريات عن أمور تستوجب التحقيق، تحال الأوراق إلى النيابة الإدارية أو النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة، بحسب الأحوال، بإذن من رئيس الهيئة أو من نائبه، وتقوم النيابة الإدارية أو النيابة العامة أو سلطة التحقيق المختصة بإفادة الهيئة بما انتهى إليه التحقيق”.
تجميل الهيئة من قبل الإعلام وباقي أجهزة الدولة المختلفة يأتي في إطار مساعيهم لإرضاء السيسي، خصوصًا أن اسم نجله ذكر في أكثر من قضية تم كشفها باعتباره البطل محارب الفساد
وتعد هيئة الرقابة الإدارية أحد أجهزة الرقابة الخارجية التابعة للسلطة التنفيذية وتمارس مهامها طبقاً للقانون رقم 54 لسنة 1964 ولها حق الإطلاع والتحفظ على البيانات والمستندات بالجهات وترفع تقاريرها بنتيجة تحرياتها وأبحاثها ومقترحاتها لرئيس الوزراء والمحافظين وكذا جهات التحقيق المختصة لإتخاذ ما يرونه بشأنها.
قديمًا وقبل هذا التعديل كانت الهيئة مستقلة وتتبع رئيس مجلس الـوزراء وتمارس كافة أشكال الرقابـة الإدارية والمالية والفنية وضبط الجرائم الجنائية وهى المنوط بها مكافحة الفساد الإداري في مصر، بدأت كقسم للرقابة يتبع النيابة الإدارية عام 1958 وأصبحت هيئة مستقلة طبقاً للقانون رقم 54 لسنة 1964 وصدر قرار بتجميد نشاطها عام 1980 ثم أعـيد تشكيلها عام 1982 لممارسة إختصاصاتها.
التصعيد الإعلامي
كانت هيئة الرقابة الإدارية واحدة من الكيانات التي ظلت تعمل في الخفاء بعيدًا عن أعين الإعلام وبريق الأضواء لصالح جهات سيادية أخرى في مصر طيلة السنوات الماضية، وبعد أن فقد الجهاز المركزي للمحاسبات، دوره في أعقاب الإطاحة برئيسه السابق المستشار هشام جنينه بسبب تصريحات سابقة له عن أرقام الفساد في مصر، باتت الساحة مهيأة لظهور لاعب جديد على الساحة الرقابية، ومن ثم كان الرهان على هيئة الرقابة الإدارية، وإخراجها من نفق العمل السري إلى العلن.
وخلال الأشهر القليلة الماضية خرجت الهيئة للنور لتقدم نفسها للإعلام والشعب عبر حزمة من قضايا الفساد التي نجحت في كشفها لعدد من كبار رجالات الدولة، لعل آخرها ضبط “حازم القويضي” محافظ حلوان الأسبق، لحصوله على سيارة مرسيدس موديل إس 350 قيمتها تقدر نحو مليون جنيه، على سبيل الرشوة، من رئيس مجلس إدارة شركة بالمعادى، جنوب القاهرة، مقابل تسهيل الاستيلاء على قطعة أرض أملاك دولة، علاوة على شبكة تجارة الأعضاء البشرية، وتورط نائب رئيس مجلس الدولة في رشوة تعد الأكبر خلال العقود الأخيرة.
ويتمتع رئيس الهيئة الحالي اللواء محمد عرفان جمال، بمكانة كبيرة لدى رئيس الدولة، الذي أصدر له في مارس الماضي قرارًا بالمد لمدة عام آخر، نظرًا لما يقدمه من تقارير رقابية ومتابعة دورية لكل ما يدور في مصر للسيسي، وهو ما وضعه الفترة الماضية على قائمة بورصة الترشيحات لخلافة شريف إسماعيل في رئاسة الحكومة.
تجميل صورة النظام
التصعيد الإعلامي المكثف للهيئة وجهودها في كشف العشرات من قضايا الفساد خلال الفترة الأخيرة لم يكن عشوائيًا، بل جاء وفق خطة ممنهجة تهدف إلى تحقيق هدفين:
الأول: تحسين صورة السيسي ونظامه كونه أحد المناهضين للفساد والمحاربين لكل أشكاله، ومن ثم فالرجل لا يتوانى في الكشف عن خارطة الفاسدين دون محاباة أو مجاملة، وهو ما يصب في النهاية في إطار حملة تجميل وجه السلطات الحالية في ظل التشوهات العديدة التي أصابتها جراء الفشل في تحقيق الحد الأدنى لما كان يأمله حتى الداعمون لها.
كما أن تجميل الهيئة من قبل الإعلام وباقي أجهزة الدولة المختلفة يأتي في إطار مساعيهم لإرضاء السيسي، خصوصًا أن اسم نجله ذكر في أكثر من قضية تم كشفها باعتباره البطل محارب الفساد، والذي تشير بعض الأراء إلى إعداده لتولي منصب بارز في الهيئة خلال الفترة القادمة، مع الوضع في الاعتبار أن طبيعة عمل الهيئة تحتم عليها التعاون مع مؤسسات الدولة الأخرى، مثل جهاز الكسب غير مشروع أو مباحث الأموال العامة أو الجهاز المركزي للمحاسبات، إلا أن الإعلام يختص هيئة الرقابة وحدها بإلقاء الضوء في إشارة وكأنها الوحيدة المسؤولة عن مكافحة الفساد في مصر.
التعديلات الأخيرة في مشروع قانون الهيئة ساهم في توسيع صلاحيات الرقابة الإدارية بصورة غير مسبوقة
الثاني: تقديم نموذج رقابي جديد للمجتمع المصري غير الجهاز المركزي للمحاسبات والذي كان يتمتع بشعبية كبيرة في ظل ما كان يشهده على الأقل بعد ثورة يناير من استقلالية في الآراء والتوجهات، وهو ما أقلق النظام الحالي بشكل واضح، مما دفعه للتخلص من رئيسه بأي ثمن، وعليه كان لزامًا أن يتم تقديم جهة رقابية أخرى تكون خاضعة للسلطة الحالية وفي نفس الوقت تقدم مردود إيجابي لدى الشارع تزيل ما علق في أذهان البعض من اتهامات للسيسي بـ”الانتقام” من جنينة بسبب دوره في كشف قضايا الفساد.
صلاحيات موسعة تم منحها لهيئة الرقابة الإدارية
إحكام السيطرة
التعديلات الأخيرة في مشروع قانون الهيئة ساهم في توسيع صلاحيات الرقابة الإدارية بصورة غير مسبوقة، حيث نصت على أن دور الهيئة هو “كشف وضبط الجرائم التي تستهدف الحصول أو محاولة الحصول على أي ربح أو منفعة باستغلال صفة أحد الموظفين العموميين المدنيين أو أحد شاغلي المناصب العامة بالجهات المدنية أو اسم إحدى الجهات المدنية المنصوص عليها بالمادة (4) من هذا القانون، وكذا الجرائم المتعلقة بتنظيم عمليات النقد الأجنبي المنصوص عليها بقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد الصادر بالقانون رقم 88 لسنة 2003 وفقًا لأحكامه، والجرائم المنصوص عليها بالقانون رقم 5 لسنة 2010 بشأن تنظيم زرع الأعضاء البشرية، والجرائم المنصوص عليها بالقانون رقم 64 لسنة 2010 بشأن مكافحة الاتجار بالبشر”.
ومن ثم بات من صلاحيات أعضاء الهيئة التدخل في شؤون الموظفين والمسؤولين في القطاع العام للدولة، من تفتيش سواء في مقر العمل أو المنازل أو اطلاع على الأوراق والمستندات الخاصة بعملهم، كذلك التحفظ على الأوراق أو الحصول على صور منها، عمل التحريات عن المشتبه فيهم، تقديم تقارير عن المرشحين لترقيات وظائف عليا، إمكانية العزل من الوظيفة أو التقديم لجهات التحقيق بخلاف الضبطية القضائية، وهو ما يحول الهيئة إلى مركز سيطرة يفوق في صلاحياته الكثير من الهيئات المعنية بشكل أكبر بهذه الإجراءات كجهاز الأمن الوطني والمخابرات.
ومن ثم بات جميع كبار رجالات الدولة وموظفيها في شتى المناصب القيادية والتنفيذية، العامة والفرعية، تحت إمرة وسيطرة وقيادة ومراقبة هيئة الرقابة الإدارية التابعة لمؤسسة الرئاسة، التي تملك وحدها إما ترقيتهم أو فصلهم من أماكنهم.
مابين المدنية والعسكرة
رغم مسماها الذي يبدو في ظاهره أنها مؤسسة مدنية، إلا أن الغالبية العظمى من العاملين في هيئة الرقابة الإدارية من ضباط الجيش والمخابرات، بحسب مقربين، وهو ما حولها إلى مؤسسة عسكرية أقرب منها إلى مدنية، ومن المعتاد أن يرأسها لواء سابق بالجيش خاصة في جهاز المخابرات.
العديد من القيادات السابقة بالهيئة وجهت لهم تهم مباشرة بالفساد والرشوة واستغلال النفوذ، على رأسهم اللواء هتلر طنطاوي الرئيس الأسبق للهيئة والذي اتهم باستغلال النفوذ للحصول على أراضٍ بغير وجه حق، كذلك اللواء محمد فريد التهامي رئيس الهيئة إبان فترة الرئيس الأسبق محمد مرسي، والذي عزله من منصبه في أعقاب اتهامه بفرم مستندات تدين الرئيس المخلوع حسني مبارك، إلا أنه عاد إلى عين – رغم الاتهامات الموجهة ضده – وعين رئيسًا للمخابرات العامة في فترة المؤقت عدلي منصور، قبل أن يتم الإطاحة به من منصبه بعد ذلك.
التصديق في هذا التوقيت يصب في نهاية الأمر بحسب محللين في إطار التمهيد نحو ولاية ثانية للسيسي من خلال إحكام السيطرة على منافذ العملية الانتخابية كافة – إن تمت –
وفي ضوء التعديلات الأخيرة تكون الهيئة بذلك في إطار إعادة الهيكلة الحثيثة التي تقوم بها السلطة الحالية بعد 30 من يونيو، عبر استراتيجيات بث الرعب والتخويف والعقاب، فإنه وبعد أن تحولت تبعيتها إلى رئيس الدولة مباشرة، من المرجح أن تصبح الهيئة عصا النظام السحرية لتقليم أظافر كل من يفكر أن يغرد خارج السرب مما يمهد الطرق نحو التفرد بالسلطة بشكل كامل طيلة السنوات القادمة، وذلك بعد أن يتم السيطرة على مؤسسات الدولة كافة، وهو ما يجر للحديث عن التمهيد للولاية الثانية للسيسي.
رغم اتهامات موجهة إليه تم تعيين التهامي مديرًا للمخابرات العامة قبل أن تتم الإطاحة به
ليست الخطوة الأولى
إقرار مجلس النواب لمشروع قانون تعديل بعض أحكام قانون تنظيم هيئة الرقابة الإدارية بالأمس تزامن مع تصديق السيسي على القانون رقم 198 لسنة 2017 بشأن الهيئة الوطنية للانتخابات، الذي سبق أن أصدره مجلس النواب خلال دور الانعقاد السابق، بحيث تم اعتماد تشكيل اللجنة المعنية بإدارة الانتخابات الرئاسية والمحلية المقرر إجراؤها العام المقبل، والتي بمقتضاها سيتم إلغاء الإشراف القضائي على تلك الاستحقاقات الانتخابية مرحليًا خلال العام القادم تمهيدًا لإلغائها بصورة كاملة في 2024 حسبما نص مشروع القانون، في بنده الذي يقيد الإشراف القضائي، بمدة 10 سنوات، إعمالا للنص الدستوري وفقا للمادة 210 من دستور 2014
بات جميع كبار رجالات الدولة وموظفيها في شتى المناصب القيادية والتنفيذية، العامة والفرعية، تحت إمرة وسيطرة وقيادة ومراقبة هيئة الرقابة الإدارية التابعة لمؤسسة الرئاسة، التي تملك وحدها إما ترقيتهم أو فصلهم من أماكنهم
التصديق على هذا القانون في هذا التوقيت يصب في نهاية الأمر بحسب محللين في إطار مساعي إحكام السيطرة على منافذ العملية الانتخابية كافة – إن تمت – خلال السنوات القادمة، خاصة بعد تراجع شعبية النظام في ضوء الفشل في تحقيق الوعود التي قطعها على نفسه قبيل الانتخابات السابقة، فضلاً عن تردي المستوى المعيشي بصورة لم تشهدها مصر منذ ما يزيد على مئة عام.
هذه الخطوة ليست الخطوة الأولى التي قام بها السيسي لمحاولة وضع مؤسسات الدولة تحت سيطرة “مندوب الجيش” في الرئاسة، إذ سبقها حزمة من القرارات التي تصب جميعها في هذا الإطار، على رأسها قرار إعفاء رؤساء وأعضاء الهيئات المستقلة والأجهزة الرقابية من مناصبهم في يوليو 2015، وكذلك إقرار عادة تشكيل المجلس الأعلى للسياحة برئاسته في أغسطس 2015، كذلك إقرار قانون “التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام”، والخاص بإنشاء هيئات لتنظيم الإعلام: “المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام” و”الهيئة الوطنية للصحافة” و”الهيئة الوطنية للإعلام”، ويكون التعيين فيها من صلاحيات رئيس الجمهورية في ديسمبر 2016، بخلاف تعديل بعض بنود قانون السلطة القضائية والذي خول له تعيين رؤساء الهيئات القضائية الأربع.