يزخر علم النفس بالنظريات التي ركزت على نمو الطفل وتطوره بدءًا من مرحلة ما قبل الولادة وحتى سنّ البلوغ، واهتمت تلك النظريات بالكثير من جوانب التطور بما في ذلك البيولوجي والاجتماعي والعاطفي والمعرفي والثقافي وغيرها الكثير.
لماذا يتصرف الأطفال بطرق معينة؟ هل يرتبط سلوكهم بسنهم أو علاقاتهم الأسرية أو مزاجهم الفرديّ؟ يسعى علماء النفس التطوري جاهدين للإجابة على مثل هذه الأسئلة وكذلك وفهمها وتبسيطها، بالإضافة للتنبؤ بالسلوكيات والتصرفات التي قد تحدث لاحقًا في مراحل العمر المختلفة للفرد.
ومن أجل فهم التطوّر الفردي، نشأت العديد من النظريات المختلفة لشرح الجوانب المختلفة لتطور ونمو الإنسان من خلال مراحل العمر المختلفة بدءًا من الطفولة إلى سن المراهقة والشيخوخة، وهو ما بات يُعرف باسم “علم النفس التطوري أو التنموي”.
نظرية بياجيه: كيف يكتسب الأطفال المعرفة؟
تُعتبر نظرية عالم النفس السويسري “جان بياجيه” واحدة من أهم النظريات التي وُضعت لتفسير الذكاء البشريّ وتطوره، وتنصّ على أن الأطفال يمرون بعدة مراحل محددة يتطور أثناءها ذكاؤهم وقدرتهم على رؤية العلاقات بين الأشياء. هذه المراحل تتم وتكتمل في ترتيب ثابت لكل الأطفال، غير أنّ ما يختلف هو طول الفترة العمرية لكل مرحلة، فقد تختلف من طفل لآخر.
استلهم بياجيه نظريته أثناء لعبه مع ابنته ذات السبعة أشهر، بعد أن أخفى من أمامها اللعبة على شكل بطة التي كان يلاعبها بها خلف ستار بحيث لم تعد مرئية، وراقب ردة فعل طفلته تجاهها
لاحظ بياجيه أنه على الرغم من حقيقة أن طفلته يمكن أن ترى بوضوح أين اختفت البطة، إلا أنها لم تبذل أي محاولة لاستعادتها أو أخذها من وراء الستار. فكرّر الاختبار ثانية، إذ أخرج اللعبة من وراء الستار أمام مرأى طفلته، وحينما حاولت الحصول عليها والإمساك بها قام بإخفائها ثانيةً، فتصرّفت الطفلة مرةً أخرى كما لو أنّ البطة اختفت تمامًا دون محاولة البحث عنها وراء الستار.
مبدأ “تمركز الذات”، أي اعتقاد الطفل أنّ جميع من حوله يرون العالم كما يراه هو، وفشله في فهم أنّ الإدراك يختلف من شخص لآخر، أو اعتقاده بأنّ الجمادات لديها نفس القدرة على الإدراك مثله تمامًا
ما استخلصه بياجيه من هذا الاختبار، جنبًا إلى جنب مع العديد من التجارب، أنّ الأطفال لا يفهمون في البداية فكرة أنّ الكائنات والأشياء لا تزال موجودة حتى عندما تكون بعيدة عن الأنظار وخارج نطاق الرؤية. وظلّ يراقب طفلته حتى لاحظ أنها بدأت البحث عن الأشياء المختفية فقط في العمر ما بين 9-10 شهور.
هذه اللعبة التي يلعبها جميع الآباء مع أطفالهم على حدٍ سواء، جعلت بياجيه يستخلص نظريته الشهيرة حول كيفية اكتساب المعرفة والإدراك عند الأفراد بدءًا من مرحلة الطفولة المبكّرة نتيجةً لتفاعله مع البيئة المحيطة به وتأثره بها.
تُعرف المرحلة الأولى بالمرحلة “الحسية الحركية”، وتمتد من الولادة إلى عمر السنتين، أي إلى مرحلة اكتساب الطفل للقدرات اللغوية، حيث يبدأ الرضيع باكتساب المعرفة وفهم العالم من خلال “الحركة” و “الحواس“، لذلك تُعتبر حواسهم بابهم الوحيد لاستكشاف العالم من حولهم، فتراهم يتذوقون أي شيء يقع بين أيديهم، أو يحاولون لمسه، أو يركّزون مع أيّ صوتٍ يسمعونه.
خلال هذه المرحلة يتعلم الطفل كيفية التعامل أو التلاعب بالأشياء من حوله رغم فشله في بدايتها بإدراك مبدأ “الديمومة” لتلك الأشياء ما دامت لا تقع في مدى إدراك حواسه. بكلمات أخرى، فإزالة هذا الشيء من مجال إدراك حواسّ الطفل فهذا يعني عنده أنها ليست موجودة.
في نهاية تلك المرحلة، أي في نهاية السنة الثانية تقريبًا، يكون الطفل قادرًا على إدراك مبدأ “ديمومة الأشياء”، أي أنّ الأشياء حتى لو خرجت من مجال إدراكه ونظره، فهي ما زالت مستمرة في الوجود. والمثال الأكبر على ذلك قدرته على فهم فكرة خروج أمه من الغرفة فهذا يعني أنها ستعود في النهاية، وهذا يؤدي إلى زيادة الإحساس بالأمان والسلامة عنده بعد أنْ كان يتفاعل مع مثل هكذا موقف بالبكاء والصراخ الناتجين أساسًا عن خوفه من فقدان أمه.
ومن خلال تعلّمهم أنّ الكائنات هي كيانات منفصلة ومتميزة لديها وجودها الخاص بها خارج نطاق التصور والإدراك الفردي، يكون الأطفال عند نهاية المرحلة قادرين على ربط الأسماء والصفات بالأشياء والكائنات من حولهم.
أما المرحلة الثانية من التطور المعرفي فتُعرف بالمرحلة “ما قبل العملياتية“، وتظهر ما بين الثانية والسابعة من عمر الطفل، وتتميز بتطوّر اللغة بشكلٍ سريع، إذ يصبح الأطفال قادرين على التفاعل مع العالم من خلال استعمال الكلمات والصور.
كما تتميز هذه المرحلة بمبدأ “تمركز الذات“، أي اعتقاد الطفل أنّ جميع من حوله يرون العالم كما يراه هو، وفشله في فهم أنّ الإدراك يختلف من شخص لآخر، أو اعتقاده بأنّ الجمادات لديها نفس القدرة على الإدراك مثله تمامًا، فيعتقد بأنّها قادرة على أن ترى وتسمع وتشعر وتلمس، أو تفرح وتحزن وتجوع وتنام، وهذا يتجلى واضحًا في طريقة تعامله مع ألعابه وألوانه على سبيل المثال.
عامل آخر يميّز هذه عن غيرها هو عدم إدراك مبدأ “الحفظ“، والذي يقوم على فهم الطفل أنّ الكم لا يتغير بتغيّر الشكل، قد تستطيع اختبار ذلك مع طفلك في حال وضعت أمامه كوبين من الماء فيهما نفس الكمية، لكنهما مختلفان بالشكل، كأن يكون أحدهما طويل ورفيع والآخر قصير وعريض، وسؤاله أيّ الكوبين يحوي كمية أكبر، وملاحظة فيما كان سيختار الأطول لاعتقاده بأنه يحوي على كمية أكبر أم لا. أو قد تعطي طفلك قطعتين متماثلتين بالحجم من المعجونة وتشكيلهما بطريقتين مختلفتين وسؤاله عن أيهما أكبر حجمًا من الأخرى.
ويرجع سبب هذا لكون الطفل غير قادر على فهم مبدأ “المعكوسية”، وعدم قدرته على إدراك وجود عدة متغيرات للحدث الواحد، فهو لا يستطيع إدراك سوى متغير واحد فقط كالطول، دون قدرته على دمج متغير آخر كالحجم أو عرض الكوب مثلًا معه. ولهذا أيضًا يكون غير قادر على إدراك أنّ 2×3 هي نفسها 3×2.
في مرحلة “العمليات المادية“، وهي المرحلة الثالثة من التطور المعرفي وفقًا لبياجيه وتظهر ما بين عمريْ السابعة والثانية عشر، يبدأ الأطفال بالتفكير المنطقي فيما يتعلق بالأشياء من حولهم، أي يصبح قادرًا على فهم مبدأ الحفظ، وأنّ كمية الماء الموضوعة في كوبٍ واسع هي نفسها في حال وُضعت في كوب أضيق وأطول.
بالإضافة لذلك، يبدأ الأطفال هنا باستخدام المنطق الاستقرائي، أو الاستدلال من معلومات محددة للوصول إلى مبدأ عام، مثل قدرتهم على تصنيف الأشياء المتشابهة لفئة واحدة، وتظهر مفاهيم الاكتساب مثل الكل والجزء، والكم والكيف، والمقارنة والتمايز.
وخلال هذه المرحلة، يصبح الأطفال أيضًا أقل تركيزًا على الذات ويبدأون في التفكير في الكيفية التي قد يفكر بها الآخرون ويشعرون بها، إلى جانب فهمهم أنّ أفكارهم وآراءهم ومشاعرهم تُعتبر متميزة قد لا يشاركهم بها أي شخص آخر بالضرورة.
في المرحلة الأخيرة من التطور المعرفي والتي تُعرف باسم “مرحلة العمليات المنهجية” وتستمر من عمر الثانية عشر وحتى سن البلوغ، يبدأ الطفل في تطوير نظرة أكثر تجريدية للعالم، من خلالها تطبيق مبدأي “المعكوسية” و”الحفظ” على الحالات الواقعية والمتخيلة على حدٍ سواء.
كما يتمكن الطفل، الذي على وشك أن يصبح مراهقًا، من تطوير مفهوم السبب والنتيجة في تعامله مع البيئة المحيطة وما فيها من متغيرات، إلى جانب قدرته على وضع الفرضيات والاحتمالات فيما يتعلق بمجريات حياته، وهذا يكسبه الكثير من المنطق الذي يتبناه للتعامل مع بيئته، بدءًا من المنزل والأسرة ومرورًا بالمدرسة والأصدقاء والمجتمع المحيط به ككلّ، فيبدأ بالتفكير أكثر في القضايا الأخلاقية والفلسفية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية التي تلامس واقعه، و عند هذه النقطة، يصبح الطفل/المراهق قادرًا على رؤية العديد من الحلول المحتملة لمشكلاته وتحدياته.
وقد ساعدت نظرية بياجيه هذه في زيادة فهمنا للنمو الفكري والمعرفي والذكائي للأطفال، إلا أنّ المهم فيها أنها ركّزت أيضًا على أنّ الأطفال ليسوا مجرد متلقين سلبيين للمعرفة والمعلومات من حولهم، وإنما هم فاعلين نشيطين في خلق المعرفة واكتسابها وتطويرها باستمرار من خلال التجريب والتحقيق والفحص.
نظرية بارتن نوهال: كيف يتعلم الأطفال باللعب؟
يعتبر اللعب سلوكًا فطريًا في حياة الطفل، إذ أنه ليس نشاطًا هامشيًا وحسب وإنما النشاط المركزي لتعلم الكثير عن الحياة وطريقة لاكتساب مهارات العمل والتفكير والتذكر والإقدام والاختبار والإبداع، عدا عن أنها جزءًا أساسيًا من التفاعل الاجتماعي والثقافي، ولذلك وضعت عالمة النفس والاجتماع الأمريكية ميلدريد بارتن نوهال نظريةً قسمت فيها لعب الأطفال إلى ستة أنواع أو تقسيمات، الأربعة الأولى منها لا تنطوي على كثير من التفاعل مع الآخرين، بينما آخر اثنتين تعتمدان بشكلٍ أساسيّ على ذلك.
-
اللعب الفارغ: يؤدي فيه الطفل حركات عشوائية غير ثابتة نسبيًا ودون أي هدف واضح، ويكون في العامين الأولين من عمر الطفل.
-
اللعب الانفرادي: حيث يكون الطفل مشغولًا تمامًا في اللعب ولا يبدو عليه أنه يلاحظ الأطفال الآخرين من حوله. غالبًا ما يُلاحظ هذا النمط في الأطفال الرضّع، بسبب محدودية مهاراتهم الاجتماعية والجسمية والمعرفية.
-
لعب المشاهدة: يبدو الطفل في هذه المرحلة مهتمًا في اللعب مع الأطفال الآخرين، غير أنه يتواني على الانضمام إليهم، وقد يكتفي فقد بطرح الأسئلة أو التحدث، ولكنّ النشاط الرئيسي عنده بباسطة هو المشاهدة.
-
اللعب الموازي: يبدأ هذا النوع من اللعب بعد السنة الأولى تقريبًا ويتزامن مع تعلم الأطفال المشي، حيث يلعبون جنبًا إلى جنب بألعاب متشابه، إلا أنه لا يوجد أي انخراط او تفاعل أو مشاركة بينهم أثناء اللعب.
-
اللعب التشاركي: يتطلب هذا النوع من اللعب مجموعة من الأطفال الذين يشتركون معًا في أهداف اللعبة دون أن يضعوا أية قواعد، وغالبًا ما يلعبون بنفس الألعاب أو يتبادلون الألعاب فيما بينهم، ويبدأ هذا اللعب لدى الاطفال من بعد السنة الاولى ويستمرّ حتى سنّ ما قبل المدرسة.
-
اللعب التعاوني: يبدأ هذا النوع من اللعب أواخر مرحلة ما قبل المدرسة، فاللعب هنا منظّم بأهداف محددة، وهناك على الأقل قائد واحد في مجموعة اللعب، والأطفال هنا إمّا بداخل مجموعة اللعب أو خارجها.
نظرية فيجوتسكي: التعلّم عملية اجتماعية
على ذات الصعيد، فقد وضع عالم النفس الروسي فيجوتسكي على مدى العقود العديد الماضية أساسًا للكثير من البحوث والنظرية في التطور المعرفي، ولا سيما فيما أصبح يُعرف لاحقًا باسم نظرية التنمية الاجتماعية، فقد أكد في نظريته على أنّ التفاعل الاجتماعي يلعب دورًا محوريًا في عملية تكوين المعنى والإدراك عند الأفراد.
يرى فيجوتسكي أننا لا نستطيع فهم البشر إلا من خلال سياق البيئة الاجتماعية التاريخية، فالمجتمع له دور أساسي في النمو المعرفي، و للسياق الاجتماعي والثقافي الاجتماعي تأثير في التعلم من خلال تفاعل المتعلم مع الأشخاص الآخرين .
وقد اختلف فيجوتسكي مع بياجيه في عدة نقاط أهمها أنّ تكوين الإدراك والمعرفة عند الأفراد يتأثر بالثقافة والمجتمع بالنسبة لفيجوتسكي، في حين رآها بياجيه عملية عالمية ثابتة. وفي حين اعتقد بياجيه أنّ العملية المعرفية تتشأ نتيجة تفاعلات الطفل مع العالم بشكلٍ فرديّ، افترض فيجوتسكي أنّها عملية اجتماعية بامتياز، لا تحدث دون المجتمع والأشخاص المحيطين بالطفل.
كما ركّز فيجوتسكي على دور اللغة في العملية المعرفية، وأنّ التفكير واللغة يشكلان عمليتين منفصلتين لا علاقة لهما ببعض في السنوات الأولى من عمر الطفل، ويندمجان في السنة الثلاثة ما ينتج التفكير اللفظي، وبالتالي فالتطور المعرفي ينتج عن استيعاب اللغة، أما بياجيه فقد رأى أنّ اللغة تعتمد على التفكير في تطورها، أي أنّ التفكير يأتي قبل اللغة.
وبكلمات أخرى، فوفقًا لفيجوتسكي، يتعلم الأطفال ويكتسبون العديد من المهارات الاجتماعية الأساسية من خلال اللعب والتفاعل مع الآخرين من حولهم، فهم يطورون الشعور بالذات ويتعلمون التفاعل مع الأطفال الآخرين وكيفية تكوين الصداقات والعلاقات، ولعب الأدوار، وطباع عدة مثل الكذب أو المزاح أو تحمل المسؤولية وغيرها الكثير.
نظرية بولبي: علاقة الطفل بوالديْه تتنبأ مستقبل علاقاته طيلة حياته
اقترح الطبيب والمحلل النفسي البريطاني جون بوبلي واحدة من أقدم نظريات التنمية الاجتماعية، والتي افترضت أنّ العلاقات المبكّرة مع الوالديْن تلعب دورًا رئيسيًا في نمو الطفل وتطوره، كما ولها الأثر الكبير على علاقاته الاجتماعية سواء مع العائلة أو الأصدقاء أو حتى علاقاته الحميمية، طوال حياته.
ويعرّف بولبي التعلق بأنه: “نزعة فردية داخلية لدى كل إنسان تجعله يميل لإقامة علاقة عاطفية حميمة مع الأشخاص الأكثر أهمية في حياته، تبدأ منذ لحظة الولادة وتستمر مدى الحياة”. ووفقًا لذلك فإنّ التعلق نزعة طبيعية توجد في كلّ فردٍ منا، تهدف للارتباط والقرب بأكثر الناس أهميةً في حياته.
يقودنا تعريف التعلّق هذا إلى مفهومٍ سيكولوجي آخر وهو “قلق الانفصال”، والذي يعرف بأنه: “القلق من خسارة أو ابتعاد الشخص الذي نحب والذي هو بالأساس مصدر التعلق.”
ويرى بولبي أنّ التعلق يتطور من خلال أربع مراحل رئيسية؛ فهناك مرحلة ما قبل التعلق، وهي المرحلة العمرية ما بين الولادة وحتى ستة أسابيع، حيث يكون الرضيع غير قادر على التمييز الاجتماعي، وتتميز هذه المرحلة بقلة الاستجابات الواضحة نحو الوالديْن أو أيْ شخص آخر، وبالتالي فإنّ الرضيع في هذه المرحلة يستجيب للعديد من المحفّزات بغض النظر عمن يقدمها.
ثمّ تأتي مرحلة تكوين التعلق، وتمتد من الأسبوع السادس وحتى الشهر الثامن من عمر الرضيع، إذ يكون فيها قادرًا على التمييز بين الأشخاص المألوفين له، ويستجيب فيها لأمه بشكلٍ مختلف عن استجاباته للأشخاص الآخرين بما فيهم الأب.
يتبع ذلك مرحلة التعلق الواضح، وتأتي ما بين الشهر الثامن والسنتين، ويسعى فيها الطفل إلى الارتباط وطلب القرب الدائم من الأم، ويظهر لديه قلق الانفصال عنها بشكلٍ واضح وجليّ، فيبكي ويصرخ عند مغادرتها للمكان الذي هو فيه، مما يشير بوضوح إلى التطور الانفعالي والعاطفي لديه، وأثر ذلك في التطور المعرفي والإدراكي. كما يظهر القلق لدى الطفل في هذه المرحلة من الأشخاص غير المألوفين له أو ما يسمى في علم النفس بالقلق من الغرباء.
أخيرًا تأتي مرحلة تشكيل العلاقات التبادلية، والتي تظهر في نهاية السنة الثانية من عمر الطفل، ويحدث فيها تطور سريع في الجوانب المعرفية والإدراكية واللغوية وقدرة الطفل على التفاعل مع الآخرين، وفهم العوامل والأسباب وراء حضور أمه وغيابها عنه.
وبناءً على المراحلة الأربع تلك، فقد صنف علماء النفس بعد بولبي التعلق إلى أربعة أنواع مختلفة، بناءً على استجابات الأم لأطفالها وطريقتها في الاهتمام والحماية والمساعدة.
يكون الطفل في التعلقّ الآمن أكثر ثقة بالنفس وأقل قلقًا في حال غياب أمه عنه، إلى جانب امتلاكه طلاقة حوارية ومهارات في التفاعل والقبول الاجتماعي، واستقلالية وسيطرة أكثر على موقف التفاعل. وعلى الصعيد الآخر فثمة التعلق المتجنب الذي يُظهر فيه الطفل إهمالًا لأمه وتجنبًا عند انفصالها عنه، بالإضافة إلى عدم إظهار السرور عند عودتها.
أما في التعلق المتحيّر، فيظهر فيه الطفل سلوكيات وتصرفات متناقضة تجاه الأم، ما بين الرغبة الشديدة بالالتصاق بها أو الابتعاد عنها دون مبالاة، والرضا بالغرباء. كما يتصف الأطفال الذين يطوّرون هذا النوع من التعلق بعدم رغبتهم بالتعبير والحوار مع الأمّ أو الوالديْن بشكلٍ عام، والإحساس بالراحة والاستقلال في الأماكن الغريبة.
فيما يتمثل التعلّق المقاوم في انشغال الطفل بالأم سواء في وجودها أو بعد مغادرتها، وإظهار الحزن والهلع بشكلٍ كبير عند مغادرتها، وتجنب الآخرين في وجودها أو في عدم وجودها، ثم الالتصاق القوي بها عند عودتها.
الأهم من ذلك كله، فينظر بولبي إلى أنّ التعلق عبارة عن نظام “تحكّم” متقدم يتطور خلال السنة الأولى من عمر الطفل، وتبقى آثاره لاحقًا مع تقدّم العمر. أيّ أنّ إحساس الطفل الدائم بحاجته لأمه واعتماده عليها، تتطوّر مع الزمن حتى تصبح بعد البلوغ حاجةً ملحّة ومستمرّة للتعلّق بشخصٍ ما والإحساس بالقلق المُبهم وعدم الراحة من الترك والوحدة، ونتيجة لذلك فإنّ طبيعة العلاقة بين الطفل وأمه أو والديْه لا تقتصر فقط على سنوات الطفولة الأولى وتنتهي بمجرّد بلوغه أو استقلاليته، وإنما سيبقى أثرها ممتدًا طوال حياته مؤثرًا على علاقاته الأخرى وطريقة تعامله ونظرته لها.